الأزمي: لشكر "بغا يدخل للحكومة على ظهرنا" بدعوته لملتمس رقابة في مجلس النواب    أخبار الساحة    الدار البيضاء.. توقيف المتورط في ارتكاب جريمة الإيذاء العمدي عن طريق الدهس بالسيارة    تقديم «أنطولوجيا الزجل المغربي المعاصر» بالرباط    أجماع يعرض جديد حروفياته بمدينة خنيفرة        تقديم العروض لصفقات بنك المغرب.. الصيغة الإلكترونية إلزامية ابتداء من فاتح يناير 2025    أطباء القطاع العام يخوضون إضرابا وطنيا لثلاثة أيام مع أسبوع غضب    في الحاجة إلى تفكيك المفاهيم المؤسسة لأطروحة انفصال الصحراء -الجزء الثاني-    بووانو: حضور وفد "اسرائيلي" ل"الأممية الاشتراكية" بالمغرب "قلة حياء" واستفزاز غير مقبول        بمناسبة رأس السنة الأمازيغية.. جمهور العاصمة على موعد مع ليلة إيقاعات الأطلس المتوسط    فيديو "مريضة على نعش" يثير الاستياء في مواقع التواصل الاجتماعي    الكرملين يكشف حقيقة طلب أسماء الأسد الطلاق ومغادرة روسيا    المغرب-الاتحاد الأوروبي.. مرحلة مفصلية لشراكة استراتيجية مرجعية    الجزائريون يبحثون عن متنفس في أنحاء الغرب التونسي    نيسان تراهن على توحيد الجهود مع هوندا وميتسوبيشي    محمد صلاح: لا يوجد أي جديد بشأن مُستقبلي    تعيين مدرب نيجيري لتدريب الدفاع الحسني الجديدي لكرة الطائرة    سوس ماسة… اختيار 35 مشروعًا صغيرًا ومتوسطًا لدعم مشاريع ذكية    النفط يرتفع مدعوما بآمال تيسير السياسة النقدية الأمريكية    أسعار اللحوم الحمراء تحلق في السماء!    توقعات أحوال الطقس اليوم الإثنين    غضب في الجارة الجنوبية بعد توغل الجيش الجزائري داخل الأراضي الموريتانية    نادي قضاة المغرب…تعزيز استقلال القضاء ودعم النجاعة القضائية        بنما تطالب دونالد ترامب بالاحترام    "سونيك ذي هيدجهوغ 3" يتصدر ترتيب شباك التذاكر    تواشجات المدرسة.. الكتابة.. الأسرة/ الأب    تولي إيلون ماسك لمنصب سياسي يُثير شُبهة تضارب المصالح بالولايات المتحدة الأمريكية    أبرز توصيات المشاركين في المناظرة الوطنية للجهوية المتقدمة بطنجة    تنظيم كأس العالم 2030 رافعة قوية نحو المجد المغربي.. بقلم / / عبده حقي    شكاية ضد منتحل صفة يفرض إتاوات على تجار سوق الجملة بالبيضاء    تصنيف التنافسية المستدامة يضع المغرب على رأس دول المغرب العربي    إعلامية فرنسية تتعرض لتنمر الجزائريين بسبب ارتدائها القفطان المغربي    إدريس الروخ يكتب: الممثل والوضع الاعتباري    السلطات تمنع تنقل جماهير الجيش الملكي إلى تطوان    شركة Apple تضيف المغرب إلى خدمة "Look Around" في تطبيق آبل مابس.. نحو تحسين السياحة والتنقل    حكيم زياش يثير الجدل قبل الميركاتو.. الوجهة بين الخليج وأوروبا        الموساد يعلق على "خداع حزب