كأن الفريق سعد الدين الشاذلي، انتظر فقط كي يشاهد بأم عينيه، الخيوط الأولى لبزوغ فجر جديد على هذه الشعوب العربية، وقد أزالت عنها أخيرا غبار تحنّط عفن، حين قلبت الطاولة في وجه أقزام مرضى، توهموا طويلا أنهم حقا حكام حكماء. نعم، بقي نظيفا وأبيا وشهما، حتى بداية تحقق التاريخ الذي أراده، ثم يرحل باسما وفي نفسه تصالح مع هذا العالم القاتم بعد أن تنكر ما أوسعه الأمر، للقيم الإنسانية النبيلة، التي استبسل القائد الشاذلي ومن هم على زمرته، كي تتربى الأجيال العربية على كنهها، وتتحلى بجميع الصفات العقلية والجسدية، لتصير مجموعة بشرية جديرة بذاتها وحياتها. إنها حقا سخرية التاريخ البليغة، في اليوم الذي أعلن عمر سليمان تنحي مبارك على السلطة، وبالتالي انقضاء مرحلة سوداء حبلى بالهزائم والانكسارات والانهيارات، شكلت انقلابا جذريا بكل المقاييس، عن المشروع التأسيسي الذي ناضل من أجله القائد الشاذلي بالسيف والقلم والجهر بالحق أمام سلطان جائر. قلت، لحظتها، كان آلاف المصريين الأحرار، يمشون إجلالا وخشوعا، وراء نعش وطني من الطراز النادر، لا يجود به الزمان إلا قليلا. لقد وافت المنية ملهم انتصار حرب أكتوبر، يوم 10 فبراير عن عمر يناهز 89 سنة بالمركز الطبي العالمي التابع للقوات المسلحة المصرية. عندما نتتبع مسارات هذا العسكري البارع، سيبدو من الوهلة الأولى أنه خلق ليكون عسكريا استثنائيا، وليس من هؤلاء الذين يتحولون بسرعة تحضير فنجان قهوة إلى قواد وجنيرالات وماريشالات وما شاء من الألقاب، دون أن ينسوا ارتداء نظارات سوداء كي يخفوا احتقارهم لأنفسهم، وبالطبع يستأسدون فقط أمام الكاميرات أثناء الاستعراضات العسكرية المناسباتية. القائد الشاذلي، كان شجاعا، زاهدا، متواضعا بقدر عظمته، ذكيا، عارفا واستراتجيا، أضحى فكرا عسكريا تدرس خططه ومنظوراته في الأكاديميات الحربية. شارك في حرب فلسطين عام 1948 وعمره لم يتجاوز 27 سنة، وانضم إلى هيئة الضباط الأحرار عام 1951. ولد سنة 1922 والتحق بالكلية الحربية وتخرج منها شهر يوليوز 1940، ضابطا برتبة ملازم في سلاح المشاة. أول، مؤسس لفرقة قوة مظلية مصرية ما بين 1954 و 1955، وأيضا أول مسؤول عن قوات عربية موحدة في الكونغو التابعة لقوات الأممالمتحدة، خلال الفترة الممتدة من سنة 1960 إلى 1961. ثم عين ملحقا عسكريا في السفارة المصرية بلندن، بين سنة 1961 و 1963 مما خلق له مجالا واسعا كي يعاين عن قرب، التجارب العسكرية الغربية. ثم قائد لواء المشاة من 1965 إلى 1966. وعقب نكسة 1967، اختاره الزعيم عبد الناصر كي يشرف على قوات "الصاعقة المظلات" واستمر في هذا الموقع إلى غاية سنة 1969، وقائد منطقة البحر الأحمر العسكرية، وأخيرا رئيسا لهيئة أركان القوات المسلحة المصرية من 16 مايو 1971 إلى 13 دجنبر 1973، حينما أقاله السادات نتيجة الاختلاف بينهما، بخصوص الخطة الميدانية الناجعة لحسم حرب أكوبر، وبين طيات ذلك، طبيعة الأفق التاريخي الذي ارتآه حقا القائد الشاذلي للمصريين ومعهم العرب، مقابل الدسائس التي بدأت تفوح رائحتها من فم السادات. في خضم هزيمة 1967، أبان الشاذلي وهو برتبة لواء آنذاك، عن بطولة نادرة مع العلم أنه اعتبر