"حديث" النّهي عن بداءة أهل الكتاب بالسلام (ج1) شارك محمد الأنجري قبل أعوام بناحية مدينة طليطلة/طوليدو الإسبانية في ندوة حول موضوع: "ضرورة تعايش المسلمين مع غيرهم"، وكان الزمان شهر رمضان، والمكان مسجدا للمسلمين، والحاضرون مسلمين من جنسيات متنوعة. عندما انتهى المتدخلون من عرض محاورهم، فتح للتعقيب والاستفسار... فكانت غالب التعليقات إيجابية تؤكد أن الغرض من الندوة قد تحقق، إلا تعليقا مفاجئا شاذا من رجل مغربي عرفت بعد الانتهاء من النشاط أنه إمام وخطيب بأحد المساجد التابعة لإقليم طليطلة. اعترض الإمام على مداخلة الأنجري خصوصا، وكان من بين ما قاله: إنك يا أستاذ تدعونا للسلام على الإسبانيين الكفار، وهو فعل محرم لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما رواه الإمام مسلم في صحيحه: ( لا تبدؤوا اليهود والنصارى بالسلام، وإذا لقيتم أحدهم في طريق فاضطروهم إلى أضيقه ). حوقل الأنجري وهو يسمع هذا الاعتراض من مسلم مقيم بين الإسبان، يقصد مستشفياتهم بلحيته الدالة على ديانته فلا يسلم على الطبيب، ويذهب لاستخلاص المساعدات المالية والمنح الاجتماعية ولا يبدأ بقوله "HOLLA" الدال على التحية بالإسبانية... ثم ازداد الاستغراب لما علم الأنجري أن المعترض رجل دين يؤطر ويفتي ويعلّم، وتحول التعجب إلى تخوف على مستقبل المسلمين في الغرب من أبنائهم وأنفسهم ومثقفيهم المغفّلين. وكان الأنجري يتوقع أن يعترض عليه متشدّد بالحديث المذكور، فكان الجواب مهيئا سلفا، وهو أن مضمون الحديث باطل لأنه منقوض بكتاب الله أولا، وبسيرة رسوله ثانيا، وبالمنطق والعقل ثالثا، فلا قيمة له وإن صححه كل المحدثين. ثم بيّن الأنجري أن الحديث ضعيف من جهة السند، وأن روايات متنه مضطربة اضطرابا فاحشا، فلا ينفعه وجوده في صحيح مسلم. حاول المعترض أن يطوّر النقاش متهما الأنجري بعدم احترام إجماع الأمة على صحة كل أحاديث الصحيحين، لكنه اصطدم بصوت صخرة لم يكن يتمنى سماعه، وهو أن الأمة لم تجمع في يوم من الأيام على ما ذكر، وأن المحدثين والفقهاء الكبار ضعفوا أو ردوا العشرات من أحاديث الشيخين، وأن الإمام مسلما رحمه الله بشر كغيره يخطئ وينسى ويقصّر في البحث أحيانا، ويتأثر بمن سبقه فيقلدهم في أخطائهم، وبرهان كل ذلك أن يخالف القواعد العلمية الحديثية المقررة. فإذا ثبت أنه لم يحترم تلك القواعد، فنحن في حل من احترام رأيه واجتهاده. وقد أخرج مسلم رحمه الله الحديث المذكور المنكر نكارة شديدة من جهة المتن مع الاضطراب الفاحش، المروي من طريق رجل ضعيف، فهو مقصر في البحث، أو غافل ناس، أو مقلد لمن سبقوه إلى التصحيح، وهو الظاهر الراجح. صمت الإمام المعترض خشية أن يسمع المزيد، أو اقتناعا وقبولا بالمعقول المنطقي، وأعلن بعض الشباب للأنجري بعد الندوة فرحهم بما سمعوا، وأخبروه أنهم كانوا متحرّجين من ذلك الحديث، وأن أهل العلم والدين منقسمون بشأنه إلى