سبتة ترفض مقترحا لحزب "فوكس" يستهدف المهاجرين والقاصرين    اتحاد طنجة لكرة القدم الشاطئية يتأهل إلى مرحلة البلاي أوف من البطولة الوطنية    فتح تحقيق في محاولة تصفية مدير مستشفى سانية الرمل تطوان    الإعلان عن اتفاق وقف إطلاق النار بين حزب الله وإسرائيل سيدخل حيز التنفيذ فجر الأربعاء    الأمن يحبط عملية بيع حيوانات وزواحف من بينها 13 أفعى من نوع كوبرا في الناظور ومراكش    العلمانية والإسلام.. هل ضرب وزير الأوقاف التوازن الذي لطالما كان ميزة استثنائية للمغرب    عصبة الأبطال.. الجيش الملكي يهزم الرجاء بعقر داره في افتتاح مباريات دور المجموعات    الملك محمد السادس يوجه رسالة إلى رئيس اللجنة المعنية بممارسة الشعب الفلسطيني لحقوقه غير القابلة للتصرف    إسرائيل توافق على وقف إطلاق النار في لبنان بدءا من يوم غدٍ الأربعاء    المغرب يستعد لإطلاق عملة رقمية وطنية لتعزيز الابتكار المالي وضمان الاستقرار الاقتصادي    لجنة الحماية الاجتماعية تجتمع بالرباط        تنفيذا للتعليمات الملكية السامية.. وفد من القوات المسلحة الملكية يزور حاملة الطائرات الأمريكية بساحل الحسيمة    بنسعيد: "تيك توك" توافق على فتح حوار بخصوص المحتوى مع المغرب        هيئة حقوقية تنادي بحماية النساء البائعات في الفضاءات العامة    وفاة أكبر رجل معمر في العالم عن 112 عاما    "نعطيو الكلمة للطفل" شعار احتفالية بوزان باليوم العالمي للطفل    الجنائية الدولية :نعم ثم نعم … ولكن! 1 القرار تتويج تاريخي ل15 سنة من الترافع القانوني الفلسطيني    لحظة ملكية دافئة في شوارع باريس    سعد لمجرد يصدر أغنيته الهندية الجديدة «هوما دول»        توقعات أحوال الطقس ليوم غد الأربعاء    دين الخزينة يبلغ 1.071,5 مليار درهم بارتفاع 7,2 في المائة    معاملات "الفوسفاط" 69 مليار درهم    المغرب جزء منها.. زعيم المعارضة بإسرائيل يعرض خطته لإنهاء الحرب في غزة ولبنان    الجزائر و "الريف المغربي" خطوة استفزازية أم تكتيك دفاعي؟    في حلقة اليوم من برنامج "مدارات" : عبد المجيد بن جلون : رائد الأدب القصصي والسيرة الروائية في الثقافة المغربية الحديثة    التوفيق: قلت لوزير الداخلية الفرنسي إننا "علمانيون" والمغرب دائما مع الاعتدال والحرية    نزاع بالمحطة الطرقية بابن جرير ينتهي باعتقال 6 أشخاص بينهم قاصر    الجديدة مهرجان دكالة في دورته 16 يحتفي بالثقافة الفرنسية    توهج مغربي في منافسة كأس محمد السادس الدولية للجيت سكي بأكادير    اللحوم المستوردة تُحدث تراجعا طفيفا على الأسعار    مسرح البدوي يواصل جولته بمسرحية "في انتظار القطار"    شيرين اللجمي تطلق أولى أغانيها باللهجة المغربية        الأمم المتحدة.. انتخاب هلال رئيسا للمؤتمر السادس لإنشاء منطقة خالية من الأسلحة النووية في الشرق الأوسط    برقية شكر من الملك محمد السادس إلى رئيس بنما على إثر قرار بلاده بخصوص القضية الوطنية الأولى للمملكة    القنيطرة.. تعزيز الخدمات الشرطية بإحداث قاعة للقيادة والتنسيق من الجيل الجديد (صور)    توقيف فرنسي من أصول جزائرية بمراكش لهذا السبب    اتحاد طنجة يكشف عن مداخيل مباراة "ديربي الشمال"    غوارديولا قبل مواجهة فينورد: "أنا لا أستسلم ولدي شعور أننا سنحقق نتيجة إيجابية"    مواجهة مغربية بين الرجاء والجيش الملكي في دور مجموعات دوري أبطال أفريقيا    حوار مع جني : لقاء !    المناظرة الوطنية الثانية للفنون التشكيلية والبصرية تبلور أهدافها    الدولار يرتفع بعد تعهد ترامب بفرض رسوم جمركية على المكسيك وكندا والصين    تزايد معدلات اكتئاب ما بعد الولادة بالولايات المتحدة خلال العقد الماضي    ملتقى النقل السياحي بمراكش نحو رؤية جديدة لتعزيز التنمية المستدامة والابتكار    إطلاق شراكة استراتيجية بين البريد بنك وGuichet.com    الرباط.. انطلاق الدورة الثالثة لمهرجان خيمة الثقافة الحسانية    منظمة الصحة: التعرض للضوضاء يصيب الإنسان بأمراض مزمنة    تدابير للتخلص من الرطوبة في السيارة خلال فصل الشتاء    الصحة العالمية: جدري القردة لا يزال يمثل حالة طوارئ صحية عامة        لَنْ أقْتَلِعَ حُنْجُرَتِي وَلَوْ لِلْغِناءْ !    اليونسكو: المغرب يتصدر العالم في حفظ القرآن الكريم    بوغطاط المغربي | تصريحات خطيرة لحميد المهداوي تضعه في صدام مباشر مع الشعب المغربي والملك والدين.. في إساءة وتطاول غير مسبوقين !!!    في تنظيم العلاقة بين الأغنياء والفقراء    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



"أحاديث" محرّفة تحرّض على التّطرّف والعدوان
نشر في هسبريس يوم 01 - 01 - 2016


"حديث" النّهي عن بداءة أهل الكتاب بالسلام (ج3)
في الجزء الثاني أوضحنا أوجه التعارض بين "حديث" سُهَيْلٍ بن أبي صالح عَنْ أَبِيهِ ذكوان عَنْ سيدنا أَبِى هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: « لاَ تَبْدَؤوا الْيَهُودَ وَلاَ النَّصَارَى بِالسَّلاَمِ، فَإِذَا لَقِيتُمْ أَحَدَهُمْ فِي طَرِيقٍ فَاضْطَرُّوهُ إِلَى أَضْيَقِهِ»، وبين كتاب الله الحكيم المحكم والسنة الصحيحة وسيرة النبي الأعظم.