توقيت المعركة خطأ جسيما والتصعيد مع إسرائيل لم يكن جيدا مع وجود جبهة أخرى في اليمن. هكذا، وقد سيطر الطيران الإسرائيلي على الأجواء المصرية ولاسيما سيناء، جازف الشاذلي بقيادة قوات قوامها 1500 جندي والعبور بها شرقا، وتخطى الحدود إلى صحراء النقب في فلسطين، حيث بقي في منطقة النقب طيلة يومين إلى أن تمكن من الاتصال بالقيادة العامة بالقاهرة التي أمرته بالانسحاب، فاجتاز أراضي سيناء كاملة من الشرق إلى الشط الغربي عبر مسافة 200 كلم، وهو يسير بقواته داخل أراضي يسيطر عليها العدو بشكل تام، دون أي غطاء جوي وبالحد الأدنى من المؤن إلى أن وصل غرب القناة قبل 8 يونيو، سيناريو شبهه البعض بانسحاب القائد الألماني "روميل" خلال الحرب العالمية الثانية. بتاريخ 16 ماي 1971، وبعد يوم واحد من إطاحة السادات بأقطاب النظام الناصري، تحت تسمية الثورة التصحيحية، عين الشاذلي رئيسا لأركان القوات المسلحة المصرية. الاختيار حسمه وضعه الاعتباري داخل الجيش، لكن خاصة حياديته السياسية، بحيث لم يكن جزءا من أطراف اللعبة السائدة ويضمر فقط ولاء لشرف الجندية. مع ذلك، اصطدم مع الفريق "محمد صادق" وزير الحربية حول كيفية تحرير سيناء. آمن الأخير، بعدم مهاجمة العدو الإسرائيلي، إلا حين تحقق شرط وصول الجيش المصري مرحلة التفوق في المعدات والأفراد. بينما، رأى القائد الشاذلي، بأن انتظار اكتمال التفوق لا يتماشى مع الإمكانيات الحقيقية للجيش المصري وخبراته، لذا ألحّ على ضرورة استثمار الممكن والاشتغال على خطة ترمي إلى عبور القناة وتدمير خط بارليف واسترداد من 10 إلى 21 كلم في عمق سيناء. وبالفعل، تجلى تصوره في إطار ما اصطلح عليه ب "المآذن العالية"، واستندت على واقعتين أساسيتين بمثابة نقطتين في صالح الجيوش العربية ضد إسرائيل : أولا، لا تستطيع تل أبيب تكبّد خسائر بشرية كبيرة نظرا لقلة عدد أفراد الجيش العامل. ثانيا، اعتادت إسرائيل على الحروب السريعة والخاطفة التي تنتهي في أيام أو أسابيع قليلة، لذلك فإطالة المعركة سينهكها حتما. إذن، وفق تدبير "المآذن العالية" أو "بدر" كما لقبها السادات، جسّد القائد سعد الدين الشاذلي، المهندس الحقيقي لحرب رمضان. لكن المستجد الطارئ، أن طائرة استطلاع أمريكية، عجزت الدفاعات الجوية المصرية عن إسقاطها بسبب سرعتها التي تجاوزت ثلاث مرات سرعة الضوء، كشفت عن وجود ثغرة بين الجيش الثالث في السويس والثاني في الإسماعيلية، وعلى الفور أبلغت الولاياتالمتحدةالأمريكية إسرائيل. فالتقطت الإشارة، من قبل شارون قائد إحدى الفرق المدرعة الإسرائيلية، الذي استطاع الانتقال إلى غرب القناة، من الثغرة عند منطقة الدفرسوار القريبة من البحيرات. وبسبب هذا الأمر، وقع الخلاف الشهير بين الشاذلي، والسادات. تبين للشاذلي، بأنه يمكن تصفية الثغرة بسحب أربع لواءات مصرية من الشرق إلى الغرب، لزيادة الضغط على القوات الإسرائيلية والقضاء عليها نهائيا، لكن الرئيس رفض رأيه وسعى إلى مفاوضات فض الاشتباك أو الكلم 101، بل أكثر من هذا، وفي قمة عمله العسكري خلال حرب رمضان، أصدر السادات قرارا ينص على إقالة الشاذلي من الجيش وإبعاده بشكل غير مباشر خارج مصر، كسفير في إنجلترا (1974-1975) ثم البرتغال (1975-1978)، كما تجاهله النظام في الاحتفالية التي أقامها مجلس الشعب المصري لقادة حرب أكتوبر. القائد الشاذلي، لم يبلع بسهولة هذا الانقلاب، لذلك، ما إن وقع السادات مع الإسرائيليين اتفاقية كامب ديفيد سنة 1978، حتى وجه له انتقادات لاذعة. كانت النتيجة، إصدار عقوبة نفيه، بحيث التجأ إلى الجزائر، وهناك كتب مذكراته الشهرية عن "حرب أكتوبر"، حاكم فيها السادات علانية بما يلي : (1) اتخاذ قرارات خاطئة، رافضا نصائح المحيطين مما أدى إلى وأد النصر العسكري والتسبب في الثغرة (2) تضليل الشعب، بإخفاء حقيقة الثغرة وتدمير حائط الصواريخ (3) حصار الجيش الثالث لمدة فاقت ثلاثة أشهر، حتى إن الإمدادات بقيت تصل إلى الجيش المصري تحت إشراف الجيش الإسرائيلي (4) تنازل الرئيس السادات عن النصر، والموافقة على سحب أغلب القوات المصرية إلى غرب القناة (5) ثم أنهى مذكراته ببلاغ إلى النائب العام، يتهم الرئيس السادات بإساءة استعمال السلطة. عمل، أدى إلى محاكمته غيابيا بتهمة إفشاء أسرار عسكرية، وحكم عليه بالسجن لمدة ثلاث سنوات مع الأشغال الشاقة، ووضعت أملاكه تحت الحراسة ثم حرمانه من التمثيل القانوني وتجريده من حقوقه السياسية. وجهت تهمتان للشاذلي: نشر كتاب بدون موافقة مسبقة عليه، حقيقة اعترف الشاذلي بها، أما إفشاء أسرار عسكرية، فقد أنكرها بدعوى أنها أسرار حكومية وليست عسكرية. بعد انقضاء 14 سنة في المنفى، عاد الشاذلي إلى مصر سنة 1992، ثم قبض عليه وأودع السجن، ليكمل المدة العقوبية على الرغم من نجاح فريق المحامين المدافع عنه، في الحصول على حكم قضائي صادر من أعلى محكمة مدنية، أكد على عدم قانونية الإدانة العسكرية السابقة، وأن الحكم العسكري الصادر ضده يعتبر مخالفا للدستور. هكذا، اعتبر بدوره ضحية من ضحايا حسني مبارك والذي كان لسنوات مجرد ضابط يعمل تحت إمرته. لم يكن الفريق الشاذلي مجرد عسكري، بل صاحب عقيدة عسكرية ومبدع خطط حربية تدرس في المعاهد. لقد رأى، بأن أفضل طريقة لامتلاك البراعة القتالية، تكمن في الحرب نفسها، لأن التدريبات لا توفر الظروف النفسية المتأتية من القتال الفعلي. كما أرسى تقاليد، كتابة كراسات توجيهية، تهم كل شيء عن العدو والتقديرات الميدانية وظروف الموقع والكتيبة والفرق من حيث المستوى الفنى للجنود وانضباطهم وسمات حياتهم ولياقتهم البدنية وروحهم المعنوية ومعداتهم وصيانتها. ابتغى الإحساس بنبض الجنود، شديد الاهتمام بالتأثير الفكري، لذلك يجتمع يوميا مع ضباطه. دعا، إلى ضرورة أن نحارب إسرائيل في الظروف غير المواتية لها ونسج تفاصيل المعركة بناء على القدرات الذاتية وكذا إمكانيات العدو. كان القائد الشاذلي مفكرا عسكريا أنيقا، ترك مؤلفات أساسية. فإلى جانب عنوانه الشهير "مذكرات حرب أكتوبر"، نجد كتابه "الخيار العسكري العربي (1983)"، الذي يعتبر مرجعا هاما بخصوص حيثيات الصراع العربي الإسرائيلي. كما نستحضر بهذا الصدد "الحرب الصليبية الثامنة" ثم "أربع سنوات في السلك الديبلوماسي" ويعرض لنا كيف قوبل، في بريطانيا بحملة شرسة من قبل اللوبي الصهيوني، بتهمة أنه أمر بقتل جنود إسرائيل أسرى إبان حرب أكتوبر.. [email protected]