صنفين: قسم يتبنى مضامين الحديث ويدافع عنها باستماتة بحجة أنه كلام رسول الله المعصوم، وقسم يتهرب من مناقشة الحديث لأنه في الصحيح، لكنه يتجنب ذكره ولا يفتي بظاهره. ونظرا لخطورة مثل هذا الحديث المنكر على حاضر الإسلام ومستقبل المسلمين في ديار الغرب خاصة، وللأحداث الدموية الجارية، فإنني مضطر لخوض جولة جديدة تستهدف إبطال صحة أهم (الأحاديث) الكارثية على فكر الشباب، وأبدأ بنشر تفاصيل نسف "حديث" التضييق على أهل الكتاب في الطرقات. المحور الأول: تخريج الحديث: روى سُهَيْلٍ بن أبي صالح عَنْ أَبِيهِ ذكوان عَنْ سيدنا أَبِى هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: « لاَ تَبْدَؤوا الْيَهُودَ وَلاَ النَّصَارَى بِالسَّلاَمِ، فَإِذَا لَقِيتُمْ أَحَدَهُمْ فِى طَرِيقٍ فَاضْطَرُّوهُ إِلَى أَضْيَقِهِ». أخرجه أحمد في مسنده، ومسلم في صحيحه، والترمذي في سننه وغيرهم. وهو حديث (صحيح) عند جماهير العلماء من المحدثين والفقهاء قبل أن يخرجه الإمام مسلم في صحيحه وبعده، فهو رحمه الله مقلّد لمن سبقوه لا محقق أو مجتهد بدليل كثرة الأمراض والعلل القادحة في متن الحديث وسنده. وسبب تصحيحهم وقبولهم للحديث، على نكارته، هو مناخ العداوة والحرب الدائرة بين المسلمين وغيرهم من جهة، ثم قوة المسلمين وعصبيتهم العربية القائمة على إهانة الأعراق الأخرى. فكان هذا (الحديث) المخترع زمن الأمويين، إذ ظهر على يد سهيل بن أبي صالح المتوفى بداية الدولة العباسية، يبرر لحكام المسلمين عدوانهم على أهل الذمة، ويؤكد مشروعية "فتوحاتهم" وحروبهم التوسعية الجائرة في كثير من الأحيان. وكان من جهة ثانية يشبع رغبة عامة المسلمين، المتأثرين بالقومية العربية الجاهلية، في احتقار أهل الكتاب وإهانتهم بفتاوى فقهية كارثية مستندة إلى هذا (الحديث) المنكر المحرّف. ولم يكن بمقدور أي إمام أن يحقق في صحة (الحديث) خوفا من الإرهاب السياسي أوالفقهي، لذلك لم نجد أحدا يجهر بتضعيفه، بمن فيهم النقاد الذين تكلموا في راويه سهيل السمّان وضعفوه من جهة حفظه وضبطه. وسنذكر مثالا شهيرا عن الإمام البخاري يخبرنا أنه ضعف حديثا مشهورا في مجلس خاص، وأوصى بالستر عليه حتى لا يلاحقه إرهاب المحدثين والفقهاء والعامة، وهو مثال يستدل به المحدثون على إمامة البخاري رحمه الله في علم "علل الحديث"، ويدرسونه في علم المصطلح الحديثي، لكنهم لا يقفون عند جانبه المظلم الدال على سيادة الإرهاب الفكري مبكرا على عقول علماء الأمة، وإليك المثال: قال الحافظ الثقة الإمام أَبُو حَامِد أحمد بن حمدون الْأَعْمَشي: كُنَّا عِنْد مُحَمَّد بن إِسْمَاعِيل البُخَارِيّ بنيسابور، فجَاء مُسلم بن الْحجَّاج، فَسَأَلَهُ عَن حَدِيث عبيد الله بن عمر عَن أبي الزبير عَن جَابر: بعثنَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي سَرِيَّة ومعنا أَبُو عُبَيْدَة (...) فَقَرَأَ عَلَيْهِ إِنْسَان