يستقبل المغاربة سنة جديدة ،ستشهد انتخابات تشريعية ،وحكومة جديدة ، ونقاشات عمومية، واحتجاجات ووقفات، مختلفة الألوان والأحجام، وتوافقات على غرار مثيلتها ،وتواطؤات في السر وفي العلن ،وخطابات للتطمين والتهدئة ،والركون الى لازمة خطاب الاستثناء المغربي و خطاب نعمة الاستقرار ،وهلم جرا. لاشئ سيتغير،الا ظهور بعض الوجوه المنتقاة بعناية، تمثل "كومبارسا"سياسيا وظيفته الطاعة و انتظار الأوامر والإشارات ليردد عن ظهر قلب ما طلب منه بغباء. وهذه عادة أصبحت من صميم الواقع السياسي ،أو الواقع السياسي المكرور الذي انخرطت فيه شرائح عريضة من المجتمع فأصبح واقعها. هل هذا يعني،أن الشخصية الغالبة أصبحت محكومة بثقافة انتهاز الفرص " والهموز" مقابل أي ثمن؟ الا تعتبر سمة التكرار السياسي،أو ما تطلق عليه الانثربولوجية الحديثة بالدورة السياسية المثقوبة، خاصية ثقافية توثق العلاقة التاريخية مابين الدولة والمجتمع؟ لايهم ،ها هنا،الجواب عن هذه الأسئلة ،بقدر مايهم الاستئناس بها ،ونحن نستحضر أو نستشرف الممكن السياسي في بلادنا. لأن الاستئناس بها هو استضاءة خلفية لعمق الوقائع والعلاقات الشخصية والمؤسساتية التي تضبط من الداخل الحقل السياسي المغربي. ومع ذلك، لابد من القول إن العادة السياسية،في بلادنا، القائمة على تكرار الأساليب والآليات والمضامين نفسها، هي اليوم ،مهددة بإفراز نتائج عكسية. لأنها،أولا، بلغت حتميا درجة هشاشة قاعدتها التاريخية أمام النموذج العالمي الجديد الذي يلزم الدول بالانسياب الضروري لمؤسساتها ومجتمعاتها.ولأنها، ثانيا،أفرزت نخبا سياسية معوقة انتعشت من داخل العادة السياسية الريعية واكتفت بالاحتماء بالتواطؤات الهشة، بدون اصطفافات مرجعية ومبدئية ،والاستقواء بالولاءات الشخصية ،والتفنن في تنفيذ الأوامرباستعمال المؤسسات الدستورية كالبرلمان والمؤسسات المدنية والحزبية. فأصبحت النتيجة ،انقطاع السياسة عن المجتمع وبروز كتلتين متقابلتين. كتلة السياسي غير الشرعي ،لأنه إما قد قبل الانخراط في لعبة المؤسسات بما يخدم مصلحة لوبيات الدولة ،وليس مصلحة الدولة الحامية0ومن ثمة أصبح غير شرعي، وإما قد ولد بإرادة أحادية ،غير ديمقراطية،من الدولة. ثم كتلة المجتمع المتحرك بدون وسيط سياسي منبثق من صلبه وإرادته، وهو معرض للاختراقات وللانزلاقات ،نظرا لغياب الوسيط المؤطر. بهذا التقابل،أو بهذه الفجوة ،ستجد الدولة نفسها ، ان ظلت حبيسة مرجعيتها التقليدية وانغلاقها داخل نخبتها الريعية، وهي تواجه زيف الحقائق وأضاليل وسطائها الذين لا يشتغلون لفائدة مصالحها،وإنما لفائدة بناء لوبي متنفذ ينشد خلاصه الذاتي ، ستجد نفسها،منعزلة داخل وهم القوة المباشرة وغير المباشرة التي تملكها،باعتبارها وسائط للردع والترويض،اعتقادا منها أن علاقاتها الاحتوائية بالمجتمع أصبحت محسومة بفضل وسائلها التاريخية والرمزية . ومن نتائج هذه العزلة، وبدون وعي من الدولة، حدوث التآكل التدريجي لثقة المجتمع فيها. وقد يتحول هذا التآكل الى انهيار شامل وسريع كلما استهترت بالديمقراطية من حيث هي قضية و مصير مجتمع ، لا باعتبارها موضوعا للتوظيف والاستهلاك. قد تبدو ثقة المجتمع في الدولة ثابتة. وهذا ما قد يحتج به البعض ضد ماذكر أعلاه. ولكن،الذي يغفله الرأي المضاد، أن مجتمع اليوم ليس هو بمجتمع الأمس. و صلب هذا التحول تقني / معرفي بالأساس، أداته وسائل الاتصال الرقمية عبر وسائط اليوتوب والفايسبوك وتويتر والواتساب...