التلفزة: أداة بناءٍ وصيانة وتحسين وعي المُواطن أم العكس. لايمكن تناول المنتوج التلفزيوني من البرامج بالتحليل والنقد الرصين والدال دون استحضار المعطى التالي: يحظى التلفزيون كأداة وكمؤسسة إعلامية رسمية (وهي كذلك بالمعنى السياسي والسوسيولوجي عمومية كانت أو خصوصية) بامتياز هائل ثمين وخطير: إنه امتياز دخول الملايين من بيوت المواطنين على مدار اليوم. لاي عني هذا الامتياز شيئا غير الإمكانية المؤكدة للتأثير على الحياة العامة والخاصة للمواطنين. يتم هذا التأثير من خلال كل مواده وبرامجه، الدرامية والاخبارية منها على وجه الخصوص. هكذا أوافق تماما على أن التلفزة تنهض، إلى جانب الأسرة والمؤسسات التعليمية وهيئات التأطير الثقافي والرياضي والفني والسياسي وغيرها، بمهمة التنشئة الإجتماعية. إلا أنني أرى أن التلفزة ربما كانت الأكثر قدرة على التأثير من كل هذه المؤسسات نظرا لما تتمتع به من جاذبية بصرية ومؤثرات تقنية صوتية وجمالية مغرية بلاستيكية وبشرية. يعني ذلك بالنسبة لي أن التلفزة، وهذه حقيقة سوسيو-إعلامية أيضا، من أنجع الأدوات في يد الدولة لتحقيق الأساس (أو للابتعاد عنه) من قيامها والغايات التي تسعى لبلوغها وهي المتمثلة في حماية الحريات والممتكلمات، ورعاية وصيانة الحقوق والمصالح، وإشاعة الاستقرار والثقة والسلام والمواطنة بين الأفراد والجماعات، وذلك من خلال الثلاثية الكلاسيكية والمعروفة عن وظائف التلفزيون وهي الإخبار والترفيه والتثقيف. بين النقد والتبرير: مسألة المعايير والنجاعة وتمثُّل الغايات. بين ندرة وقلة البرامج الثقافية وبرامج الحوار المباشر من جهة، وقلة وضعف السلسلات والمسلسلات والأفلام التلفزيونية من جهة ثانية، يتهم النقاد والصحافيون والمهتمون من المواطنين، من مختلف الأعمار والفئات الاجتماعية، يتهمون الدراما التلفزيونية المغربية بالتركيز على المُنمّط المُستنسخ من « قارعة الرصيف »، أي المنقول من اليومي المبتذل والمألوف بل الإعتيادي، بغير جمالية ولا تمثُّل لمشروع المجتمع المُستقبلي المتنوِّر في برمجة التلفزة المغربية. يصل الأمر لدى بعض النقاد والدارسين، بل ولدى مسؤوؤلين ومنتخبين برلمانيين، حد اتهام التلفزة الوطنية بمعاكسة مسيرة البناء التحديثي الذي تتبناه الدولة منذ أكثر من عقد ونصف من الزمن. فهل من الممكن تصور « إنفلات أمني » بهذه الأهمية من مؤسسات دولة ظهرت دائما بمظر الممسك بناصية الرأي العام و« تطويعه »؟ مقابل ذلك تُسجِّل « أرقام » هيئة قياس المتابعة إقبالا معقولا عادة وقويا جدا أحيانا كثيرة، لهذه الأعمال « المرفوضة » من طرف عموم الجماهير المشاهدة للتلفزة الوطنية بكل مكوناتها سواء تلك التابعة للشركة الوطنية للاذاعة والتلفزة او تلك التي تنتجها وتبثها قناتا ميدي1 تيفي و2M لكن: علينا أن نسجل بأن كل التلفزة المغربية في تنوع تسييرها وتدبيرها لا تخضع للقوانين الزطنية فقط، بل تخضع لقوانين دفاتر التحملات وعروض « صفقات » المشاريع التي تنظمها القوانين التي أرستها الحكومة الحالية والتي أعلنت أنها سنتها للرفع من مستوى التلفزة الوطنية وملائمتها أكثر مع ثقافة البلد و « خصوصياته ». بين التطور « الكمي » والنقد « اللاذع » ما عمق الإشكال في انتظار البنيوي؟ بين النقد اللاذع سياسيا و »دعائيا » من جهة، وبين الإنطباعية التي غالبا ما لا تكون مُبرِّرَةً لما تدّعِيه من جهة ثانية، وبين الإقبال الكبير للجماهير على هذه الدراما حسب دراسات قياس المتابعة من جهة ثالثة على الرغم من كونها دراما « مُدانةٌ » أخلاقيا بالخصوص وجماليّا بالمعنى البنيوي نادرا، بين هذا وذاك إذن يُطرح إشكال المَعايير: معايير قبول المشاريع مكتوبة على الورق وإعادة قبول مثيلاتها من جهة، ومعايير الحكم وإعادة الحكم عليها مبثوثة على الشاشة، في بلد يمُرُّ بمرحلة انتقالية صعبة وإن بدت الدولة مُمْسكة بحزم وبذكاء وخبرة بناصية التغيير الوئيد الرصين والمُكَلِّفِ على أكثر من صعيد في نفس الآن. ينبغي، وعلى الرغم من شدة الخلاف حول الجودة ومعقولية الكم الإعتراف بأن الدراما التلفزيونية الوطنية قطعت أشواطا كبرى من التطور إنتاجا وتقنيات وبثا كما على وجه الخصوص إذا أخذنا بعين الإعتبار انتقال البث من ساعات معدودات كما كان منذ أكثر من عقدين وينيف إلى الاستمرارية دون انقطاع على مدار اليوم؟ لا نرى أكثر من الأسئلة نجاعة في تجنب التبرير والمنمط من الرفض: لماذا يقف النقد التلفزي (هل هناك نقد تلفزي مستقل وعميق بأدواته خارج النقد الجمالي البصري؟) في مستوى الانطباعية، بل وينحدر غالبا إلى مستوى الأحكام الذاتية غير المُبرَّرة ولا المبنية على تفكيك رصين للعمل ذاته. لا يتم هذا التفكيك للعمل الفني إلا في بنياته البصرية وفي « ترصيصها » لمضامين يدَّعِي هذا النقد أنها رديئة. ما الفرق بين المتابعة الصحافية الرصينة والنقد المتمكن من نفس وأدوات جمالية؟ هل يكفي الحديث تبريرا عن ظروف العمل وجشع المنتجين الذين وهبتهم الترتيبات القانونية لعروض الاثمان فرصة حياتهم لسيادة مستوى الرصيف في هذه الاعمال؟ ما المسلك نحو جودة تزاوج بين وُلوجية الذوق العام المُستسلم لابتذالية اليومي الُمعتاد حد القرف واستساغة « لاكريموجين » المجاني، وبين نُخبوية الإبداع المُعيد لصياغة الواقع في محراب المُدهش الفاتن ببنيته التي لا تخظر على بال ليس بجدتها فحسب، بل وبانسجامها وتناغم مكوناتها وشجاعتها في استبدال السهل والجاهز والمألوف، بالتجريبي والمُسْتكشِف لآفاق لم تُخْتبَر ولم تُجرَّبُ بمنطق المُتكلِّس؟ هل يتوفر هذا المسلك في تدخل الدولة من خلال رصِّ وصيانة وحماية معايير اشتغال لجان اختيار الأعمال (أمام مدّ احتلالها بمعايير الأكثر حضور شعبوي وبالأكثر تبعية لهيئات تُقرر وبالأكثر رياءً وإثارة للانتباه في الساحة ولو بالصخب الفارغ وإثارات الرصيف) أم هو متوفر في رقابةٌ ديكتاتوريّةٌ لحمايةِ بناء أمة وإنقاذ أجيال، تعاني ما تعانيه سلفا، من براثن نماذج صفيقة فارغة بل خطيرة النمذجة والمثال بانتهازيتها وبخوائها وعدم قدرتها على تقمص قيم المنافسة الكونية وصفائها. يرى البعض أن الحل في هذا السياق في هذا الوضع وفي هذه الحالة يكمن في تبني العبارة التالية: لتذهب ديموقراطية الضعف المُقوْلِبة للخاص من المصالح ولمجازاة الانبطاح والسُخرة، أو لاسكات الشتم والقذف والسبّ إلى الجحيم.