حَدِيث حجاج بن مُحَمَّد عَن ابْن جريح عَن مُوسَى بن عقبَة نَا سُهَيْل بن أبي صَالح عَن أَبِيه عَن أبي هُرَيْرَة عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: "كَفَّارَة الْمجْلس واللغو إِذا قَامَ العَبْد أَن يَقُول: سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِك أشهد أَن لَا إِلَه إِلَّا الله أستغفرك وَأَتُوب إِلَيْك"، فَقَالَ لَهُ مُسلم: فِي الدُّنْيَا أحسن من هَذَا الحَدِيث؟ ابْن جريح عَن مُوسَى بن عقبَة عَن سُهَيْل يعرف بِهَذَا الْإِسْنَاد حَدِيث فِي الدُّنْيَا؟ فَقَالَ مُحَمَّد بن إِسْمَاعِيل: إِلَّا أَنه مَعْلُول. قَالَ مُسلم: لَا إِلَه إِلَّا الله، وارتعد، أَخْبرنِي بِهِ. قَالَ – أي البخاري - اسْتُرْ مَا ستر الله، هَذَا حَدِيث جليل رُوِيَ عَن الْحجَّاج عَن ابْن جريح. فألح عَلَيْهِ وَقبل رَأسه، وَكَاد أَن يبكي، فَقَالَ: اكْتُبْ إِن كَانَ وَلَا بُدّ: نَا مُوسَى بن إِسْمَاعِيل نَا وهيب نَا مُوسَى بن عقبَة عَن عون بن عبد الله، قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: كَفَّارَة الْمجْلس. فَقَالَ مُسلم: لَا يبغضك إِلَّا حَاسِد، وَأشْهد أَن لَيْسَ فِي الدُّنْيَا مثلك. هذه قصة صحيحة رواها الحاكم في "معرفة علوم الحديث" و"تاريخ نيسابور"، وأبو يعلى الخليلي في "الإرشاد"، والخطيب في تاريخ بغداد، وأبو بكر البغدادي في التقييد، والسمعاني في أدب الإملاء، وابن عساكر في تاريخ دمشق، وابن رشيد السبتي في السنن الأبين، وابن حجر في مقدمة فتح الباري. وذكرها مترجمو البخاري، والمصنفون في علوم الحديث قديما وحديثا. ونحن نتحدى من يجد تفسيرا لسكوت البخاري رحمه الله عن بيان علة حديث كفارة المجلس قبل أن يلح عليه تلميذه مسلم، ولقوله: (اسْتُرْ مَا ستر الله) ، غير الخوف من الإرهاب الفقهي الذي كان يحاصر البخاري، وقول مسلم في آخر القصة: (لا يبغضك إلا حاسد) إشارة صريحة إلى الإرهاب المضروب على البخاري من قبل العلماء الحسّاد الحاقدين. وبالمناسبة، فهذا الحديث الذي ضعفه البخاري، ورجح أنه منقطع الإسناد معضل من رواية عون بن عبد الله التابعي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مباشرة، واعترف مسلم برأي شيخه، مروي من طريق سهيل بن أبي صالح المتفرد برواية "حديث" المقال، وخطأ سهيل في وصل حديث الكفارة عن أبي هريرة هو حجة البخاري في عدم احتجاجه بسهيل وتجنب تخريج أحاديثه في الصحيح. قَالَ الْقَاضِي ابْنُ الْعَرَبِيِّ في أحكام القرآن: أَرَادَ الْبُخَارِيُّ أَنَّ حَدِيثَ عَوْنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ مِنْ قَوْلِهِ، حَمَلَهُ سُهَيْلٌ عَلَى هَذَا الْحَدِيثِ حَتَّى تَغَيَّرَ حِفْظُهُ بِآخِرَةٍ؛ فَهَذِهِ مَعَانٍ لَا يُحْسِنُهَا إلَّا الْعُلَمَاءُ بِالْحَدِيثِ، فَأَمَّا أَهْلُ الْفِقْهِ فَهُمْ عَنْهَا بِمَعْزِلٍ. ه المحور الثاني: مضامين الحديث : حديث عدم مبادرة أهل الكتاب إلى السلام، والتضييق عليهم في الطرقات، أصل من أصول التطرف في تراثنا الفقهي، فقد استنبط منه بعض علمائنا أن المسلم مطالب شرعا باحتقار أهل الكتاب والتضييق عليهم، عقابا معنويا على كفرهم. ولو أردنا نقل كل ما قاله هؤلاء الغافلون المقلّدون بناء على "الحديث" المنكر، لاحتجنا إلى مجلد ضخم، فنكتفي بما يحقق المطلوب: قال النووي في شرح صحيح مسلم: قوله صلى الله عليه وسلم: ( وإذا لقيتم أحدهم فى طريق فاضطروه إلى أضيقه) قال أصحابنا: لايترك للذمي صدر الطريق، بل يضطر إلى أضيقه إذا كان المسلمون يطرقون، فإن خلت الطريق عن الزحمة فلاحرج، قالوا: وليكن التضييق بحيث لايقع فى وهدة ولايصدمه جدار ونحوه. ه وقال القرافي في "الذخيرة": النَّوْعُ الثَّالِثُ: يُمْنَعُونَ مِنْ جَادَّةِ الطَّرِيقِ وَيُضْطَرُّونَ إِلَى الْمَضِيقِ إِذَا لَمْ يَكُنِ الطَّرِيقُ خَالِيًا لِمَا يُرْوَى عَنهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم: (لَا تبدؤهم بِالسَّلَامِ وألجؤوهم إِلَى أَضْيَقِ الطَّرِيقِ). وفي تفسير ابن كثير: لا يجوز إعزاز أهل الذمة ولا رفعهم على المسلمين، بل هم أذلاء صَغَرة أشقياء، كما جاء في صحيح مسلم، عن أبي هريرة، رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا تبدءوا اليهود والنصارى بالسلام، وإذا لقيتم أحدهم في طريق فاضطروه إلى أضيقه" وفي "التيسير" للمناوي: (لا تبدؤوا اليهود ولا النصارى بالسلام) لأن السلام إعزاز، ولا يجوز إعزازهم، فيحرم ابتداؤهم به على الأصح عند الشافعية. ( وإذا لقيتم أحدهم في طريق) - فيه زحمة - ( فاضطروه الى أضيقه )، بحيث لا يقع في وهدة ولا يصدمه نحو جدار، أي لا تتركوا له صدر الطريق. هذا بعض ما قاله السابقون المغترّون بقوة المسلمين، فهل تخلى المعاصرون المهزومون عن تلك الفتاوى العنصرية الجائرة؟ أم أنهم قدّسوها فترنّموا بها وعبّؤوا أتباعهم بها؟ قبل الجواب أشير إلى أن أحدا من المعاصرين لم يجرؤ على تضعيف الحديث على نكارته وبشاعة مضامينه المناقضة لكتاب الله وسيرة رسوله ومقاصد شريعته، والسبب هو تقديس صحيح مسلم وتسويته بكتاب الله العزيز الحكيم. أما الجواب فهو أن المعاصرين ينقسمون إلى فئة تتبنى مضامين (الحديث) جملة وتفصيلا تقليدا للمتقدمين المغترين، وفئة تتحاشى الحديث عنه أو تتكلف تأويله نظرا لضرورة التعايش بين المسلمين مع غيرهم. وأنقل هنا كلمات حمقاء طائشة لبعض أصحاب الفئة الأولى لنعلم أننا نساعد المخابرات الدولية في تفريخ الإرهابيين وتخريج المتطرفين العدوانيين: جاء في مجلة البحوث الإسلامية المنشورة بموسوعة الشاملة الإلكترونية (70/ 256) : وفي هذا النهي عن بدئهم بالسلام «لا تبدءوهم بالسلام» حتى لا يشعروا بالعزة والمنعة واحترام المسلمين لهم، بل يشعروا أن مكانتهم المذلة والصغار والإهانة والاحتقار {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} ، فلا يذل المسلم نفسه وقد أعزه الله بالإسلام، وأذل المشركين والكفرة بالكفر. قال العلامة محمد بن صالح بن عثيمين رحمه الله: لا يجوز أن يبدءوا بالسلام؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن ذلك، ولأن في هذا إذلالا للمسلم حيث يبدأ بتعظيم غير المسلم، والمسلم أعلى مرتبة عند الله عز وجل؛ فلا ينبغي أن يذل المسلم نفسه في هذا... وقال أحمد البنا في شرح ترتيب مسند الإمام أحمد: (اضطروهم إلى أضيق الطريق) أي جانبها بحيث لا يمشون وسط الطريق، وذلك لا بقصد إهانتهم إن كانوا من أهل الذمة، ولم يظهر منهم سوء نية للمسلمين، بل بقصد إظهار فضل المسلم وتقديمه على غيره؛ لأن إهانة الذمي ممنوعة؛ لقول الله سبحانه وتعالى: {لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ}... وقد يقول قائل إن في عملكم هذا تنفيرا عن الإسلام أي لا تبدؤوهم بالسلام واضطروهم إلى أضيق الطريق. وقد أجاب عن هذا ابن عثيمين رحمه الله فقال ما معناه: لا تتوسعوا لهم إذا قابلوكم في الطريق حتى يكون لهم السعة ويكون لكم الضيق، بل استمروا في اتجاهكم وسيركم واجعلوا أضيق الطريق إن كان هناك ضيق في الطريق على هؤلاء، ومن المعلوم أن هدي النبي صلى الله عليه وسلم ليس إذا رأى الكافر ذهب يزاحمه حتى يرصه على الجدار، ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعل هذا في اليهود في المدينة ولا أصحابه يفعلونه بعد فتح الأمصار. فالمعني أنكم لا تبدؤوهم بالسلام ولا تفسحوا لهم، فإذا لقوكم فلا تتفرقوا حتى يعبروا بل استمروا على ما أنتم عليه، واجعلوا الضيق عليهم إن كان في الطريق ضيق. وليس في الحديث تنفير عن الإسلام، بل فيه إظهار لعزة المسلم وأنه لا يذل لأحد إلا لربه عز وجل. وفي فتاوى اللجنة الدائمة بالسعودية (3 / 434): لا يجوز بداءة الكافر بالسلام، لما ثبت من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال « لا تبدأوا اليهود والنصارى بالسلام، فإذا لقيتم أحدهم في طريق فاضطروه إلى أضيقه »، وفي حديث أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « إذا سلم عليكم أهل الكتاب فقولوا وعليكم » رواه البخاري ومسلم، فيرد عليهم بما دل عليه الحديث وهو أن يقال: وعليكم، ولا بأس أن يقول للكافر ابتداء كيف حالك؟ كيف أصبحت؟ كيف أمسيت؟ ونحو ذلك إذا دعت الحاجة إلى ذلك، صرح بذلك جمع من أهل العلم، منهم أبو العباس شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله. وفي دروس أبي إسحاق الحويني المفرغة بالشاملة (51/4): فتعاملك مع الناس يجب أن ينبني على أساس الدين، وبالتالي فإن هجرك لأصناف الناس يجب أن يكون وفق العقيدة التي يعتقدها كل صنف، فالمبتدع له نمط، والعاصي له نمط، والكافر له نمط، الرسول عليه الصلاة والسلام قال -كما في صحيح مسلم-: ( لا تبدءوا اليهود والنصارى بالسلام، وإذا لقيتموهم