ورغم أن ذلك كاف لإثبات بطلان "الحديث" المذكور، فإننا وعدنا بعرض علل إضافية لإقناع المتردّدين وإلجام المتمرّدين.
العلة الثالثة: مخالفة عمل الصحابة
من علامات ضعف الحديث وشذوذه عند الفقهاء أن يكون عمل الصحابة على خلافه، ولو كان مرويا بإسناد متصل يسنده العدل الثقة عن مثله إلى رسول الله.
ومن هنا رفض فقهاء المذاهب عشرات الأحاديث المخرّجة في الصحيحين وغيرهما بحجة أنها مخالفة لما كان عليه العمل أيام الصحابة، بل ضعفوا ما رأوه مخالفا لعمل التابعين وأتباعهم، بل ردّ المالكية أحاديث يرويها الشيخان بسبب معارضتها لعمل أهل المدينة.
وقد عرفنا أن "حديث" سهيل يعارض ما كان عليه عمل الصحابة زمن النبوة، فهل تغيرّ سلوك الأصحاب المرضيين بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم؟
الجواب: كلا ورب الكعبة.
فلم يفت أحد من الصحابة بحظر السلام على غير المسلمين من الأنام، ولا بالتضييق عليهم في الأزقة والزحام، ولا فعل ذلك أحد من الأصحاب العظام.
وفي المقابل، نقلت مصادرنا السّنّية أن الصحابة الذين تشربوا أخلاق النبوة كانوا يسلمون على غيرهم من أهل الملل والنحل، وهذه بعض النماذج:
الأنموذج الأول: جاء في كِتَاب خَالِد بن الْوَلِيدِ رَضِيَ الله عَنْه إِلَى فارس: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مِنْ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ إِلَى مَرَازِبَةِ فَارِسٍ، سَلَامٌ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى، أَمَّا بَعْدُ: فَإِنِّي أَحْمَدُ اللَّهَ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ بِالْحَمْدِ الَّذِي هُوَ أَهْلُهُ، الَّذِي فَصَلَ حَرَمَكُمْ، وَفَرَّقَ جَمَاعَتَكُمْ، وَوَهَّنَ بَأْسَكُمْ، وَسَلَبَ مُلْكَكُمْ، فَإِذَا جَاءَكُمْ كِتَابِي هَذَا، فَاعْتَقِدُوا مِنِّي الذِّمَّةَ، وَأَدُّوا الْجِزْيَةَ، وَابْعَثُوا إِلَيَّ بِالرَّهْنِ، وَإِلَّا، فَوَالَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ، لَأُقَاتِلَنَّكُمْ بِقَوْمٍ، يُحِبُّونَ الْمَوْتَ كَحُبِّكُمُ الْحَيَاةَ، وَالسَّلَامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى. رواه سعيد بن منصور وابن الجعد وابن أبي شيبة والواقدي والحاكم والطبراني وأبو يعلى والطبري وغيرهم، وله طريق آخر عن غير الشعبي، وهو أثر صحيح.
وقد كتب خالد هذه الرسالة بعد حروب ومواجهات عسكرية بين المسلمين والفرس المجوس، فلم يمنعه ذلك من السلام عليهم أول الكتاب وآخره، لأنه تابع لسنة رسول الله، ولأن الآداب والأخلاق الآدمية تفرض ذلك.
وفي تكراره السلام إشارة إلى أن المسلمين لا يرغبون في مواصلة القتال، وأنهم لن يحاربوا إلا مضطرين.
فهل يجيز لنا ديننا السلام على العدو المحارب ثم يحرم علينا إلقاء التحية على إخواننا في الوطن والإنسانية من أهل الذمة والعهد بله أصحاب البلاد التي نهاجر إليها لقضاء مصالحنا؟
الأنموذج الثاني:
عن علقمة أنه كان رديف عبد الله بن مسعود على حمار، فصحبهم الناس من الدهاقين في الطريق، فلما بلغوا قنطرة أخذوا طريقا آخر، فالتفت عبد الله فلم ير منهم أحدا، فقال: أين أصحابنا؟ قلت: أخذوا الطريق الآخر، فقال عبد الله: عليكم السلام. قلت: أليس هذا يكره؟ قال: هذا حق الصحبة. في رواية مختصرة: صَحِبَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ قَوْمٌ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ، فَلَمَّا أَرَادُوا أَن يفارقوه أتبعهم السَّلَام، وَقَالَ: حق الصُّحْبَة. في رواية: فَالْتَفَتَ إِلَيْهِمْ فَرَآهُمْ قَدْ عَدَلُوا، فَأَتْبَعَهُمُ السَّلَامَ، فَقُلْتُ: أَتُسَلِّمُ عَلَى هَؤُلَاءِ الْكُفَّارِ؟ فَقَالَ: «نَعَمْ صَحِبُونِي، وَلِلصُّحْبَةِ حَقٌّ».
رواه ابن أبي شيبة في المصنف، والخرائطي في المكارم والبيهقي في الشعب من طرق، وصححه الحافظ ابن حجر في فتح الباري.
وسيدنا ابن مسعود أعلم الصحابة بعد الخلفاء الأربعة، وتراه يصطحب أهل الكتاب في سفره، ويبادرهم إلى السلام رغم أنهم انفصلوا عنه دون تحية أو إعلام، لأن هذا الخلق كان صفة أهل الإسلام.