الله"    اختتام أشغال الدورة ال10 العادية للجنة الفنية المعنية بالعدالة والشؤون القانونية واعتماد تقريرها من قبل وزراء العدل في الاتحاد الإفريقي    شركات الطيران ليست مستعدة للاستغناء عن "الكيروسين"    أنشيلوتي يشيد بأداء مبابي ضد إشبيلية:"أحيانًا أكون على حق وفترة تكيف مبابي مع ريال قد انتهت"    معهد "بروميثيوس" يدعو مندوبية التخطيط إلى تحديث البيانات المتعلقة بتنفيذ أهداف التنمية المستدامة على على منصتها    كيوسك الإثنين | إسبانيا تثمن عاليا جهود الملك محمد السادس من أجل الاستقرار    مواجهة نوبات الهلع .. استراتيجية الإلهاء ترافق الاستشفاء    إنقاذ مواطن فرنسي علق بحافة مقلع مهجور نواحي أكادير    خبير أمريكي يحذر من خطورة سماع دقات القلب أثناء وضع الأذن على الوسادة    لأول مرة بالناظور والجهة.. مركز الدكتور وعليت يحدث ثورة علاجية في أورام الغدة الدرقية وأمراض الغدد    دواء مضاد للوزن الزائد يعالج انقطاع التنفس أثناء النوم    أخطاء كنجهلوها..سلامة الأطفال والرضع أثناء نومهم في مقاعد السيارات (فيديو)    للطغيان وجه واحد بين الدولة و المدينة و الإدارة …فهل من معتبر …؟!!! (الجزء الأول)    حماية الحياة في الإسلام تحريم الوأد والإجهاض والقتل بجميع أشكاله    عبادي: المغرب ليس بمنأى عن الكوارث التي تعصف بالأمة    توفيق بوعشرين يكتب.. "رواية جديدة لأحمد التوفيق: المغرب بلد علماني"    توفيق بوعشرين يكتب: "رواية" جديدة لأحمد التوفيق.. المغرب بلد علماني    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



وقفة علمية مع الدكتور بنكيران حول مولد النبي العدنان
نشر في هسبريس يوم 28 - 12 - 2015

نشر الأستاذ الجامعي السيد الدكتور رشيد بنكيران يوم الخميس بتاريخ 17/12/2015، بموقع هوية بريس، موضوعا بخصوص مناسبة المولد الشريف أسماه: (كلمة ذهبية في الاحتفال بالمولد النبوي).
ثم قام حفظه الله بنشره في صفحتي تعليقا على الجزء الأول من سلسلة: (التدليل على استحباب الاحتفال بمولد النبي الجليل).
وبعد شكره على التفاتته الكريمة لصفحتي ومنشوراتي، فإنني أستأذنه في مناقشة ما تضمنه مقاله المذكور عبر هذه الوقفات العلمية الهادئة الهادفة:
الوقفة الأولى:
إنك يا سيدي الدكتور المحترم لم تكلف نفسك الإجابة العلمية على ما طرحته في الدليل الأول، فإما أنك استشعرت قوته وبرهانيته فأحجمت عن خوض لجة محاولة الرد عليه، وهذا هو الظاهر.
أو أنك تراه كلاما تافها لا يستحق المناقشة، وهذا منقوض باضطرارك للتعليق عليه من خلال كلمتك الذهبية، ومفتقر إلى بيان أوجه تفاهته لإقناع المتابعين.
أو أنك لم تقرأ مضامين دليلي استهانة بها أو تكاسلا، وليس هذا من أخلاق العلماء ولا من سمات الباحثين عن المعرفة الحق.