في طريق فاضطروهم إلى أضيقه ) ضيق عليه، وهذا حديث في صحيح مسلم، أين ذهبت هذه الأحاديث؟! انتهى التخريف والتجديف مذاهب العلماء في ابتداء أهل الكتاب بالسلام: كان الصحابة رضي الله عنهم يبادرون غير المسلمين إلى السلام، تعلموا ذلك من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يكن أحد منهم يراه فعلا حراما أو مكروها لأن الحديث المنكر موضوع المقال لم يكن ظهر بعد. وسنذكر شيئا من ذلك في حينه، فمذهبهم هو الإباحة، وفي ذلك حجة على بطلان خرافة سهيل بن أبي صالح رحمه الله. أما السادة الفقهاء الذين عاصروا سهيلا أو جاؤوا بعده، فإنهم اختلفوا بسبب خرافته في حكم مبادءة غير المسلمين بالسلام على المذاهب الآتية: الأول: إباحة المبادرة إلى السلام دون شروط، وهو رأي محمد بن كعب القرظي وابن محيريز والأوزاعي وسفيان بن عيينة وغيرهم، وهو قرينة على عدم صحة الحديث عندهم. الثاني: إباحة المبادرة إلى السلام عند الحاجة والضرورة والمصلحة، وهو مذهب إبراهيم النخعي وعلقمة والحنفية وابن بطال المالكي، وهذا المذهب نوع من النفاق والخداع، فلا يليق بالانسان المسلم أن يقع فيه، ولست أفهم كيف يفتي فقهاء كبار بمثل هذا الهراء. الثالث: إباحة المبادرة إلى السلام شريطة أن يكون بغير تحية الإسلام، كأن يقول: صباح الخير ونحو ذلك، وهو مذهب أحمد بن حنبل، ولا دليل على هذا القول إلا الظن والتخرص، وفيه مناقضة للثابت عن النبي وأصحابه فإنهم كانوا يحيون غيرهم بتحية السلام، ويبقى هذا المذهب أفضل حالا وأخف ضررا. الرابع: كراهة المبادرة إلى السلام، وهو قول عمر بن عبد العزيز ومالك بن أنس وبعض الشافعية، ولا دليل على هذا الرأي إلا خرافة سهيل التافهة. الخامس: تحريم المبادرة إلى السلام: وهو المشهور عند الشافعية، وبه قال الصنعاني في سبل السلام، وهذا أقبح المذاهب وأحمقها لأنه أخذ بظاهر خرافة سهيل ولم يعر اهتماما لما يعارضه. وبالجملة، فجمهور السادة العلماء على رأي الكراهة، وتعني استحسان عدم مبادءة أهل الكتاب بالسلام، وخالفهم الشوافع ومن وافقهم، وهو الرأي الشائع بين أشباه العلماء اليوم. ونحن نبرأ إلى الله من حديث سهيل بن أبي صالح، وننفي بالاستناد إلى قواعد الدين وثوابته المقررة أن يكون صادرا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل نقسم بأغلظ الأيمان أنه محرّف مزوّر على يد سهيل الذي أصابه الاختلاط قبل موته فلم يعد يميز بين أفكاره وأقوال الناس وأحاديث رسول الله صاحب الخلق العظيم. وفي الأجزاء القادمة سنفصل بإذن الله أسباب طعننا في "الحديث" من جهة المتن/المضمون المناقض لكتاب ربنا وسيرة نبينا ومقاصد ديننا، ومن جهة السند الذي يدور على سهيل بن ذكوان المجرّح المضعف عند المحقّقين في حاله كالبخاري وابن معين والرازيين. خطيب جمعة موقوف بسبب مقالاته وآرائه، ومنها تضعيف بعض الأحاديث المسيئة للإسلام والمسلمين [email protected]