ولا عبرة بقول ابن كثير في تفسيره تعليقا على أثر ابن مسعود: هكذا روي عن عبد الله، ولعله لم يبلغه ما بلغ غيره من السنة، ومتابعة السنة أولى. ه
قلت: ابن مسعود أعلم بالسنة وأقرب إلى صاحبها منك يا إمام، والسنة النبوية المشهورة الثابتة هي السلام والبر بكل الأنام، وخرافة النهي جعلتموها سنة تقليدا وتعصبا وتصحيحا لرواية سهيل صاحب الأوهام، وفعل عبد الله مؤيد بالقرآن والسنة وعمل الصحابة العظام، فبئس ما قلت وسطرت تأييدا للجامدين وتغريرا بالمتطرفين اللئام.
الأنموذج الثالث:
قال مُحَمَّد بْنِ زِيَادٍ: كُنْتُ آخُذُ بِيَدِ أَبِي أُمَامَةَ الْبَاهِلِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي الْمَسْجِدِ، فَانْطَلَقْتُ مَعَهُ وَهُوَ مُنْصَرِفٌ إِلَى بَيْتِهِ، فَلَا يَمُرُّ عَلَى أَحَدٍ صَغِيرٍ وَلَا كَبِيرٍ، مُسْلِمٍ وَلَا نَصْرَانِيٍّ، إِلَّا سَلَّمَ عَلَيْهِ، حَتَّى إِذَا انْتَهَى إِلَى بَابِ دَارِهِ قَالَ: «يَا ابْنَ أَخِي، أَمَرَنَا نَبِيُّنَا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ نُفْشِيَ السَّلَامَ»، وفي رواية: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ جَعَلَ السَّلَامَ تَحِيَّةً لِأُمَّتِنَا وأَمَانًا لِأَهْلِ ذِمَّتِنَا». رواه أحمد في الزهد، والطبراني في معاجمه، وابن السني في العمل، والبيهقي في الشعب، وابن عساكر في تاريخ دمشق، وجوّد ابن حجر إسناده، أي حسنه وقواه، في فتح الباري، ونقل السيوطي تصحيحه عن الضياء في المختارة، وضعفه الألباني من غير اعتبار طرقه وشواهده، والصواب أنه حسن.
قلت: وهذا الأثر يدل من جهة على انتفاء نهي الرسول عن ابتداء أهل الكتاب بالسلام، وإلا ما جهله مثل سيدنا أبي أمامة، ويثبت العكس بالسنة القولية من جهة ثانية، فالسلام عليهم يعني تأكيد أمانهم.
الأنموذج الرابع:
روى الإمام مالك في الموطأ عن الطُّفَيْلَ بْنَ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ أَنَّهُ كَانَ يَأْتِي عَبْدَ اللهِ بْنَ عُمَرَ، فَيَغْدُو مَعَهُ إِلَى السُّوقِ. قَالَ: فَإِذَا غَدَوْنَا إِلَى السُّوقِ. لَمْ يَمْرُرْ عَبْدُ اللهِ بْنُ عُمَرَ عَلَى سَقَاطٍ، وَلاَ صَاحِبِ بِيعَةٍ، وَلاَ مِسْكِينٍ، وَلاَ أَحَدٍ إِلاَّ سَلَّمَ عَلَيْهِ. فَجَئْتُ عَبْدَ اللهِ بْنَ عُمَرَ يَوْماً، فَاسْتَتْبَعَنِي إِلَى السُّوقِ، فَقُلْتُ لَهُ: وَمَا تَصْنَعُ فِي السُّوقِ، وَأَنْتَ لاَ تَقِفُ عَلَى الْبَيْعِ؟ وَلاَ تَسْأَلُ عَنِ السِّلَعِ، وَلاَ تَسُومُ بِهَا، وَلاَ تَجْلِسُ فِي مَجَالِسِ السُّوقِ؟ قَالَ، وَأَقُولُ: اجْلِسْ بِنَا هَهُنَا نَتَحَدَّثْ. قَالَ، فَقَالَ لِي عَبْدُ اللهِ بْنُ عُمَرَ: يَا أَبَا بَطْنٍ - وَكَانَ الطُّفَيْلُ ذَا بَطْنٍ - إِنَّمَا نَغْدُو مِنْ أَجْلِ السَّلاَمِ. نُسَلِّمُ عَلَى مَنْ لَقِيَنَا. ورواه معمر بن راشد، وابن أبي الدنيا في النفقة، والبيهقي في الشعب.
وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَطَاءٍ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ كَانَ لا يَمُرُّ عَلَى أَحَدٍ إِلا سَلَّمَ عَلَيْهِ، فَمَرَّ بِزِنْجِيٍّ فَسَلَّمَ عَلَيْهِ فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيْهِ، فَقَالُوا: يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ، إِنَّهُ زِنْجِيُّ طَمْطَمَانِيُّ. قَالَ: وَمَا طَمْطَمَانِيُّ؟ قَالُوا: أُخْرِجَ مِنَ السُّفُنِ الآنَ. قَالَ: إِنِّي أَخْرُجُ مِنْ بَيْتِي مَا أَخْرُجُ إِلا لأُسَلِّمَ أَوْ لِيُسَلَّمَ عَلَيَّ. رواه ابن سعد في طبقاته والبيهقي في شعبه.
وعَنْ أَبِي عَمْرٍو النَّدْبِيِّ، قَالَ: «خَرَجْتُ مَعَ ابْنِ عُمَرَ إِلَى السُّوقِ، فَمَا لَقِيَ صَغِيرًا وَلَا كَبِيرًا إِلَّا سَلَّمَ عَلَيْهِ، وَلَقَدْ مَرَّ بِعَبْدٍ أَعْمَى، فَجَعَلَ يُسَلِّمُ عَلَيْهِ، وَالْآخَرُ لَا يَرُدُّ عَلَيْهِ، فَقِيلَ لَهُ: إِنَّهُ أَعْمَى» رواه البيهقي في الشعب، وابن عساكر.
قلت: دلت هذه الروايات على أن سيدنا ابن عمر كان يفشي السلام على المسلمين وغيرهم، بدليل العموم من جهة حيث السوق خليط من المسلمين وغيرهم، وبدليل عدم فهم الأعجمي والأعمى لسلامه، ولو كانا مسلمين لعرفا المعنى وإن كانا أعجميين، لأن السلام شعار المؤمنين عربا وعجما، وكلهم ينطقه بالعربية.