وأيا كان الأمر، فخوضك في المسألة يلزمك بالجواب على الأسئلة التي ذيّلت بها الجزء الأول، فأذكرك بها وأنتظر ومعي كل القراء جوابك الموضوعي العلمي عليها، فهاكها:
هل تعظيم رسول الله أصل من أصول الدين أم من فروعه؟ وهل حصر الشارع الحكيم تعظيمه في وسائل محددة نهانا عن الزيادة عليها أم ترك لنا الحق في الإبداع؟ وهل تفنن السلف الصالح في ابتداع أشكال مختلفة من التعظيم، أم اكتفوا بالطاعة والاتباع والصلاة عليه؟ وهل الاحتفال من خلال الاجتماع في مسجد أو بيت لسماع المواعظ والمديح وتناول المباحات، وتزيّن أبنائنا يوم المولد والتوسعة عليهم بالمناسبة أمور تدخل في العبادة لرسول الله وتأليهه؟ وإذا لم تكن كذلك، فبأي حجة تحرمون الاحتفال الذي هو عمل بروح حديث: (لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مرم)؟ وأخيرا: أيهما أفضل عندكم أيها المساكين المتعنّتون: مسلم مفتون منحرف لا يحضر أي مجلس من مجالس المسلمين؟ أم مسلم مفتون منحرف إلا أنه يحضر الاحتفال بالمولد ليشارك المسلمين فرحهم بنعمة الانتماء لأمة الإسلام، ويبرهن على محبته لرسول الله، فيسمع الموعظة، ويصلي على الحبيب، ويطعم الكسكس المخضّر بالزبيب؟
الوقفة الثانية:
سقت يا سيدي كلاما للشيخ القرضاوي في موضوع المولد، وجعلته قاعدة انطلاقك لاستخلاص بدعية المولد، وهذا تصرف خطير من رجل أكاديمي يفترض فيه أن يكون أمينا على أقوال الرجال أمثال إمام العصر، وإليك البيان:
لقد أوهمت القراء أن العلامة القرضاوي يرى عمل المولد بدعة، وهذا نوع تدليس وتحريف سيدي، لأن كلامه المنقول لا يفيد شيئا من ذلك، ولأن موقف الرجل معروف مشهور قبل نشره كتاب "فقه الأولويات" وبعده، وهو أن الاحتفال بالمولد عمل حسن إذا خلا من المنكرات، فمقاطع الفيديو القديمة والحديثة لمقابلاته في برنامج الشريعة والحياة بمناسبة المولد، وخطب الجمعة له بالمناسبة، وفتاواه المكتوبة والمسموعة، وتهنئته للأمة بحلول المولد كل عام آخرها هذه الأيام شاهدة على ما نقول ناسفة ما تقول.
إن كتاب "فقه الأولويات" نشر بداية التسعينات من القرن الماضي، حيث كانت الحرب الفكرية حامية بين الحركات الإسلامية والتيارات الوهابية المعاصرة، وبين رموز الطرق الصوفية والحركات السلفية والشخصيات المحسوبة عليها، فجاء الكتاب ليضع خارطة طريق لعلماء الأمة ودعاتها ومثقفيها العاملين للإسلام، ويرشدهم إلى احترام الأولويات والتعاون عليها وترك الخلافات جانبا، ومنها الخلاف حول الاحتفال بالمولد والذي كان فرصة ليرمي المجوّزون خصومهم بعدم الأدب مع رسول الله، ومناسبة لينعت المحرّمون المحتفلين بالضلال والانحراف والابتداع، ولم يكن العلامة القرضاوي حينئذ محسوبا على المحرّمين المتعنتين، بل كان على نفس الموقف الذي يجهر به الآن.
وعندما تتعمد يا سيدي نقل ما قاله العلامة منذ ثلاثين سنة، وتعرض عما صرح به كلاما وكتابة إلى شهرنا هذا، فأنت تتقصد التعمية على موقف الرجل حفظه الله، والتعمية أخت الكذب، ومعاذ الله أن نصفك به.
لقد نقلت من كتاب الإمام أنه قال: أما (مولد النبي) فلم يعره القرآن التفاتاً، فدل على أنه أمر غير ذي بال في الحياة الإسلامية، إذ لم يرتبط به معجزة كما ارتبط بميلاد المسيح، كما لم يرتبط به عملٌ أو عبادة تطلب من المسلمين على وجه الإيجاب، ولا على وجه الاستحباب. فهذا المعيار لا يخطئ، لأن القرآن هو عمدة الملة، وأصل الدين، وينبوع الإسلام، والسنة إنما تأتي شارحة ومبينة”.
فهل يستطيع أي عاقل أن يستخرج من هذا الكلام أن عمل المولد بدعة في معتقد القرضاوي بارك الله في علمه وعمره؟ وأين هي العبارة أو الإشارة التي دلتك على ذلك؟
إن كلامه واضح ميسر، يوم المولد لم يهتم به القرآن، لذلك فهو يوم كسائر الأيام، لا يجب أن يخص بعبادة ولا يستحب.
