لا يُجادل اثنان بالمغرب في أنَّ إسمهان عَمّور صوت إذاعي مُتميز في فرادته وخُصوصيته؛ ولأنها تعشق المُغامرة فقد اختارت عن قصد طريق المُغامرين، لأن "الأدبُ الحقيقيُّ دائمًا ما يتحدَّثُ عن الخاسرين، أما الرابحون فعادة ما يربحونَ بالمصادفة"، كما يقول الكاتب الإيطالي أومبَرتو إيكو. إسمَهان اختارت الاصطفاف مع "الخاسرين" حتى يكون ربحها بالجد والمثابرة والمغامرة وليس بالمُصادفة، تُلاحق المُبدعين والمُفكرين في كل المهرجان واللقاءات والندوات لتنبش في مشاريعهم وهمومهم وخسارتهم، ولها في الإذاعة الوطنية أرشيف عامر بالبرامج الأدبية، أشهرُها "حبرٌ وقلم". معها كان لنا لقاء، وهذا الحوار: بعيدا عن اسم الشهرة، من تكون إسمهان عَمّور؟ إسمهان عَمّور مواطنة مغربية أمازيغية من الأطلس المتوسط، وتحديدا من منطقة جميلة جدا لكنها مهمشة بامتياز هي "هَرْمومو"، أو ما يعرف اليوم ب"رباط الخَيْر".. مدينة جبلية صغيرة لكنها جميلة. لديّ ثقافة مُزدوجة عربية- فرنسية، بالإضافة إلى الأمازيغية، لكني تربيّت في مدينة وجدة لظروف اجتماعية، بحكم عمل والدي مع القوات المسلحة الملكية، وبالتالي كنت رهينة تنقلات متعددة، مكنتني من الاطلاع على ثقافات المغرب المُتنوعة التي تشكل هويتنا الوطنية، كما ساهَمت في تكوين شخصيّتي. إسمهان عمور كذلك زوجة الحسين العمراني، الإعلامي المتميز في الإذاعة الوطنية، الذي أعطى صوته للمُهمشين في الأرض، وأيضا أم عبير، خريجة مدرسة الاقتصاد، وأسامة. كما أنني خريجة كلية الآداب بجامعة محمد الأول بوجدة دفعة 1986، بعدها التحقت بالإذاعة الوطنية سنة 1987.. حدث ذلك بالصدفة، لكنه لا يمنع من أنني كنت مَهووسة بالبرامج الإذاعية والمسلسلات. الإعلام المَسموع له مكانته ومُميزاته، من قبيل "ردّ الفعل السريع، وسُرعة البَديهة...إلخ"، هل فكرت عمّور في اقتحام مجال الصحافة المكتوبة أو المرئيّة، التي قد تختلف في بعض جوانبها عن الجنس الأول؟ الصحافة عموما تتطلب أن يكون للإنسان حبُّ المهنة أولا، وأن يكون مَوهوبًا في المجال ثانيًا، لأننا في آخر المطاف لا نعتبر أنفسنا موظفين، بقدر ما نحن مبدعين في الميدان الذي نشتغل فيه. فكل مجال له هامشٌ من الإبداع والفن، وأنا أعتبر نفسي فنانة بامتياز في مَيداني، كما يتفنّن المبدع في كتابة القصة أو القصيدة والرواية، أو في مجالات إبداعية أخرى؛ لأن الجميع في نهاية المطاف يشتغل على المُتخيَّل بالدرجة الأولى، حتى إن اختلفت آليات الاشتغال. عِشْقي للإذاعة كان ولازال كبيرا جدا، لأن الإعلام السمعي له سحرُه الخاص عندي. هذا العشق أضفى عليَّ مسحة كبيرة من الخيال من منطلق ذاتي مَحض؛ وهذا هو سِرٌّ الاختلاف عن الصحافة المكتوبة، رغم أنهما يُساهمان معًا في الرفع من الوعي الشعبي بشكل كبير، عبر تغطية بعض الوقائع من خلال المواكبة اليومية، وكذا مُقاربة بعض المواضيع التي لازالت إلى حد الآن طابوهات في المجتمع المغربي. لكن يبقى للإذاعة سحرها الخاص في المجال الثقافي تحديدًا، لأنه إذا تحدثنا عنها بمرجعيّة أنتروبولوجية نكون قد فتحنا مَخزونًا ثقافيًّا هائلا، بالنظر إلى مستوى الأسماء الوازنة التي توالت على تقديم برامج ثقافية مُتميزة في هذه البرامج، سواء في الأدب: قصة- قصيدة- رواية، أو الندوات