بشّر وزير الداخلية بزيادة في تعويضات أعوان السلطة من مقدمين و شيوخ نظرا لتفانيهم في القيام بمهامهم الجسيمة. فالشكر الجزيل للسيد وزير الداخلية، فالارتقاء بالوضعية المادية لأعوان السلطة ارتقاء بالوطن برمته. فما أعوان السلطة سوى مرآة الإدارة التي تظهر للملأ مدى شفافيتها و نظافتها و حداثتها. ولكن هل الزيادة في تعويضات هذه الفئة العاملة في سبيل الوطن كافية للرقي بالإدارة و جعلها في المستوى المطلوب؟ فمهما كانت قيمة التعويضات، فهي لا تحتسب في الأجرة الأساسية و بالتالي فلا قيمة لها حين احتساب تقاعد أعوان السلطة. فلا بد لأعوان السلطة أن يطمئنوا على مستقبلهم ما بعد التقاعد حتى ينجلي الخوف من المجهول من أذهانهم، فتتضاعف مردوديتهم و يزدادوا نخوة و تعفّفا... فإذا اعتبرنا، مثلا، أن عون السلطة، الذي يتقاضى 3000 درهم مع احتساب التعويضات، بعد 40 سنة تقريبا من الخدمة، يحصل على تقاعد بقيمة 900 درهم ، فهل هذا حافز لأعوان السلطة الشباب من أجل العمل في جو من النظافة و الشفافية... ؟ إذا فلا بد من زيادة محترمة في الأجرة الأساسية التي يتقاضاها أعوان السلطة حتى نكفّ عن الدوران في حلقة مفرغة مع تأجيل النهوض الحقيقي بأحوال الإدارة بشكل ناجع و فعّال إلى أجل غير مسمى. عفوا، و لكن هذه قضية كانت محط اهتمامي منذ زمن بعيد، أواخر التسعينيات، و لا أخفي أنني حينها عرفت ما معنى الأرق لأول مرة، و لعلّها المرّة الوحيدة، أو التي أذكرها جيدا، ذات ليلة مظلمة، بعدما توصلت مصالح الإدارة التي كنت أرأسها في بداية عملي في جهاز السلطة، بورقة من الخزينة العامة، بمثابة إذن باستخلاص مبلغ مالي -أو أجرة-، قصد تسليمها لعون للسلطة، تحدد مبلغ أجرته الشهرية في 310 درهم... و بعدها، ببضعة سنين كان اجتماع بين والي المدينة و رجال السلطة كنت ضمنهم. تكلم الوالي عن النزاهة مما سنح لي الفرصة لأطلب الكلمة، فقلت كيف يمكننا أن نتحدث عن النزاهة أو محاربة الرشوة أو الحث على اجتنابها و عون السلطة القروي الذي يعمل في المجال الحضري يتقاضى 310 درهم؟ كلامي للوالي تم نسيانه و تجاهله بطبيعة الحال، و مرت سنة أو سنتين إلى أن تم توقيفي عن العمل و إحالتي على المصالح المركزية، و القصة معروفة كما رواية "علي بابا و الأربعين كذابا" الخيالية. ولكن، بعدها، في سنة 2002 تحديدا، تدخلت الصحافة للتعريف بقضيتي كقائد موقوف عن العمل ظلما و عدوانا، فكتبت الصحافة و نشرت في خضم ذلك، بالبنط العريض، أن عون السلطة من صنف مقدم يتقاضى 310 درهم كأجرة شهرية، فكانت الصدمة قوية جدّا بالنسبة لعامّة الناس... و بعد شهور قليلة تلقينا جميعا، كمغاربة، أخبارا سارّة بشأن الزيادة في أجور أعوان السلطة. ثم تلت بعدها زيادات متتالية، إلى أن أصبح المقدم الحضري يتقاضى 2010 درهم مع احتساب التعويضات. فالصحافة إذا كانت هي من مكّنت من إماطة اللثام عن حقيقة الأجرة الهزيلة و المخجلة التي كان يتقاضاها أعوان السلطة، مما أدى إلى مضاعفتها عدة مرّات في سنوات قليلة. الحمد لله. اللهم اجعل مبالغ كل الزيادات في أجور المقدمين و الشيوخ صدقة جارية لكل من عمل أو تسبب في تمكينهم منها بنيّة صافية نقيّة خالصة لوجهك الكريم يا ربّ العرش العظيم. قضية أعوان السلطة قضية المغرب و المغاربة. فتحسين وضعيتهم تحسين لوضعية المغرب و المغاربة. لا شك أن مقدم الحي من الشعب و إليه، فتقاليده و أعرافه هي نفسها تقاليد و أعراف أفراد الشعب، و سلوكه و نهجه هو سلوك و نهج أفراد الشعب، و طبيعته و أخلاقه هي طبيعة و أخلاق أفراد الشعب، فمقدم الحي إذا هو الممثل الحقيقي لكافة سكان الحي، فهو منهم و إليهم، يشبههم و يشبهونه. أكاد أجزم أن أعوان السلطة من مقدمين و شيوخ يمثلون الشعب أحسن بكثير من العديد من البرلمانيين الذين غالبا ما لا يعيشون وسط الشعب و لا يتقاسمون معه حقيقة همومه، إلا من لغة خشب و وعود معسولة... إلا من رحم ربّي. أما أعوان السلطة فيعيشون وسط الشعب و يتقاسمون مع الشعب نفس المعيشة، كما يتقاسمون مع الشعب أفراحه و أحزانه.. بعيدا عن بريق الشاشات و أضواء الإعلام... كانت وضعية أعوان السلطة هشة جدا، و مع ذلك فكان من ضمنهم شرفاء نزهاء يستحقون جائزة النزاهة، في صنف المقدمين و الشيوخ، إن وجدت يوما... عرفت من ضمنهم مقدما قرويا كان يكره مدّ يده..