والفطن الذي يقرأ كلام الرجل على ضوء موقفه الصريح في الموضوع، وفي سياق نشر كتاب "الأولويات"، وانطلاقا من كونه رمزا من رموز الإخوان المسلمين المشهورين قديما وحديثا بتعظيم المولد، يدرك بسهولة أن الاحتفال مباح عنده ليس إلا، وبالتالي لا يجوز عنده للمجوزين أن يقدحوا في محبة المحرمين لنبيهم أو يعقدوا الولاء والبراء عليه.
وأيا كان مدى تسليمكم بما قلته، فالمعول على آخر ما صدر عن الشيخ، وهو تراجعه عن اعتبار يوم المولد كباقي أيام الله، فمعتقد الرجل اليوم أنه مناسبة إسلامية عظيمة ينبغي استثمارها لتوثيق الصلة بنبي الله وجمع كلمة الأمة على رايته والتعريف بشمائله بين شعوب العالم.
الوقفة الثالثة:
الاستهانة بيوم ميلاد رسول الله بناء على عدم التفات القرآن إليه، خطأ جسيم لم يقصده العلامة، وقد تراجع عنه كما قلنا قريبا، لكنه بالنسبة إليكم سيدي خطأ فاحش لأنكم لم تلتفتوا إلى براءة الشيخ منه، ولأنكم تلقيتم الخطأ بتسليم وتقليد باردين يعاب على أمثالكم الهوّي فيه، وهذا التفصيل:
أولا: القرآن لم يذكر نزول المسيح، ولا ظهور الإمام المهدي... آخر الزمان، فهل تتجرأ على اعتبار كل ذلك أمورا تافهة لأن المعيار هو ما اهتم به كتاب الله؟
ثانيا: النبي الذي أنزل عليه القرآن وكلف بتبليغه وبيانه، كان يصوم يوم الاثنين لأنه يوم ولادته، أي أنه كان يقدسه ويعظمه أسبوعيا، فتركتم أخي الأستاذ سنة رسول الله الصريحة المليحة، وتمسكتم بعبارات الإمام الخطأ القبيحة.
ثالثا: دعانا القرآن إلى تعظيم نبيه، وتخليد يوم ولادته وجه من أوجه تعظيمه كما شرحنا في الجزء الأول من "التدليل"، فكيف يقال إن القرآن لا يهتم بيوم المولد؟
رابعا: أخطأ العلامة القرضاوي قبل ثلاثين سنة لما صرح في "الأولويات" بأن حدث المولد النبوي غير مهتم به في القرآن، خلافا لميلاد المسيح عليه وعلى أنبياء الله السلام، ثم تراجع عن ذلك بالصوت والصورة، وبقيتم أنتم سيدي متمسكين بهذا الخطأ الجسيم، فالقرآن لم يمنّ على البشرية إلا بميلاد النبي الخاتم المفضي لبعثته حتما:
قال الله تعالى: ( لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ ).
أي اشكروني معشر قريش إذ أرسلت إليكم نبيا من جنسكم، أنتم آباؤه وأجداده وعشيرته، فولادته بينكم ومنكم منة عظمى.
وقال سبحانه: ( لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْ أَنفُسِهِمْ ).
أي: لقد أكرمتكم معشر المهاجرين والأنصار إذ أرسلت فيكم رجلا من صلب قريش، وأصله من جهة أم جده لأبيه مدني نجاري.
وقال جل وعلا: ( وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ ).
أي بميلادك وبعثتك فإني رحمت العالمين.
وقال الحق: ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءكُم بُرْهَانٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُّبِينًا ).
البرهان هو رسول الله، والنور المبين هو القرآن الكريم، فالله يمنّ على الناس ببعثة رسوله، ويقدمها على الامتنان بإنزال كتابه، فافهم أيها الألمعي إشارات القرآن الصريحة.
وفي كتاب الله آيات أخر دالة على أن نبينا محمدا أعظم نعمة تفضل بها سبحانه على خلقه، ومحمد هو الميلاد والبعثة.