الخلاصة: فهؤلاء أربعة من كبار أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا يسلمون على الكافرين، ولم ينكر عليهم أمثالهم، ولم يصح عن إخوانهم خلاف سلوكهم، فلا عبرة بخرافة سهيل المضطرب المختلط، ولا بأقوال كل الأئمة الذين كرهوا أو حرموا السلام على غير المسلمين، فالصحابة أعلم وأتقى وأنقى.
ولو شئنا سرد ما وقفنا عليه من أخبار كبار التابعين لطال الموضوع، فيكفي أن السلام على غير أهل ملتنا خلق الصحابة والنبي المتبوع.
العلة الرابعة: الاضطراب الفاحش
إذا تعدّدت روايات الحديث الواحد، وكانت مختلفة فيما بينها بحيث يتعذّر الجمع بينها، ولم تترّجح إحداها بناء على أحد المرجّحات المقبولة، فالحديث مضطرب ساقط ضعيف.
هذا إذا كان خاليا من معارضة القرآن أو السنة الثابتة، وكانت كل رواياته مروية بأسانيد صحيحة.
ولنغضّ الطرف عن مناقضة حديث سهيل للكتاب والسنة، وعن ضعف راويه المتفرّد به، ثم نسأل: هل خلا حديث التضييق على غير المسلمين من الاضطراب والتناقض؟
الجواب: كلا وألف كلا، وهذه رواياته المضطربة شاهدة:
الرواية الأولى:
سهيل بن أبي صالح، عن أبيه، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله: ( لا تبتدئوا اليهود والنصارى بالسلام، فإذا لقيتموهم في طريق فاضطروهم إلى أضيقها ). أخرجها أحمد ومسلم
الرواية الثانية:
سهيل عن أبيه عن أبي هريرة أن النبي قال: ( لا تبادروا أهل الكتاب بالسلام، فإذا لقيتموهم في طريق فاضطروهم إلى أضيقه) أخرجها: مسلم والبخاري في الأدب المفرد وابن حبان.
هنا: لا تبادروا بدل لا تبتدؤوا، وأهل الكتاب مكان اليهود والنصارى، وأضيقه موضع أضيقها، لكن المعنى واحد.
الرواية الثالثة:
سهيل عن أبيه عن أبي هريرة عن النبي: « إِذَا لَقِيتُمُ الْيَهُودَ» الحديث دون ذكر النصارى. وهي في صحيح مسلم ومسند أحمد
وقد أفردت هذه الرواية اليهود بالنهي عن بدئهم بالسلام والأمر بالتضييق عليهم.
الرواية الرابعة:
قال يحيى بن سلام في تفسيره: حَدَّثَنِي حَمَّادٌ، عَنْ سُهَيْلِ بْنِ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِذَا لَقِيتُمُ الْيَهُودِيَّ أَوِ النَّصْرَانِيَّ فَلا تَبْدَءوهُ بِالسَّلامِ. وَإِذَا لَقِيتُمُوهُ فِي طَرِيقٍ فَاضْطَرُّوهُ إِلَى أَضْيَقِهِ».
قلت: حماد بن سلمة إمام ثقة من رجال مسلم، فالسند صحيح إلى سهيل، والخلاف بين هذه الرواية وسابقتها واضح، وإن كان المعنى واحدا.
الرواية الخامسة:
عن سهيل بن أبي صالح قال: خَرَجْتُ مَعَ أَبِي إِلَى الشَّامِ، فَجَعَلُوا يَمُرُّونَ بِصَوَامِعَ فِيهَا نَصَارَى فَيُسَلِّمُونَ عَلَيْهِمْ، فَقَالَ أَبِي: لَا تَبْدَءُوهُمْ بِالسَّلَامِ، فَإِنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ، حَدَّثَنَا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «لَا تَبْدَءُوهُمْ بِالسَّلَامِ، وَإِذَا لَقِيتُمُوهُمْ فِي الطَّرِيقِ فَاضْطَرُّوهُمْ إِلَى أَضْيَقِ الطَّرِيقِ» رواه أحمد والبخاري في الأدب، وأبو داود بإسناد صحيح إلى سهيل، وصححه الألباني.
ومتن هذه الرواية خال من القوم المقصودين.
الرواية السادسة:
سهيل عن أبيه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله: إذا لقيتم المشركين في الطريق فلا تبدءوهم بالسلام واضطروهم إلى أضيقه.
أخرجها عبد الرزاق وأحمد والبخاري في الأدب وغيرهم بأسانيد صحيحة إلى سهيل، وصححه الأرنؤوط في التعليق على المسند.
وهذه الرواية تجعل المشركين مكان أهل الكتاب، لذلك زعم الألباني أنها شاذة في تعليقه على أدب البخاري.
وهو رحمه الله مخطئ مقصر، فلها طريق آخر، وهو ما أخرجه البيهقي في السنن من طريق آخر صحيح عن سُهَيْل بْن أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِذَا لَقِيتُمُوهُمْ فَلَا تَبْدَءُوهُمْ بِالسَّلَامِ، وَاضْطَرُّوهُمْ إِلَى أَضْيَقِ الطَّرِيقِ". قَالَ سهيل: هَذَا لِلنَّصَارَى فِي النَّعْتِ، وَنَحْنُ نَرَاهُ لِلْمُشْرِكِينَ. ثم قال البيهقي: رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي الصَّحِيحِ.
ومعنى الرواية أن أبا سهيل قال ذلك لما سمع الناس يسلمون على النصارى، وأن حديث رسول الله وارد في المشركين.
وأصرح من ذلك هذه الرواية الصحيحة إلى سهيل:
قال زُهَيْرٌ الإمام: حَدَّثَنَا سُهَيْلُ بْنُ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِذَا لَقِيتُمُوهُمْ فِي طَرِيقٍ، فَلَا تَبْدَءُوهُمْ بِالسَّلَامِ، وَاضْطَرُّوهُمْ إِلَى أَضْيَقِهَا ". قَالَ زُهَيْرٌ: فَقُلْتُ لِسُهَيْلٍ: الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى؟ فَقَالَ: " الْمُشْرِكُونَ ". رواها أحمد وابن الجعد والقاضي الميانجي في جزئه، وصححها شاكر والأرنؤوط.