الفكريّة عمومًا، والتي شارك فيها كبار المُبدعين والمُثقفين من المغرب والعالم العربي، بالإضافة إلى الأطروحات التي تُنقل مباشرة من الجامعات. لن أقول إن العمل الإذاعي سهل مقارنة بنظيريه المَرئي أو المَكتوب، ولو نظرنا إليه من مرجعية صحافية نجدُ أنه من الصعب الوصول إلى بعض المستويات التي وصل إليها إذاعيون وإذاعيات مغاربة سبقونا، وكانوا متخصصين، كل في مجاله.. لكن الشق الثقافي بحد ذاته صعب، ولا يمكن استسهاله، خصوصا إذا كان للصحافي مرجعيته الخاصة وثوابته الفكرية؛ لذلك أعتبر أن العمل في المجال الثقافي واجهة نضالية لها ثمنها، ونحن رغم كل ذلك نحاول وبإصرار أن تظل الثقافة حاضرة بقوة في المَشهد الإعلامي المغربي، مَهما كان الحَيِّز الزمني ضَيِّقًا. الصحافة مهنة المَتاعب مثل ما هو معروفٌ عنها، أين تتجلى صعوبة العمل الإذاعي المَسموع؟ مع هذه الصعوبات، تُصبح الأمور أكثر يُسرًا في الحالات التالية: 1- إذا كان الإعلامي يُؤمن بالعمل الذي يُقدمه في إطار مُقاربة إعلاميّة. 2- أن يتمكن الإعلامي من آليات ثقافة الحوار. 3- أن تكون للإعلامي سرعة البديهة بشكل كبير جدَّا، خاصة في البرامج المباشرة، التي كثيرًا ما نَسقط خلالها في مَطبّات رغم حِرصنا الشديد وتجربة طويلة نَجرُّها وراءَنا، وذلك من خلال مداخلات تكون غير مَحسوبَة أو مُنتظرة. في مثل هذه الحالات يجب أن يستحضر المُذيع كل مَلكاته وكاريزميته وحضوره القوي.. سلاح المُذيع هو صوته، لأنه يعوِّضه عن كثير من التقنيات المساعدة في أجناس أخرى من الصحافة المكتوبة والمرئية: الصورة- الإكسسوارات- الألوان- الماكياج- خلفية الشاشة- ... إلخ. هذه الخاصيّة المُتفردة توفرت لكثير من الإعلاميّين والإعلاميات في المغرب، مِمَّن تناوبوا على مايكروفون الإذاعة الوطنية، لكن للأسف بدأنا نفتقدُ خُصوصيّة الميكروفون الذي يعتمد بالدرجة الأولى على كاريزمية الصوت والحضور الوازن للمذيع نفسه، وبالتالي لا أعتقد أن هناك اليوم صعوبة في العمل الصحافي، في ظل توفر تكنولوجية حديثة وجدُّ متطورة قد تُغَيِّر حتى من نبرة الصوت، عكس ما كان عليه الأمرُ من قبل. مع ذلك تبقى هذه التكنولوجيا غير كافية، إذ لا بد من أن يكون للصحافي اليوم خلفية ثقافية ومرجعية فكرية، من أجل أن يتحكم في حوار الضيف، وألا يكون غائبًا عن الساحة الثقافية، كي يتفاعل مع المحاوَر بشكل جيّد. لكن بدأنا نسمع ما هو مستهجن في العمل الإذاعي، سواء من خلال اختيار المواضيع، أو من خلال غياب الأصوات المتميزة والجادة والقديرة والمُؤثرة، من عيار السيدة ليلى- زهور الغزاوي- نور الدين اكديرة- أمينة السوسي- خالد مشبال- بنعيسى الفاسي...إلخ. لم تعُد اليوم للميكروفون تلك القدسيّة، وبالتالي أصبح العمل الإذاعي مهنة من لا مهنة له. كيف تتعامل إسمهان عَمُّور مع الشهرة، وإن كانت هذه الأخيرة نسبيّة؟ إسمَهان لا تؤمن بالشُّهرة، ولا أعتبر نفسي مشهورة، كما أني لا أومن بالنُّجومية، لأنه أصلا ليس لنا نجوم في هذا المجال، والحمد لله، وإن وجدت، فهي تُحارَبُ سواء في الإذاعة أو التلفزيون. قديمًا كما قلت كان لنا نجوم فعلا، أمّا اليوم فإننا كإعلاميين في الإذاعة نكتفي بتقديم خدمة إعلامية للمُستمع فقط، ويبقى ربحنا الكبير هو حُبُّ المُستمعين والمثقفين. البرامج الثقافية لا تجلب المُسْتشهرين عادة، لأن الثقافة والفن آخر ما يُمكن أن يهتم به هؤلاء، هم يهتمون فقط بالبرامج ذات الأقنعة، كبرامج الماكياج والموضة وبرامج أخرى لا داعي لذكرها، وبالتالي نحن بعيدون كل البُعد عن الشهرة أو الأضواء، وهَمُّنا الوحيد في الإذاعة الوطنية هو تقديم خدمة للمواطن في الجانب الثقافي، لينخرط في المَشهد الثقافي لبلاده، وحتى العربي أيضا والعالمي ما أمكن. تجربة الإعلام الثقافي ماذا أعطتك؟ وماذا أخذت منك؟ الكثير ... أولا العمل الثقافي مكنني من مُواكبة الإصدارات والحركة الثقافية وطنيا وعربيا وعالميًّا، كما أكسبني قاموسًا لغويًّا رصينًا من خلال محاورة مرجعيات ثقافية كبرى في الإبداع والفكر، وكان لي شرف استضافة أسماء إبداعية كبيرة في العالم العربي، كنت أحلمُ بلقائها فقط وأنا طالبة. كنت أسمع أسماء ثقيلة في الإبداع مثل: أحمد بوزفور، إدريس الخوري، محمد زفزاف، محمد بنيس، وغيرهم من المغرب، كما كنت أسمع بعبد الوهاب البياتي، يوسف إدريس، محمد الفيتوري وغيرهم من الوطن العربي، قبل أن أُحاورَهُم. الإذاعة أعطتني كلُّ هذه الفُرَص للقاء أهرامات في الفن والأدب والإبداع عموما، ويُسعدني أن أسمع اعترافات وشهادات بأن أسمهان عمور محاورة جيدة، سواء منك أو من غيرك. كما مكنتني هذه البرامج الثقافية من سفريات مُتعددة لحضور مهرجانات عربية في الخليج والمغرب العربي كما في أوروبا؛ وبالتالي منحتني الإذاعة الشيء الكثير، وأعطتني الثقة بأن المجال الثقافي يُغني بشكل كبير، ليس بالمال طبعا.. هل الانتماء العربي/ الأمازيغي هو ما منحك هذا التميُّز في الصَّوت؟ الصوت منحة من الله تعالى، لكن سلامة النطق باللغة العربية مع كاريزمية الصوت وقوة الحضور أشياء نكتسبها. ربما هذه الأشياء جميعها أعطت التميز لإسمهان عَمّور؛ لكن هذا لا يمنع من الاعتراف بأن عندنا أصواتا جميلة جدا في الأخبار، وفي الإنتاج العربي بشكل عام، وشرف لي أن أكون تتمة لها. هل يمكن أن نعرف أهم المحطات في حياتك الإذاعية؟ هي محطات غنية، وكان الفضل فيها كله للإذاعة، لأنه لولاها لما كان صوتي وصل إلى الناس. الإذاعة بالنسبة لي هي "الدار الكبيرة". كان شرف لي أن يكون صوتي هو الصوت المغربي الوحيد الذي يتعامل مع "إم بي سي" في وقت من الأوقات، إذ اشتغلت معها لمدة أربع سنوات كمراسلة من المغرب لتغطية المهرجانات الثقافية والفنية والاجتماعية، فكان الصوت المغربي دائم الحضور لإعطاء صورة مُشرقة عن هذا الاختلاف والغنى والتنوع الذي نعيشه في المغرب، بالإضافة إلى أني كنت مراسلة للقناة الفضائية "بي بي سي" في برنامج "موزاييك"، وهو برنامج ثقافي. كما اشتغلت في القسم العربي مع قناة "دويتشه فيله" الألمانية في برنامج ثقافي كذلك، رفقة زميلي رشيد بوطيب، وهو دارس للفلسفة وحاصل على الدكتوراه في ألمانيا، كنا ننظم معًا صالونا ثقافيا عبارة عن (ديو) لمدة سنتين. في حواري معك ركزت على الصوت فقط، ماذا أضافت إسمهان عَمّور إلى هذه المَلكة من تكوينات؟ لم أستفد إلا من تكوين وحيد ويتيم في سوريا لمدة 15 يوما في إطار المركز العربي التابع لجامعة الدول العربية، للتدرب على النُّطق السّليم وطريقة الإلقاء والوقف، أطره خُبراء عرب وأجانب مُتخصصون في هذا المجال.