فهل يتجرأ مؤمن عاقل بعد هذا على أن يعدّ يوم ميلاد رسول الله غير ذي بال؟ وأن القرآن الكريم لم يعن به بل أهمله؟
الوقفة الرابعة:
قال الدكتور المحترم: ( وفي خصوص مولد النبي، فقد دل عمل الصحابة على عدم التفات إليه إطلاقا، والتزاما بقوة هذين المعيارين الذين لا يخطئان أبدا، فإن الأئمة الأربعة لم يلتفتوا إلى الاحتفال بمولد النبي عليه الصلاة والسلام رغم معرفتهم بالنصوص الشرعية التي يستدل بها المجوزون من المتأخرين، فعن هؤلاء الأئمة الأربعة وغيرهم من أئمة الحديث رويت، وعنهم أخذها المتأخرون، إلى أن جاء القرن الرابع الهجري وأحدث الفاطميون الشيعة الاحتفال بالمولد. وإن تعجب فعجب من صنيع مجوزي الاحتفال بالمولد، إذ أنهم يسوقون تلك النصوص الشرعية مستدلين بها -إيهاما منهم- أن مسألة الاحتفال هي مسألة فقهية، وهذا غير صحيح البتة، فإن تلك النصوص الشرعية كانت بين أيدي الصحابة أولا، ثم علم بها الأئمة الأربعة، وغيرهم من علماء القرون المفضلة التي شهد لهم رسول الله بالخيرية، إلا أنهم لم يفهموا منها ولم يستنبطوا منها جواز الاحتفال بذكرى المولد كما فهمه منها المجوزون...).
وجوابا على هذا قلت في الجزء الأول من "التدليل" وما التفت السيد بنكيران: ( ... فهم الصحابة أن تعظيم جناب النبوة وإعلان شديد محبته مجال مفتوح لأذواقهم ما لم يقعوا في التأليه والعبادة، فتفننوا في ابتداع أشكال وألوان من التعبير عن شعورهم بعظمة رسول الله في نفوسهم دون أن يقترح عليهم بنفسه كيف يظهرون ذلك التعظيم، ودون أن يعترض عليهم لأنهم لا يرقون بالتعظيم إلى التأليه والعبادة.
كان بعضهم يستحي من النظر إلى وجهه الشريف، ويجلسون عنده لا يتحركون كأن الطيور على رؤوسهم، وما نهاهم عن ذلك.
وكان آخرون يتصيدون لحظة بصاقه وتنخمه فيحرصون أن يقع البصاق بأيديهم فيتبركون بدهنه على وجوههم، وما أمرهم بذلك.
وبعضهم كانوا يحيطون به عند الحلاق دون دعوة منه، فيتسابقون على شعره الطاهر المتساقط.
وبلغ الإبداع عند بعضهم درجة شرب بوله ودم حجامته حتى تختلط فضلاته عليه السلام بدمائهم فيضمنون النجاة من النار، وما أمر ولا نهر رغم اسقباح الطبيعة البشرية لهذين الفعلين، لكن العاشق المغرم معذور.
وهذه صحابية تحرص على جمع عرقه صلى الله عليه وسلم لتتطيب به بدل المسك والعطور، فيعذرها وما نصح بذلك.
وهذا عبد الله بن عمر رضي الله عنهما يتتبع رسول الله من خلفه حتى يضع قدمه موضع موطئه عليه السلام، وكان بعد موته يقصد شجرة باستمرار لينام تحتها لأنه رأى حبيبه استراح هناك مرة، وكان مسافرا فبلغ موضعا معينا ففرض على دابته أن تطوف وتدور لأنه رأى جمل رسول الله يدور به هناك يوما ما، رغم أن طواف الجمل لم يكن بإرادته عليه السلام.
وطالع تراجم الصحابة تطلع على العجب العجاب من هذا الباب.
وبناء على ما تقدم، توصل السلف الصالح من التابعين وأتباعهم إلى النتيجة المنطقية وهي: كل وسيلة دالة على تعظيم رسول الله مشروعة ما لم تكن تأليها وعبادة.
وانطلاقا من هذا الأصل الشرعي طفقوا يبدعون ويبتدعون وسائل التعبير عن تعظيم نبيهم الذي لم يدركوه.
فابتدع الإمام مالك وسيلة خاصة به، فكان لا يخرج إلى مجلس رواية الحديث النبوي حتى يغتسل ويتطيب ويلبس أحسن لباس ويطيب المسجد بالبخور، وما أمر نبينا بذلك، ولا فعله كبار أصحابه.