الخلاصة:
لا ندري بعد عرض هذه الروايات المتشاكسة هل تحدّث رسولنا الكريم عن أهل الكتاب عموما، أم عن اليهود خصوصا، أم عن المشركين الوثنيين.
ونظرا لصحة كل تلك الروايات إلى سهيل بن أبي صالح المتفرّد بها، فالنتيجة المنطقية الشرعية أنه سمع شيئا ولم يضبطه، فوقع في الاضطراب الفاحش.
ومن المقرّر في علوم الحديث أن الراوي إذا اضطرب وتناقض في حديثه، فرواه مرة على معنى، ومرة على معنى مخالف، فالحديث ضعيف ولو كان الراوي المتفرّد ثقة من أهل الضبط والإتقان، لذلك ردّوا أحاديث اضطرب فيها أمثال الأئمة مالك وشعبة، فكيف إذا كان المضطرب هو سهيل بن أبي صالح المختلط؟
العلة الخامسة: مخالفة الأوثق والرواية الأصح
إذا ورد الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من وجهين فأكثر، أي إذا تعددت مصادره ومخارجه، وكان أحد الأوجه صحيحا سندا سليما متنا/مضمونا، لا يناقض آية أو سنة ثابتة أو حقيقة علمية، وكان الوجه الآخر صحيحا سندا سقيما متنا لمناقضته كتابا أو سنة أو عقلا وعلما، فالوجه الأول صحيح محفوظ، والثاني شاذّ ضعيف.
أما إذا كان الوجه الثاني مرويا بسند فيه راو ضعيف، فالحديث منكر، والمنكر أقرب إلى الموضوع كثيرا.
هذه حقائق مسلّمة عند المحدثين، لكنهم لم يطبقوها على حديث المقال.
وحقيقته تبعا للقواعد المذكورة أنه شاذّ إذا كان سهيل ثقة، منكر إذا كان ضعيفا، لأنه خالف وجها أصح سندا وأقوم متنا.
الرواية الصحيحة المحفوظة:
روى جماعة من الثقات عن يزيد بن أبي حبيب عن مرثد عن أبي بصرة الغفاري عن النبي صلى الله عليه و سلم قال: إني راكب غدا إلى يهود، فلا تبدؤوهم بالسلام، فإذا سلموا عليكم فقولوا: وعليكم.
أخرجها أحمد وابن أبي شيبة، والبخاري في الأدب المفرد، والنسائي في الكبرى، والترمذي في العلل، وابن ماجه، وابن أبي عاصم، وأبو يعلى الموصلي، والطبراني، والطحاوي، والبيهقي في الشعب.
وصححها البخاري في علل الترمذي، والحافظ البوصيري، والألباني في التعليق على "الأدب المفرد"، والأرنؤوط في التعليق على المسند.
وعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ دِينَارٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِنَّكُمْ لَاقُونَ الْيَهُودَ غَدًا، فَلَا تَبْدءُوهُمْ بِالسَّلَامِ، فَإِنْ سَلَّمُوا عَلَيْكُمْ فَقُولُوا: وَعَلَيْكَ".
رواه البيهقي وقال: أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ فِي الصَّحِيحِ مِنْ حَدِيثِ سُفْيَانَ.
قلت: أصله مختصر في الموطأ وصحيحي البخاري ومسلم من طريق عبد الله بن دينار عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( إذا سلم عليكم اليهود فإنما يقول أحدهم السام عليك فقل: وعليك ).
فظهر أن النبي كان متوجها لقتال اليهود أو معاتبتهم في أمر، فأصدر أمرا عسكريا مؤقتا خاصا بالنازلة، حيث قرّر عدم مبادءتهم بالسلام علامة على غضبه منهم، وعملا بقوله تعالى: (وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها أو ردّوها)، فإنه أرخص لأصحابه في ردّ السلام رغم أنه في موقف حرب أو عتاب.
فالنهي هنا دنيوي عسكري خاص بواقعة محدّدة، وليس تشريعا عاما كما جاء في رواية سهيل القبيحة اللاإنسانية.
وقد اختصر الرواة الحدث فلم يذكروا المناسبة، لكن ذهب بعضهم إلى أنها غزوة بني قريظة، ففي ( فصل: في هديه صلّى الله عليه وسلّم في السّلام على أهل الكتاب ) من زاد المعاد لابن القيم: صحّ عنه: "لا تبدؤوهم بالسّلام، وإذا لقيتموهم في الطّريق، فاضطرّوهم إلى أضيق الطّريق"، لكن قد قيل: إنّه في قضيةٍ خاصّةٍ، لما سار إلى بني قريظة قال: "لا تبدؤوهم بالسّلام"، فهل هو عامٌ لأهل الذّمة، أو يختصّ بِمَن كانت حاله كأولئك؟ ه
قلت: لم يقف ابن القيم على الرواية الصحيحة لذلك فهو يميل لتصحيح خرافة سهيل.
ونلاحظ خلوّ الرواية الثابتة من الأمر بالتضييق في الطريق على أهل الكتاب، فتكون رواية سهيل مشتملة على المخالفة للرواية المحفوظة من وجهين:
الأول: تعميم النهي عن السلام على كل كتابي أو مشرك مسالم أو محارب، قريب أو أجنبي، جار أو بعيد.
الثاني: زيادة الأمر بالتضييق على غير المسلمين في الطرقات.
والنتيجة أن رواية سهيل شاذة على مذهب الموثقين له، والشذوذ موجب للضعف اتفاقا بين المحدثين.
والحق أنها رواية منكرة محرّفة، وبطل التحريف هو سهيل السمان، فإنه ضعيف إلا فيما رواه قبل الاختلاط، وليس هناك أي قرينة تشهد له برواية خرافته قبل فساد ذاكرته وحفظه رحمه الله، وبالمقابل فالعلل المذكورة أولا وأخيرا براهين شرعية وعقلية على أنه حدث بالخرافة بعد اختلاطه، لذلك تجنبها البخاري فلم يخرجها في صحيحه رغم أنه يعرفها بدليل ذكرها في "الأدب المفرد".