، لا يعرف ألاعيب و لا مناورات في عمله. و من أجل مصروفه اليومي، كان يختفي لسويعات، بعد فترة العمل، و يختلط بالباعة المتجولين في نفوذ عمالة مجاورة لبيع بعض الأشياء الخفيفة من أمشاط و مشاط و بعض المعدات البلاستيكية و غيرها، فيحقق أرباحا يومية تقدر ب 15 من الدريهمات (خمسة عشر) تقريبا تمكّنه من شراء أكل يومه. و ذات يوم، سقط صريع الفراش حيث أصيب بمرض فتّاك فلم يجد فعلا ما يأكله، و لا من يطرق بابه ليسأل عنه و عن أحواله... و عرفت شيخا حضريا، عملة ناذرة، لا يمد يده أبدا لأي كان، فبعد 33 سنة من الخدمة كان يكتري حجرة واحدة و يفترش، مع أسرته المتكونة من خمسة أفراد، الأرض المجردة إلا من بعض الأكياس الفارغة و الأغراض البسيطة حدّ الفقر المدقع، و لا يتكلم عن فقره أبدا، و مع ذلك يتقن عمله و لا يشهد شهادة زور أبدا. المغرب ينفرد بنظام المقدمين و الشيوخ في العالم بأسره مما يجعله من أكثر البلدان توفرا على المعلومة الدقيقة و الحاسمة، و لهذا فمن الضروري العناية بهذه الفئة و الارتقاء بها إلى مستوى أحسن فأحسن. إخلاص المقدمين و الشيوخ، عموما، لرؤسائهم يبقى مذهلا بل أسطوريا في زمن تغيّرت فيه الكثير من الأوضاع و الأحوال في الإدارة العمومية بصفة عامة، بحيث أنهم يشتغلون حسب مزاج رئيسهم و فكره و منهجه و نهجه في العمل، كما أنهم يتأقلمون سريعا مع أي رئيس جديد ليعملوا وفق منظوره و بإخلاص تام. يمكن إذا أن نعتبر المقدمين و الشيوخ ذراعا قويا بحوزة الإدارة العمومية يمكن التعويل عليه في أكثر القضايا تعقيدا، يكفي حسن استعمال هذا الذراع المتين من أجل الرقي بالبلد الحبيب من الأفضل إلى الأفضل، شريطة العناية بهذه الفئة الاستثنائية من الأعوان. فلا يمكن، مثلا، أن يكلّف عون السلطة، المقدم أو الشيخ، بتوزيع المئات من إشعارات الضرائب، بمناسبة حملة من الحملات، قيقوم بالمهمة بسرعة و فعّالية مذهلة، ليتوصل في آخر المطاف موظف وزارة المالية أو مفتش الضرائب بثلاثة دراهم عن كل إشعار و لا يتوصل عون السلطة بأي شيء، و لو بسنتيمين إثنين... نعم، يجب العناية بهده الفئة من الأعوان، و في ما يلي بعض الاقتراحات: 1- أن يتم تعيين المقدم الحضري في المجال الحضري، و المقدم القروي في المجال القروي، فلا يجب أن يكون منصب "مقدم حضري" رتبة أو درجة يرتقي إليها المقدم القروي الذي يعمل في المجال الحضري... و ذلك احتراما للمنطق من جهة، و احتراما لكلا المجالين، القروي و الحضري، من جهة أخرى. 2- أن يتم تعيين المقدمين من ضمن الموظفين (أو الموظفات) المدرجين في السلم 7 أو 8، ثم أن يتم تحفيزهم بتعويضات محترمة بعد إخضاعهم لتدريب مدته 3 شهور على الأقل. 3- أن تكون للمقدمين و الشيوخ بذلة رسمية تخصهم و تميزهم يرتدونها في بعض الأوقات و المناسبات و ذلك للرفع من معنوياتهم. 4- أن تخصص لهم مؤسسة اجتماعية لرعاية شؤونهم الاجتماعية. 5- أن يتم استصدار القانون الأساسي لأعوان السلطة. 6- إضفاء صبغة المهنة الكاملة الأركان على مهام أعوان السلطة، و التعريف بها دوليا. و حبذا لو نظمت وزارة الداخلية بعض الندوات حول هذا الموضوع بتأطير أو بمشاركة بعض الخبراء و أصحاب التجربة من كل الأطياف، كلّ في مجال تخصصه. و شكرا على انتباهكم أيها القراء الشرفاء الأعزاء، و السلام عليكم و رحمة الله تعالى و بركاته.