أدلى عضو المكتب السياسي لحزب الأصالة والمعاصرة، محمد المعزوز، بدلوه في السجال الذي دار أخيرا بين قياديين من حزب "الجرار"، وهما عبد اللطيف وهبي، وسامر أبو القاسم، فالأول كتب يُشَرح جسد الحزب الذي وصفه بالمختنق، قبل أن يرميه الثاني بأنه مجرد "قيادي متحذلق". وفيما يلي نص مقال محمد المعزوز كما ورد إلى جريدة هسبريس: سألني صديق يوما لماذا لا تجيب دائماً على الكتابات التي تعارضك أو تهاجمك، فقلت له: لأن الكتابة ألم كالولادة، لا يتجشمها إلا العالمون، وهم من يستحق الرد المباشر؛ أما الذين يستحقون الرد بالإشارة، وهم من الكتبة فقط، بعيدون عن العلم والتخصص، ويحسن أن تقلب أقوالهم باللمح والتجاوز، ولا تخوض في أقوالهم جادا، لأنهم لا يفهمونك ولا يحسنون غير التهافت على التقاط الطوب ورميك به كيفما اتفق. هناك من يكتب وهو يتألم ويشهد احتراقا متجددا، وهناك من يظن أنه يكتب، ولكنه لا يكتب شيئا.. يطوع الكلمات المبتذلة والجمل المهدورة بدون علم وتبين بالموضوع الذي يخوض فيه. وغالبا ما يكون هذا الصنف الثاني من "الكدائين" و"الشطارين"، يتكسبون بجثث الكلمات والعبارات، ليتكلموا بما يريد أن يتكلم به أولياء نعمتهم. ولذلك قلت له إني أجيب، دائماً، دعوة الداعي العارف الذي يتوهج في صدق ما يكتب، فيكون رده المتألم فرصة للارتقاء بالأفكار ودفعا بالمنغلق فيها إلى الوضوح والإثمار. وحيث إن المناسبة هنا هي ما له علاقة بالمتكلمة في السياسية، إما إبان المؤتمرات السياسية أو الانشقاقات أو الخلافات أو غيرها؛ ونحن نشهد هذه السنة بعضا منها أو ما يشبهها، ارتأيت أن أتحدث بإيجاز عن هؤلاء، وعن نقيضهم، الذين أطلق عليهم تسمية "كتاب الشهادة" (écrivains de témoignage). المتكلمة في السياسة: ليست هذه الشرذمة طارئة على حياتنا السياسية المغربية فقط، بل هي حالة شائعة تاريخيا في كل المجتمعات السياسية؛ تنتحل صفة الدفاع عن وحدة الصف وعن الظرفيات الدقيقة التي تعيشها الأحزاب المتسلطة عليها، فتنبري بعدوانية إلى الرد على المخالفين والمنتقدين، إما بطلب ممن هو قادر على الإغداق عليها، تنتظر رضاه وهباته، وإما بالبحث عن الاعتراف بها وتودد "الأب التنظيمي" "père de l'organisation "، انسجاما مع نزعتها في التكسب والتموقع الريعي من الداخل أو على الهامش. كتب لويز التوسير (Louis Althusser)، وهو يتحدث عن هؤلاء الذين نصبوا أنفسهم متكلمة في السياسة في الحزب الشيوعي الفرنسي، وهم يردون عليه بوقاحة لمجرد أنه كتب بيانا ينتقد فيه أداء الحزب، وكان من قيادييه، أن هؤلاء أشبه بالمرض المزمن في التنظيمات الحزبية؛ لا يتركون الحزب ينمو نموه الطبيعي بانبناء أفكاره وتجدده عبر جيل ناقد لا يقدس الأفكار المحنطة والزعامات المنفردة الواهبة للصور (يعني بها الواهبة للمراكز الحزبية والعطايا)- انظر مقالته الشهيرة: ces gardiens médiocre de la temple. وذكر التوسير أن من صفات هؤلاء المتكلمة تصيدهم للعبارات الميتة، مثل "الالتزام بالديمقراطية المركزية، ووجوب انحصار النقاش الحزبي داخل الهياكل الداخلية للحزب فقط". لقد اعتبر هذه اللازمة المشروخة هروبا من مواجهة الذات المستفتية لمشروعيتها وتواؤمها التاريخي مع المجتمع الذي أوكلت إليه بعض شرائحه مهمة تمثيلها والدفاع عن مصالحها؛ وبذلك كرر كلمته التي لازالت تتصادى مع الأفكار الحزبية المتنورة بقوله: "ليس هناك نقاش داخلي سري داخل الحزب الحي المرتبط بالمجتمع، كلما تعلق الأمر بالتجاذب الفكري والكشف عن الاختلالات". إن الذي يقوم به هؤلاء المتكلمة، على حد تعبيره، هو عمل شبيه بعمل الكنيسة القاضي برجم كاشفي أسرارها ونقل تناقضاتها الداخلية إلى الخارج. ولم يتورع أخيرا عن التأكيد أن مقاصد هؤلاء في النهاية هي الارتزاق والتقاط الفتات، وهم في ذلك يحسنون شهر خناجر من ورق، يوهمون بها بأنهم مدافعون عن أحزابهم؛ وشتان بين ما يظهرون وما يضمرون. لم تسلم أحزابنا من هذه الأمراض المزمنة، ابتداء من ظروف انشقاق الاتحاد الوطني للقوات الشعبية عن حزب الاستقلال، وكيف ظهر المتكلمون في