العلة السابعة: ضعف سند الحديث
إذا وجدت حديثا مناقضا للقرآن والسنة الثابتة، أو مخالفا للعقل والعلم والواقع المحسوس المجرب، فلا بدّ أن يكون سنده ضعيفا مهما كان ظاهره الصحة.
وهذه قاعدة ذهبية تجعلنا نعيد التحقيق والنظر في أي حديث مخرج في الصحيحين أو منصوص على تصحيحه عند الحفاظ.
ولما وجدنا الحديث المحرّض على إهانة وإذاية غير المسلم مناقضا لكتاب الله، شاذا عن سيرة رسول الله الثابتة، قمنا بإعادة النظر في سلسلة رجال السند/الرواة، لنكتشف أن طرقه ورواياته المضطربة تدور على سهيل بن أبي صالح السمان، ثم أعدنا تقييم مرتبة الرجل، فوجدناه ضعيفا بسبب فساد ذاكرته واختلاط عقله آخر حياته، مما أدى به إلى تحريف الأحاديث النبوية من جهة، وإلى نسبة كلام الناس إلى رسول الله من جهة ثانية.
والقاعدة أن الراوي الذي يختلف النقاد في توثيقه، ضعيف إذا كان عدد المجرّحين أكثر من عدد الموثّقين، أو إذا كان التجريح والتضعيف مفسّرا مستندا إلى سبب معقول.
وسهيل بن أبي صالح رحمه الله مختلف فيه، فضعفه الجمهور، وفسّروا ضعفه بتعرضه للاختلاط قبل موته، والاختلاط سبب موجب للتجريح إجماعا.
وإليك خلاصة أقوال الجمهور المجرّح لسهيل بن أبي صالح السمّان رحمه الله وأثابه:
قال ربيعة: كان أصاب سهلا علة، أصيب ببعض حفظه ونسي بعض حديثه
وقال ابن المديني: مات أخ لسهيل فوجد عليه فنسي كثيرا من الحديث.
وقال ابن معين: لم يزل أصحاب الحديث يتقون حديثه. وقال مرة: ضعيف. وسئل عنه مرة فقال: ليس بذاك. وقال: صويلح وفيه لين.
وقال أبو حاتم الرازي: يكتب حديثه ولا يحتج به. ه أي أنه ضعيف إذا انفرد بالرواية.
وأورده أبو زرعة الرازي والعقيلي في الضعفاء.
وقَالَ الْبُخَارِيُّ: مَاتَ ابْنٌ لَهُ فَحَزِنَ عَلَيْهِ, فَنَسِيَ فِي آخِرِ عُمْرِهِ كَثِيرًا مِنْ حَدِيثِهِ.
لذلك لم يخرج له في الصحيح منفردا،
وقال أبو الفتح الأزدي: صدوق إلا أنه أصابه برسام في آخر عمره، فذهب بعض حديثه.
وذكره ابن حبان في الثقات وقال: يخطئ.
وضعفه ابن القطان الفاسي بالاختلاط.
وفي المغني للذهبي: ثِقَة تغير حفظه، وَقَالَ ابْن معِين: لَيْسَ بِالْقَوِيّ.
وفي تقريب التهذيب: سهيل ابن أبي صالح ذكوان السمان أبو يزيد المدني، صدوق تغير حفظه بأخرة، روى له البخاري مقرونا وتعليقا. ه
أي أن البخاري لم يحتج به في الأصول، ولكن روى له في المتابعات والمعلقات التي يتسامح فيها ويتساهل.
وأدخله العلائي في المختلطين، والبرهان الحلبي في "الاغتباط بمن رمي من الرواة بالاختلاط".
ومن مستندات النقاد في تجريح سهيل السمان اضطرابه في مروياته كما سبق بيانه في حديث المقال، وهذه شواهد تؤكد سوء حفظه آخر عمره رحمه الله:
قال الترمذي في "العلل الكبير": سَأَلْتُ مُحَمَّدًا –يعني البخاري- عَنْ حَدِيثِ سُهَيْلٍ فِي الْيَمِينِ مَعَ الشَّاهِدِ فَقَالَ: رَوَى عَلِيُّ بْنُ الْمَدِينِيِّ عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ مُحَمَّدٍ, عَنْ رَبِيعَةَ, عَنْ سُهَيْلِ بْنِ أَبِي صَالِحٍ هَذَا الْحَدِيثَ. قَالَ عَبْدُ الْعَزِيزِ: ثُمَّ لَقِيتُ سُهَيْلًا فَسَأَلْتُهُ فَلَمْ يَحْفَظْهُ, ثُمَّ رَوَى سُهَيْلٌ عَنْ رَبِيعَةَ, عَنْ نَفْسِهِ هَذَا الْحَدِيثَ.
وفي علل الحديث لابن أبي حاتم: قال الإمام الشافعي: أخبرنا عبد العزيز ابن محمَّد الدَّرَاوَرْدي، عن رَبِيعة بن أبي عبد الرحمن، عَن سُهَيْل بْن أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: أنَّ رسول الله (ص) قضَى باليمين مع الشاهد.
قال عبد العزيز: فذكَرْتُ ذلك لسهيل، فقال: أخبَرَنِي ربيعةُ، عنِّي - وهو ثقة - أني حدَّثتُهُ إيَّاه، ولا أحفظه.
قال عبد العزيز: وكان أصابَ سُهَيْلاً عِلَّةٌ أذهبَتْ بعضَ عَقْله، ونَسِيَ بعضَ حديثه، وكان سُهَيْلٌ يحدِّثه عن ربيعة، عنه، عن أبيه.
وفي الكامل لابن عدي عن سفيان قَال: كان الشَّعْبِيّ يقول: يا ابن ذكوان جئت بها زيوفا وتذهب بها جيادا. ه
أي أن سهيلا كان يحدث بحضرة الشعبي فيخطئ ويخلط، ثم يصحح له الإمام وينبهه، وفي ذلك حجة على عدم ضبطه أو قلته.
وفي الإلزامات والتتبع للدارقطني: وأخرج مسلم حديث سهيل بن أبي صالح عن أبي عبيد الحاجب عن عطاء عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم: "من سبح الله دبر كل صلاة ثلاثاً وثلاثين وحمد وكبر" قال: خالف سهيلا مالك. رواه عن أبي عبيد عن عطاء عن أبي هريرة موقوفاً. ه
أي أن الدارقطني يضعف رواية سهيل المرفوعة بسبب مخالفته للإمام مالك الأوثق منه، ولم تمنعه هيبة صحيح مسلم التي لم تكن قد تكرست في عصره.