بحيث أصبحت وظيفتها إسقاط أقنعة الدول وكشف عوراتها. وعليه، لم تعد الثوابت تلعب دور المتاريس الواقية للدولة المحتمية بها أمام الانكشاف المستمر للحقائق والأسرار، التي أصبحت تحدث صدمات بسيكو-اجتماعية للأفراد تؤدي الى إرباك الثقة وتهديد التوازنات الاجتماعية وتحفيز الأفكار المنغلقة والاقصائية بمختلف مصادرها على الانتعاش والتأثير. إذن ، يعتبر التجديد الداخلي للدولة رهانا استراتيجيا، يستوجب القطع مع الأساليب التقليدية في الحكم وأخطاء تدبير المجتمع والسياسة باسترضاءات وحسابات سطحانية لا صلة لها بجوهر الديمقراطية والحرية كما تطالب بهما مجتمعات اليوم، إذ أصبحت المجتمعات الانسانية ، جميعها ،عبارة عن مجتمع كوني صغير منكشف للجميع. لبلوغ هدف تجديد الدولة، واستيعابها الموضوعي لسرعة التغيرات السياسية والاجتماعية التي يشهدها العالم، ثم الانخراط فيها إيجاباً ،وحفاظها على مقوماتها وقوتها، لامناص لها من الاحتماء بأصول الدولة الديمقراطية وشروعها الفوري في رفع يدها الخفية في الضبط السلبي للمجتمع والسياسية، وهي تجربة لم يسبق لها أن نتجت غير الفشل. ان التباعد الإيجابي للدولة حيال المجتمع والسياسة، سيمكن المجتمع ذاته بأحزابه وهيآته المدنية من بناء نفسه اعتمادا على ذكاءاته المعطلة أو الإتكالية0 كما يمكنه من تحرير طاقاته ومبادراته والاجتهاد في مناقشة قضاياه المجتمعية والحقوقية والسياسية من غير توظيف أو إملاءات . إن تحصين المجتمع ، يبدأ بإشراكه في ببناء نموذجه الديمقراطي، واحترام اختياراته بدون الالتفاف عليها وتوظيفها عكس إرادته. ويمر، بتأكيد أواصر الثقة المتبادلة مابينه ومابين الدولة بما يؤدي الى بروز نخب سياسية متجددة عن طريق الاستحقاق الديمقراطي والاجتماعي . ويستمر،في خلق تعاقدات ،أولا، مابين مكوناته. وثانيا، مابينه وبين الدولة ،بما يضمن تأكيد الدولة الوطنية القوية ويرسخ مجتمعا ديمقراطيا ومنفتحا. هل ستكون السنة الجديدة، فرصة لتجديد الدولة لنفسها، ومناسبة لإطلاق دينامية اجتماعية و مجتمعية جديدة ، لا يد خفية للدولة فيها ؟ هل ستكون مؤتمرات الأحزاب التي ستنعقد خلالها ديمقراطية وشفافة ،لا أكباشا ولا راعيا فيها؟ هل ستكون الانتخابات التشريعية القادمة عادلة لاحسابات ضيقة للدولة فيها؟ هل ستكون 2016 فرصة للنخب المتنورة ذات المواقف لقول كلمتها، أو استمرارا للنخب المزورة في تعتيم ما تبقى من بريق الأمل وتفريج جيوب مقاومتها العمياء. أتمنى أن تكون 2016 معركة شرفاء هذا الوطن، من أجل الوطن لاغير. * أستاذ الأنتربولوجيا