حلت قبل أسبوعين تقريبا الذكرى الأولى لغياب الفنان محمد بسطاوي، وقد اقتربت من هذا الممثل الفذ خلال مرحلة الإعداد لتصوير فيلم "حب وغضب"، الذي أخرجه محمد زين الدين، وكنت شاركت في كتابة السيناريو. خلال تشخيصه دوره في الفيلم المشار إليه كان بسطاوي ما يزال يتلذذ بطعم تكريمه في المهرجان الدولي للفيلم بمراكش.. وقد قطعت رنات الهاتف مرات عديدة حديثنا، إذ كان مواطنون وأصدقاء يعبرون له عن فرحهم بتكريمه، وبأنه يستحق أكثر من تكريم. وكم علق بين اتصال وآخر: "أقرأ هذه الاتصالات على أنها تقدير لعملي وإخلاصي في التشخيص، وتجعلني أشعر ببعض الامتعاض من قبول أدوار في أعمال ضعيفة، لكن الناس لا يفهمون أن الحياة ومطالبها تتطلب قبول ما لا يجب أن يقبل"، وفق تعبيره. تعرضت لانتقادات على صفحات إحدى الجرائد المغربية، قالت إنك قبلت المشاركة في "سيت كوم" ضعيف، لا يناسب قدراتك وموهبتك. تعرف أن الممثلين الكبار أنفسهم يؤدون أدوارا لا تناسب حجمهم، فالممثل إنسان وله أسرة، وعليه أن يعنى بشؤون الحياة ومتطلباتها..كنت مقتنعا بتواضع هذا "السيت كوم" وضعفه لكنني قبلت العمل..هل يحرَّم علي العمل بينما لا يقدم من الأعمال إلا الرديء؟ الضعف والرداءة وتواضع الأعمال لا يتحملها المُشَخِّص، بل كل أفراد السلسلة السابقة عليه...لا يكمن المشكل في قبول الممثل أدوارا قد لا تناسبه أو دون مستواه، بل الأمر يعود إلى كتابة القصة، والسيناريو، والحوار، واللجان التي تقبل تلك الأعمال لعرضها على التلفزيون... قمت بالاحتجاج على ما كتبه ذلك الصحافي، ووعدت الجريدة بألا تعود إلى "النقد" السهل والمجاني، فكم من صحافي يكتب عن السينما والتشخيص والأفلام وهو لا يفقه الشيء الكثير في هذا المجال. لعل السرعة وعدم التهييء بما يكفي هو ما يميز الأعمال التي تقدم خلال شهر رمضان، ويسمها بعدم النضج في الغالب. شهر رمضان هو موسم العمل بالنسبة للكثير من الممثلين الذين قد لا يشتغلون طوال السنة. هو مناسبة تشبه موسم الحصاد، وتخزين مؤونة فترة من السنة إن لم تكن السنة كلها..لذلك يقبل الممثلون الحقيقيون تشخيص عدة أعمال في هذا الشهر الكريم. فيم أفادت مرحلة تخصصك في المسرح (مسرح اليوم، ومسرح الشمس) تشخيصك في السينما؟ المسرح رائع، يصقل الموهبة، ويجعلك أمام عدة تحديات: حفظ النص، والتمكن من انفعالات الكلمات ودلالاتها، وحرية الحركة على امتداد الركح، ومواجهة الجمهور؛ بينما السينما تضع أمامك تحديات أخرى، وهي الكاميرا، والأضواء، و"الكادراج"... سمعت أنك قلما تحترم توجيهات المخرجين.. لا يتعلق الأمر بالاحترام، بل تشعر أحيانا بأن الموقف يتطلب منك حركة مغايرة، أو صوتا مختلفا، وتفعل ما يبدو لك صوابا، فيوافق المخرج.. معظم المخرجين يثقون في أدائي، ولا يرفضون اجتهاداتي. هنا أتذكر ما قاله الممثل الكبير مارسيلو ماستروياني للمخرج الإيطالي الذي قال له: "أنا الذي أعين لك لحظة الانطلاق"، إذ رد عليه قائلا: "وأنا الذي أحدد لحظة التوقف".. للممثل كلمته في الدور الذي يؤديه، وذلك حين يتشرب الدور، ويحيط بحيثياته، ويدرك غاياته في سياق الفيلم برمته.. مُعَبر هذا التحديد لما ينبغي أن يتقنه الممثل.. تعرف أن الممثل هو الذي يتشرب الدور، ويضيف له من روحه، بل ويطوره حين يستوعبه تمام الاستيعاب. وحين أتحدث عمن أسميه "التْمَاثْلي"، فأنا أقصد الممثلين غير الحقيقيين، الذين تعرف أنهم يمثلون، إذ لا يؤدون الدور بشكل عفوي، يحاكي الحياة اليومية بطقوسها العادية. انظر إلى "تْمَاثْلِي" مثل (ألان دولون)، فلولا علاقته العاطفية مع المخرج الإيطالي المعروف فيسكونتي لما ولج عالم السينما، ولما أصبح معروفا..ولوجه عالم السينما يعود إلى جماله، وسحر جسده، ولا يعود إلى موهبة في الأداء. لكن أداء ألان دولون في أفلام مثل "Le Guépard" و"Flic Story" و"Le clan des siciliens"، و"Plein soleil"، و"La veuve Couderc" لجورج سيمونون، وهي روايات لأدباء هم على التوالي "توماس يدي لامبيدوسا"، و"روجي بورنيش"، و"أوجست لو بروتون"، و"باتريسيا هايسميث"، كان رائعا.. في رأيي هو مجرد "تماثلي"، ولولا روعة السيناريوهات التي اقتبست عن الروايات التي قلت عنها إنها لكتاب كبار لما "أفلح" دولون في التشخيص، ولولا علاقاته العاطفية السابقة لما وجد موطئ قدم في عالم التشخيص.. لو عدنا إلى السينما المغربية، ما ملاحظاتك عليها؟ على العموم، هناك أمور عدة يجب إعادة النظر فيها: هناك مخرجون يجب أن يبتعدوا عن الميدان، أو يعودوا إلى الدراسة إن كانوا قد درسوا من قبل، أو ينصرفوا إلى الدراسة إن لم يفعلوا من قبل؛ وهناك ممثلون فرضهم مخرجون لعلاقات خاصة، وهناك تقنيون التحقوا بالميدان للأسباب ذاتها. ألا ترى أن دور البدوي قد استهلك كثيرا من طاقاتك، حتى كاد يصبح وبالا عليك؟ نسبيا، ولكن حياتنا تغلب عليها البداوة، فسلوكنا بدوي ولو أن لباسنا أوربي..هل ترى كم ننحني أمام الأجانب؟..رغم ذلك فقد شخصت الكثير من الحالات الاجتماعية، منها العربيد، والمحقق، وغير ذلك كثير.