وفي علل الدارقطني أنه: سُئِلَ عَنْ حَدِيثِ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هريرة، قال رسول الله صلى الله عليه وَسَلَّمَ: مَنْ غَسَّلَ مَيِّتًا فَلْيَغْتَسِلْ، وَمَنْ حَمَلَهُ فَلْيَتَوَضَّأْ. فذكر الاختلاف الشديد في إسناده ثم قال: يُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ سُهَيْلٌ كَانَ يَضْطَرِبُ فِيهِ. ه
فهذه أمثلة على ضعف حفظ الرجل وفساد ضبطه، وأقبح منها تفرده بالمناكير عن الثقات المشاهير:
قال الحافظ ابن القيسراني في "ذخيرة الحفاظ": حَدِيث: "فرخ الزِّنَا، لايدخل الْجنَّة". رَوَاهُ سُهَيْل عَن أَبِيه، عَن أبي هُرَيْرَة. وَهَذَا يعرف بسهيلَ، وَهُوَ أحد مَا أنكر عَلَيْهِ. ه
وفي ترجمته من "سير أعلام النبلاء" للذهبي: ومن غَرَائِبِ سُهَيْلٍ، عَنْ أَبِيْهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ حَدِيْثُ: "مَنْ قَتَلَ وَزَغاً فِي أَوَّلِ ضَرْبَةٍ" وَحَدِيْثُ: "فَرْخُ الزنى لا يدخل الجنة". ه
قلت: حديث الوزغ رواه سهيل عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ قَتَلَ وَزَغًا فِي أَوَّلِ ضَرْبَةٍ، فَلَهُ كَذَا وَكَذَا حَسَنَةً، وَمَنْ قَتَلَهَا فِي الثَّانِيَةِ، فَلَهُ كَذَا وَكَذَا، أَدْنَى مِنَ الْأُولَى، وَمَنْ قَتَلَهَا فِي الضَّرْبَةِ الثَّالِثَةِ، فَلَهُ كَذَا وَكَذَا حَسَنَةً، أَدْنَى مِنَ الَّذِي ذَكَرَهُ فِي الْمَرَّةِ الثَّانِيَةِ».
وهو من أفراد مسلم في الصحيح، ونكارة متنه ظاهرة للعيان، وهو خرافة يتنزّه نبي الله عن قولها، فالوزغ حشرة مؤذية، لكن الحثّ على إبادتها والوعد على ذلك بالحسنات على حسب الضربة القاتلة لا ينطق به نبي مكرم يعلم أن الله لم يخلق حشرة إلا وهي مفيدة للبيئة.
ولو أمر الشارع الحكيم بإبادة الوزغ لكان القضاء على ما هو أخطر منها أولى وأحرى، وحينئذ تكون شريعتنا ناقضة لنواميس الطبيعة وقوانينها الإلهية، وحاشاها.
ويكفينا نسيان سهيل لعدد الحسنات مقابل كل ضربة دليلا على أنه سمع هذا الكلام الخرافي من وضّاع مهرّج فنسبه إلى رسول الله الطاهر المطهر.
وهذا الحديث شاهد آخر على تساهل الإمام مسلم رضي الله عنه وتقصيره في تنقية كتابه من الأوهام الساذجة، ودليل على أن المتقدمين كانوا يصححون الأساطير والخرافات تأثرا بثقافتهم الشعبية الشائعة، والتي كانت تعتقد أن الحشرات الضارة لا فائدة من وجودها.
والنتيجة:
إذا تفرّد سهيل السمان رحمه الله بحديث، ولم يتبين أنه رواه قبل اختلاطه وفساد ذاكرته، فهو ضعيف جريا على القاعدة ولو أخرجه مسلم في صحيحه، لأنه اعترف في مقدمة كتابه بأنه يروي فيه للضعفاء على سبيل الاستشهاد، أو لأنه لم يدرس حال سهيل وغاب عنه اختلاطه فظنه بقي ضابطا، ومن علم حجة على من لم يعلم.
نقول هذا ولو كانت الرواية التي تفرد بها سهيل خالية من المعاني المناقضة لكتاب الله وسنة رسوله الثابتة أو حقائق العلم والعقل والتجربة والحس.
أما إذا خالفت شيئا من ذلك، فهي محرّفة منكرة ولو حدّث بها قبل الاختلاط المحقق، لأن النسيان وضعف الحافظة يبدأ رويدا رويدا حتى يصل إلى الذروة، وهي الاختلاط والاضطراب.
وربما يعترض علينا أحدهم بأن الإمام مالكا يروي في كتاب الموطأ عن شيخه سهيل السمان، وهو رحمه الله مشهور بالتشدد في الرواة والاحتراز، فيكون تخريجه لأحاديث سهيل شهادة له بالإتقان.
والجواب أن الإمام مالكا أخذ عن سهيل قبل تغيّر عقله كما في الميزان للذهبي، فتكون أحاديث سهيل المخرجة في الموطأ صحيحة، ما لم تشتمل على معنى مستقبح شرعا أو عقلا، و"حديث" المقال ليس مذكورا فيه رغم أنه يشتمل على باب مخصص لمسألة السلام على غير المسلم، وكذلك باقي الأحاديث المنكرة على سهيل رحمه الله، فيكون تحاشي الإمام دليلا قويا على أن سهيلا حدّث بها بعد فساد حفظه واختلال ضبطه.
ثم إن الحكم بالضبط والإتقان على كل رجال الموطأ دعوى منقوضة باتفاق المحدّثين، فقد أخرج فيه عن شيخه المجمع على ضعفه الشديد عبد الكريم بن أبي المخارق، حتى قال الجوزجاني في "أحوال الرجال": عبد الكريم بن أبي المخارق أبو أمية غير ثقة، فرحم الله مالكا غاص هناك في المثل، فوقع على خزفة منكسرة، أظنه اغتر بكسائه. ه
احتمال قوي يشرح سبب وقوع سهيل في تحريف حديث المقال:
سمع سهيل قبل اختلاطه قصة خروج النبي صلى الله عليه وسلم إلى اليهود لحربهم أو توبيخهم، وإصداره أمره العسكري المؤقت بعدم السلام عليهم.