السياسة أو "الكداؤون"؛ أي المرتزقة، وهم يبحثون عن العبارات الميتة ليؤججوا "الأغاليط" بالتسفيه المفبرك للمقاومة، وضرب الاتحاد المغربي للشغل آنذاك، والتشويش على حكومة عبد الله إبراهيم والإطاحة بها. كما لم يسلم الاتحاد الوطني للقوات الشعبية نفسه من خطر هؤلاء المتكلمين المدافعين نفاقا عن وحدة الحزب، إذ نجحوا في خلق صراع مرير بين المهدي بنبركة والمحجوب الصديق؛ لما رفض المهدي أن يتزعم المحجوب الاتحاد المغربي للشغل بصفة لا ديمقراطية، بإقصاء الكاتب العام المنتخب الطيب بوعزة، وذلك على مسمع ومرأى باقي زعماء الاتحاد الذين برروا سكوتهم عن هذا الإقصاء بحجة الحفاظ على وحدة الطبقة العاملة.. ولما عبر المهدي عن رفضه هذه النازلة انبرى له المتكلمون واتهموه بكل النعوت، فتم إقصاؤه واضطر إلى مغادرة المغرب، ولم يعد إليه إلا يوم 15 مايو 1962 ليحضر المؤتمر الثاني للاتحاد الوطني، غريبا مهمشا. وقد عاود المتكلمون في السياسة هجومهم على المهدي، واصفين إياه بأنه يحاول التموقع والتشويش على حزب الاتحاد الفتي وجماهيريته؛ لذلك رددوا أنه لا يليق بالقيادة، فتم على حد تعبير الجابري حجب التقرير النقدي الذي أرسله ليكون من بين وثائق المؤتمر، ثم غيبوه نهائيا. هو المرض المزمن نفسه يتكرر في تنظيماتنا الحزبية بوجود هؤلاء المتكلمين في السياسة، الحاملين لشعار صون النقاش الداخلي وعدم التعبير عنه خارجا، ولو تعلق الأمر بتصحيح مسار سياسي خاطئ لا ينفع إلا نقله إلى النقاش العلني. ولئن كان هؤلاء كأرضة الشتاء، بتعبير التوسير، التي لا تنشط إلا في البرك الآسنة الدافئة، فإن أثرهم في الإيذاء يظل مكشوفا ومحدودا لأنهم لا يكتبون بألم الولادة وحرقة الانتصار إلى وهج الفكرة، فضلا عن أنهم جهلة بعلم السياسة، وإنما يكتبون ليغمزوا واهبي الصور للالتفات إليهم، مبدين ظاهريا تعففا بذيئا يخفي أبشع سموم الحقد والقتل. ما أشبه البارحة باليوم. لقد أعلن هؤلاء المتكلمة في السياسة في مستهل السنة الجديدة (2016) أنهم عائدون وأنهم "بالمرصاد للمتحاذقين". وبالمناسبة أقول للصديق الذي سألني أعلاه سأكتب عن المتكلمة في السياسة وسأكشف المستور، وإن عادوا عدنا، ولكن هذه المرة بالمباشر وبالحقائق الصادمة التي لا تبقي ولا تذر. كتاب الشهادة: إن كتاب الشهادة هم من يكتبون عن أحزابهم بألم ووجع، كلما تعلق الأمر بانحراف ملحوظ، بعد إبداء الملاحظات والإلحاح على التصويب وخلق المناظرات الداخلية العادلة مع المختلفين. وكلما ترسخ الانحراف، وتفشت أهواء الغنيمة، وأطبق الصمت وخيمت عقلية "الهموز"، واستسلم المعتدلون لأمر الواقع، سهل بروز اللوبي المهيمن واستعظم، وأطبق على كل شيء، فكريا وتنظيميا. ومن ثمة، ستجد النخبة النيرة التي وهبت تاريخها وأسماءها، وآمنت بالمشروع حتى النخاع، إما مضطرة أمام غبن الانحراف إلى الانسحاب بصمت، وإما إلى ممارسة الشهادة (témoignage) عبر الكتابة لإحداث الذوي وخلخلة الرتابة. إن كتابة الشهادة اختراق مزلزل لسوء النوايا، لأنها قائمة على الكشف ودوس القداسات، وعلى البناء العادل لحزب المؤسسات، وليس العكس كما تعتقد الطوابير المقنعة والمكشوفة، واهمة، التي لها مصلحة في ممارسة السخرة على أعتاب اللوبي النافذ . إن كتاب الشهادة في السياسة هم حماة المشروع الحزبي، سواء أكان يمينيا أم يساريا؛ لأنهم ليسوا "كدائين" ولا متكسبين ولا متزلفين، يكتبون من أجل الحقيقة، ومن أجل أن تكون أحزابهم فعلا أحزابا متفاعلة مع التاريخ والمجتمع، لها الجرأة على تقديم نقدها الذاتي إن أخطأت، ولها الجرأة على حل نفسها إن هي فشلت، ولم يعد المجتمع بحاجة إليها . إن حصول هذا الوعي الحزبي الوظيفي والتاريخي لا يتم أبدا بالتهريب الداخلي المنغلق للأفكار، استنادا إلى الأطروحات الدكتاتورية القاضية بالانضباط المغلوط للنقاش الداخلي المتكتم فقط، وإنما بإشراك المواطنين في القضايا الفكرية والخلافية لتحقيق رجع الصدى، وبناء المرجعيات الحزبية، وفق ما يعبر عنه المجتمع، بدون مواربة أو اختفاء "متحاذق" في سراديب الخداع وطمس الحقائق.