وكان هو وآخرون لا يركبون الدواب في حرم المدينة خشية المرور على موضع وطئه قدم رسول الله، وكان بعضهم يمشون في المدينة ومكة حفاة للعلة نفسها.
وهذه سلوكات ما أمر بها رسول الله، ولم يلتزمها أحد من الصحابة الذين عبروا عن حبهم بطرقهم وفق أذواقهم ومشاعرهم، ولم ينكرها أحد من أئمة الدين، وأنى له، بل ذكروها في تراجم أصحابها على سبيل المدح والثناء والاستشهاد بها على صلاحهم.
وللمحدثين أعلم الناس بسنة رسول الله، باب أسموه "آداب طالب الحديث"، يقررون فيه بدعا حسنة ينبغي أن يلتزم بها الطالب والشيخ أدبا مع رسول الله وتعظيما لسنته، ويذكرون فيه تصرف الإمام مالك، وما كان يفعله الإمام البخاري قبل أن يدخل حديثا ما في صحيحه، حيث كان رحمه الله يتطهر ويصلي ركعتين استخارة لله، ثم إنه التزم كتابة الصحيح بجوار البيت الحرام، وكل ذلك بدع لم يفعلها قبله صحابي ولا تابعي ولا غيرهما، وما استقبح ذلك أحد، بل عدوا ذلك حجة على عصمة "صحيح البخاري" من وجود الأحاديث الضعيفة، وهذا ما نعارضهم فيه أشد المعارضة.
وبعد القرن الرابع الهجري، ابتدع شيوخ السنة من المحدثين والحفاظ احتفالا بختم صحيح البخاري تعظيما لرسول الله وتعبيرا عن فنائهم في محبته، فكانوا بعد الانتهاء من قراءة ودراسة كتاب الصحيح آخر العام الدراسي، يقيمون احتفالا عظيما يحضره العلماء والطلبة والمثقفون والعامة، فتلقى كلمات علمية بالمناسبة، ويشارك الشعراء بقصائدهم، ويستمعون إلى شيء من الإنشاد، ويفترقون على طعام وشراب.
وهذا الاحتفال بدعة حسنة لفوائدها العلمية والاجتماعية، ووسيلة اختارها المتأخرون للتعبير عن تعظيم نبي الله، وهي محل قبول من العلماء شرقا وغربا طولا وعرضا، وقد تواطأ أهل التعليم العتيق عندنا على تعويض صحيح البخاري بألفية ابن مالك النحوية، فقبل فصل الصيف تتوقف الدراسة ويقيمون احتفالا بختم الألفية، ويحضره المتشددون في "بدعة المولد" ويشاركون فيه بالكلمة والشعر وسماع المديح والأكل والشرب، وربما يأخذ بعض شيوخهم هدايا عينية أو نقدية مقدمة من أغنياء منطقة الاحتفال.
فقبح الله التناقض والتلاعب بالدين، يستحسنون الاحتفال بختم صحيح البخاري، ويحضرون ختم الألفية وغيرها، ثم يستقبحون الاحتفال بمولد رسول الله، فأي الفريقين أهدى سبيلا؟
ودون تبصر أو تعقل يصيحون قائلين: تعظيم رسول الله وإظهار محبته محصور بنصوص الشريعة في طاعة أوامره، والاقتداء بسنته، والإكثار من الصلاة عليه).
وقلت في "تشطيب الشبهات": (أولا: إذا كان ترك الرسول للشيء وعدم نهيه عنه لا يصلح دليلا شرعيا، فترك الصحابة أولى بعدم الاعتبار.
ثانيا: كانت ثقافة العرب في الجاهلية تتأفف من تعظيم الأشخاص وتخليد مآثرهم وإحياء موالدهم خلافا لكثير من أمم الأرض، لذلك لم يضعوا تماثيل لأبطالهم وزعمائهم رغم أنهم كانوا وثنيين يعبدون الأصنام.
ولمّا أكرمهم الله بالإسلام، فإن الصحابة رضي الله عنهم لم يتخلصوا من بقايا الثقافة الجاهلية، فلم يخطر ببالهم تعظيم اليوم الذي ولد فيه النبي عليه السلام.