وكان علماء زمانه يفتون بعدم السلام على فرقة القدرية باعتبارها ضالة مبتدعة تستحق الهجر والزجر بناء على التصور الفاسد المنحرف إلى يومنا هذا.
ففي "شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة" عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ مُحَمَّدٍ الدَّرَاوَرْدِيّ، عَنْ أَبِي سَهْلٍ قَالَ: لَا تَبْدَأِ الْقَدَرِيَّةَ بِالسَّلَامِ، فَإِنْ سَلَّمُوا عَلَيْكَ فَقُلْ: وَعَلَيْكَ.
وفي مستخرج الطوسي، والكتاب اللطيف لابن شاهين، عن عطاء بن أبي رباح قال: إذا لقيتم القدرية فلا تبدءوهم بالسلام واضطروهم من الطريق إلى أضيقه.
ثم اختلطت قصة رسول الله بفتوى الفقهاء على سهيل السمان رحمه الله بعد فساد ذاكرته، فجعل أهل الكتاب أو المشركين مكان القدرية، وجعل للخرافة أقوى إسناد يحفظه ويألفه، حيث رواها عن أبيه الإمام التابعي الثقة، عن الصحابي الجليل سيدنا أبي هريرة عن رسول الأنام ورحمة العالمين المعصوم من الحماقات والسخافات.
واختلاط الفتاوى والأقوال بأخبار النبي المنعوت الجلال، مسلّمة مقرّرة عند الفقهاء ونقّاد الرجال، وهذه قصة شهيرة نحكيها للمنكرين المتعلقين بالخبال:
روى ثَابِتُ بْنُ مُوسَى أَبُو يَزِيدَ، عَنْ شَرِيكٍ، عَنْ الْأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي سُفْيَانَ عَنْ جَابِرٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَنْ كَثُرَتْ صَلَاتُهُ بِاللَّيْلِ، حَسُنَ وَجْهُهُ بِالنَّهَارِ". هكذا أخرجه ابن ماجه في سننه، والبيهقي في شعبه، والشهاب في مسنده
وليس كذلك:
قال ابن الصلاح في مقدمة علوم الحديث: ثم إن الواضع ربما صنع كلاما من عند نفسه فرواه، وربما أخذ كلاما لبعض الحكماء أو غيرهم فوضعه على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وربما غلط غالط فوقع في شبه الوضع من غير تعمد، كما وقع لثابت بن موسى الزاهد في حديث: "من كثرت صلاته بالليل حسن وجهه بالنهار". ه
وشرحه ما في المدخل إلى كتاب الإكليل للحاكم النيسابوري قال: هَذِهِ الطَّبَقَةُ فِيهِمْ كثرة، وأكثرهم زهاد وعباد ولذا ثَابِتُ بْنُ مُوسَى الزَّاهِدُ دَخَلَ عَلَى شَرِيكِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْقَاضِي، وَالْمُسْتَمْلِي بَيْنَ يَدَيْهِ، وَشَرِيكٌ يَقُولُ: حدثنَا الْأَعْمَشُ عَنْ أَبِي سُفْيَانَ عَنْ جَابِرٍ قَالَ: قَالَ رسول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَمْ يَذْكُرِ الْمَتْنَ، فَلَمَّا نَظَرَ إِلَى ثَابِتِ بْنِ مُوسَى قَالَ: "مَنْ كَثَّرَ صَلَوَاتِهِ بِاللَّيْلِ حَسُنَ وَجْهُهُ بِالنَّهَارِ". وَإِنَّمَا أَرَادَ بِذَلِكَ ثَابِتَ بْنَ مُوسَى لِزُهْدِهِ وَوَرَعِهِ، فَظَنَّ ثَابِتُ بْنُ مُوسَى أَنَّهُ رَوَى الْحَدِيثَ مَرْفُوعًا بِهَذَا الْإِسْنَادِ، فَكَانَ ثَابِتُ بْنُ مُوسَى يُحدث بِهِ عَنْ شَرِيكٍ عَنِ الْأَعْمَشِ عَنْ أَبِي سُفْيَانَ عَنْ جَابِرٍ، وَلَيْسَ لِهَذَا الْحَدِيثِ أَصْلٌ إِلَّا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ وَعَنْ قَوْمٍ مِنَ الْمَجْرُوحِينَ سَرَقُوهُ من ثابت بن موسى فَرَوَوْهُ عَنْ شَرِيكٍ، أَخبرنَا بِصِحَّةِ مَا ذَكَرْتُهُ أَبُو عَمْرٍو عُثْمَانُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ السَّمَّاكُ بِبَغْدَادَ قَالَ: حدثنَا أَبُو الْأَصْبَغِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ كَامِلٍ قَالَ: قُلْتُ لِمُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ نُمَيْرٍ: مَا تَقُولُ فِي ثَابِتِ بْنِ مُوسَى؟ قَالَ: شَيْخٌ لَهُ فَضْلٌ وَإِسْلَامٌ وَدِينٌ وصلاح وعبادة، قلت: ما تقول في حديث جابر: من كَثَّرَ صَلَوَاتِهِ بِاللَّيْلِ؟ فَقَالَ: غَلَطٌ مِنَ الشَّيْخِ، وَأَمَّا غَيْرُ ذَلِكَ فَلَا يُتَوَهَّمُ عَلَيْهِ. ه
قلت: الحديث معدود في الموضوعات عند الحفاظ رغم أن ثابت بن موسى موثق، لأنه نسب مقولة شريك فيه وثناءه عليه لصلاحه وعبادته إلى رسول الله على سبيل الخطأ.
ورغم ذلك، فقد اغتر به ابن ماجه والبيهقي رحمهما الله، وهكذا يقع للإنسان مهما كان علمه وتقواه.
*خريج دار الحديث الحسنية، وخطيب جمعة موقوف بسبب مقالاته وآرائه
[email protected]


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.