وبطبيعة الحال، سيتمسك المعارضون بجملة: (لم يتخلصوا من بقايا الثقافة الجاهلية)، ويفسرونها على أنها قدح في الصحابة، لذلك نقول لهم: قال النبي لأحد أصحابه الكبار: "إنك امرؤ فيك جاهلية"، وأخبر أن أمته لن تتخلص من خصال أربع جاهلية، فصح ما قلناه.
ثالثا: لم تكن هناك حاجة تلهم الصحابة الاحتفال بمولد النبي الشريف، فقد أكرمهم الله بصحبته ومجالسته، فكانوا شباعا من محبته، غير محتاجين إلى مناسبة تذكرهم به حتى بعد موته، خلافا للذين من بعدهم.
وسنة الخلفاء الراشدين أن لا يحدثوا شيئا لا تدعو الحاجة والمصلحة إليه.
فإذا كان سيدنا أبو بكر ثم سيدنا عمر لم يزيدا الأذان الثاني يوم الجمعة، ولم يفرضا قراءة القرآن على حرف واحد، فلأن الحاجة لم تكن قائمة، أما زمن سيدنا عثمان فكان يقتضي ذلك، فابتدع الأذان الأول تذكيرا وتهيئة للغافلين.
وإذا كان سيدنا أبو بكر لم يحدث صلاة التراويح، فإن سيدنا عمر ابتدعها حفظا لصلاة القيام من النسيان وتنظيما.
وحينما ابتعدت الأمة عن زمن النبوة، وضعفت فيها مظاهر المحبة لنبيها، وانتشرت الغفلة عن أخباره ومآثره، ألهم الله الكريم بعض المسلمين إحداث الاحتفال السنوي بمولده الشريف، فرضي الله عنهم وجزاهم خيرا.
رابعا: أكرم الله تعالى الجيل القرآني بصحبة النبي عليه السلام فحرمهم من فضيلة الاحتفال بمولده الشريف، وقدّر علينا أن لا ندرك حبيبنا فألهمنا الاحتفاء بميلاده من خلال الأعمال الصالحة لعلنا نعوّض شيئا ممّا فاتنا.
خامسا: إذا وجدنا في كتاب ربنا أو سنة نبينا دليلا من النص أو القياس، فلا عبرة بسكوت الصحابة المرضيين وتركهم، لأن الاجتهاد ليس حكرا عليهم، والنبي أخبرهم أنهم قد يسمعون الحديث منه فلا يفقهونه أحسن ممن بعدهم، وذلك قوله في الحديث المتواتر: ( نَضَّرَ اللَّهُ عَبْدًا سَمِعَ مَقَالَتِي فَوَعَاهَا، ثُمَّ أَدَّاهَا إِلَى مَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا، فَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ لَا فِقْهَ لَهُ، وَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ إِلَى مَنْ أَفْقَهُ مِنْهُ ).
وقد وجدنا في الوحي والسنة نصوصا تدل على مشروعية الاحتفال بالمولد، فلا قيمة لترك الصحابة وعدم سبقهم، وشريعتنا تؤخذ من الكتاب والسنة والإجماع الصريح والقياس الصحيح).
فأرجو من الدكتور بنكيران أن ينكب على النقاش العلمي لهذين الجوابين، أما الكلام المرسل فكل من هب ودب يتقنه.
الوقفة الخامسة:
زعم الدكتور المحترم أن عمل المولد بدعة فاطمية رافضية، وهذا كلام مرسل لا أساس له ولا سند من التاريخ، ادعاه الأديب القلقشندي المتوفى سنة 821 ه في "صبح الأعشى"، ثم تبعه المؤرخ الأديب المقريزي المتوفى عام 845 ه في تاريخه، ولم يذكرا أي دليل موثق، وأعجب به محرمو المولد فعضوا بالنواجذ عليه، والذي عليه أئمة الحديث والتاريخ والفقه أنه من إبداع السلطان العالم العادل مظفر الدين كوكبوري المتوفى عام 630 ه، صرح بذلك كل من ترجمه، وكل من كتب في المولد كأبي شامة وابن حجر والسيوطي، بل إن الشوكاني حكى الإجماع على ذلك في فتاواه.
والدكتور مطالب بالحجة التاريخية لينجو من وصف حاطب ليل.
الوقفة السادسة:
قال الدكتور المحترم: ( ذهب أوائلهم -في بداية الأمر- إلى أن الاحتفال بالمولد مستحب، وهناك من شذ منهم وقال بالوجوب، وعد يوم المولد لا يجوز صومه كالعيد، ولكن المعاصرين من المجوزين الآن يقولون فقط بالإباحة، بناء على أن الاحتفال بالمولد من باب العادات وليس من باب العبادات. وهذا التخبط في الحكم في المسألة عند المجوزين يدل دلالة واضحة أن مسألة الاحتفال بالمولد ليس مسألة فقهية، وأن النصوص الشرعية التي سيقت لأجل ذلك لا علاقة لها بأصل المسألة... وإذا تقرّر أن الاحتفال بالمولد ليس مسألة فقهية فيجب أن يعلم أن هذه المسألة هي من المسائل المنهجية بين أهل السنة وأهل البدعة ). ه
عجبا لرجل أكاديمي ينطق بمثل هذه الأقوال التي أستحي وصفها بالسخافة:
أولا: لو فتش الدكتور عمره ما وجد عالما معتبرا يرى الاحتفال بالمولد واجبا، ونحن نطالبه بالإثبات أو الاعتذار ليبرأ من تهمة المجازفة.
ثانيا: الذين قالوا بأن المولد عيد لا يجوز صيامه، صرحوا بالكراهة لا التحريم، ومعلوم عند كل مبتدئ أن مقابل الكراهة هو الاستحباب لا الوجوب، ومن هنا تورّط فضيلة الدكتور، وهذه أقوالهم الصريحة الواضحة:
قال العلامة الخرشي في شرح مختصر خليل: وكره بعض صوم يوم المولد، أي لأنه من أعياد المسلمين. وفي حاشية الدسوقي وحاشية الصاوي: تَنْبِيهٌ: من جُمْلَةِ الصِّيَامِ الْمَكْرُوهِ كما قال بَعْضُهُمْ صَوْمُ يَوْمِ الْمَوْلِدِ الْمُحَمَّدِيِّ إلْحَاقًا له بِالْأَعْيَادِ. ه
فإن كان يا سيدي ما نسبته بخصوص الوجوب مأخوذا من هذه الأقوال، فأنت مقصر في تدبر كلام الفقهاء متسرع في الاستنتاج.
ثالثا: من مسلمات العلوم الشرعية إلحاق المسائل المختلف فيها بأبواب الفقه الاجتهادية، حتى لا تلحق بأصول الاعتقاد فتكون مطية للتضليل والتبديع المتبادل.
والمولد النبوي معدود ضمن مسائل الاجتهاد الفرعية الفقهية الخلافية عند المجوزين والمحرمين، لذلك بحثوه في كتب الفقه أو أفردوه بالتأليف، ولم يذكروه في كتب الكلام والعقيدة سيدي الأكاديمي المحترم.
رابعا: نفي علاقة النصوص المحتج بها بموضوع محدد لعلة اضطراب الآراء واختلافها، معيار مضحك أبدعته قريحة الدكتور المحترم.
وبناء على هذا المعيار العجيب، فاختلاف الفقهاء في مدة عدة المطلقة مثلا، يجعل قوله تعالى: (والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء) غير ذي صلة بموضوع الطلاق، واختلاف الفقهاء في قراءة الفاتحة خلف الإمام في الصلاة الجهرية يقطع الصلة بين الآية والأحاديث الواردة في الباب وبين الموضوع، وهكذا...
أرجو أن يراجع فضيلة الدكتور تصوراته وتقريراته المبنية على المجازفة، فإنه مؤتمن على عقول الطلبة، والسلام عليه وعلى الجميع، وعيدكم مبارك سعيد.
طنجة عشية 24/12/2015.
*خريج دار الحديث الحسنية، وخطيب جمعة موقوف بسبب مقالاته وآرائه
[email protected]


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.