أود هنا توضيح قناعتي وتبريرها في نفس الوقت. أعتبر الديانات تعبيرا عن تخوفاتنا البشرية المشتركة وعن رعبنا مما يهددنا من فتن ومن عنف، غامض المنبع، ولكنه ملموس وحقيقي، نعايشه من خلال تجاربنا الراهنة والتاريخية. إن العنف وإرهابه متواجدان بعالمنا وبأعماقنا وبديارنا، سواء كنا من أهل الشرق الأوسط، من تونس، أو من سكان باريس أو واشنطن. فلا الشجاعة ولا التربية ولا الثقافة ولا القنابل والأحاديث النووية ولا الجبن ولا التهور بقادرين على “قتل” العنف. فهو حي لا يموت وهو دائما صاحب الكلمة الأخيرة. تتبقى لنا المواسات والتضرعات والتمنيات والتنديدات. نود جميعا لو أن ما نلفظه أو ما نخطه من كلمات وما يصدر عنا من تصرفاتنا ومن معاملات، نتمنى لو أنها تساعدنا على التخفيف وعلى التهوين من معاناتنا وآلامنا ونود لو أنها تقينا في المستقبل من شر عنفٍ متربصٍ بنا وراء غيبه الزمني، عنف مبهم وغامض قد تكون عواقبه وخيمة وزبانيته أشد قسوة وضراوة مما عايشته بشريتنا. شئنا ذلك أم أبيناه، يظل العنف المادي والمعنوي مخيما ومسيطرا على حياتنا البشرية. ونحن من نازلة محتومة واثقون وبها موعودون وإليها منزلقون : الموت. رَأَيْتُ المَنَايَا خَبْطَ عَشْوَاءَ مَنْ تُصِبْ تُمِتْهُ وَمَنْ تُخْطِىءْ يُعَمَّرْ فَيَهْرَمِ ليغشاه التراب بعدها ككل السابقين وكل التابعين. انطلاقا من هذه المقدمات لا يسعني سوى التشكيك في إمكانية ما يسمى الإلحاد إذ ليس بمقدرة عاقل أن يستغني عن التقوى بمعناه الأولي، أي اتقاء ذلكم العنف الجبار القهار المهيمن المسيطر والمتكبر الذي نعلم حق العلم، تاريخيا وجغرافيا، أنه على كل شيء قدير، بما في ذلك إصابة صبيان وأطفال أبرياء بآفات المرض والفاقة والحرمان والحروب والتشرد، بكل أنحاء البرية وعبر التاريخ البشري بأكمله. وبالتالي لا يسعنا سوى التعبير عن تمنيات : ألا تصيبنا مثل هذه المصائب وأن تعفى أجيالنا من ويلاتها. ولا مفر لنا من عَزْوِ تلك النوازل الوخيمة إما لغضب الطبيعة أو لغضب خالقها أو لحتمية قوانين تتحكم في طبيعتنا المادية والبشرية والتي نعلم حق العلم أننا لم نشارك في صياغتها سوى بنزر قليل. نود جميعا لو أننا قادرون على التحكم في مجريات الأحداث الطبيعية وكذا في صياغة وتربية إنسان جديد ومسالم. لكننا نعلم أن مقدراتنا التقنية والمادية واللغوية محدودة وأن قدرتنا على الإقناع ضئيلة وأن اللجوء للقوة غير مُجدٍ البتة. فرصدنا للتاريخ ولواقع حالنا يجبرنا على الاعتراف بأن الخوف والرعب المتغلغل لأعمق أعماقنا يدلنا على أن العنف بعالمنا قادر على إتيان ما يشاء من الأفعال، خاصة أبشعها، ومنها ظلم الأطفال الأبرياء. ومن المؤكد أن جزءًا مهما من بشريتنا يقر بوجود عنف أقوى من كل هذا ويرتجف أمام تهديداته وإرهابه. يوقن إخوان وأخوات لنا بعزة وبحكمة من أملى علينا : "إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ إِنَّ اللَّه كَانَ عَزِيزًا حَكِيمًا ". مداواة لجلود قصد حرقها من جديد كي ينجم عن ذلك عذاب أليم إلى ما لا نهاية له. حكم بالعذاب المؤبد. وما أدراكم ما الأبد ؟ فلا حيلة لنا أمام أقصى درجات العنف والتخويف والإرهاب. لا يسعنا سوى الصمت. نسلم أمرنا لمن يرهبنا ويخوفنا ونستسلم له ومع ذلك نعلم أننا لن ننجى في كل الأحوال من جبروته ومن خبطاته العشوائية. هذا هو ما يتيح لمن يمتلك الجرأة والقدرة على إتيان أقصى درجات العنف والإرهاب أن يعتبر نفسه على كل شيء قديرا بما في ذلك عذاب الأطفال الأبرياء والتنصل في نفس الوقت من أي مسؤولية رغم علمه وعلمنا بأنه ياتي آثاما غليظة في حق البشرية فيقرر ما يشاء ويعتبر في تقريره أن الناس لأنفسهم ظالمون وأنهم هم الآثمون. نعلم إذن حق العلم أن العنف على الترفع وعلى التعالي وعلى التكبر لقدير. فهو في حقيقة الأمر غني عن تقديم أي تبرير لفعلته ولا يحتاج لأي ضمير يشبه ضميرنا الإنساني ولا يرضخ بالتالي لأي مساءلة أو محاسبة، لا نفسية ولا من طرف سلطة خارجة عنه لأن سلطته واحدة لا يقابلها ولا يضاهيها أي شبيه لها. من طبيعة العنف المترسخة عبر التاريخ بتجربتنا أنه دوما سلطان متسلط منعدم المسؤولية، لا تطاله أي تبعات ويستحيل - منطقيا - أن نتخلص من وجوده بعالمنا العنيف أصلا. إنها المعضلة الفكرية الأساسية : معضلة العنف وشره وسلطته علينا. معضلة طرحت نفسها على البشرية وما زالت مطروحة. وغالبا ما يخطر على أذهاننا حلان أولان يؤديان لنفس النتيجة :تزويد العنف بحطب هو عبارة عن أجساد بشرية نابضة بالحياة والتضحية مع ذلك بضمائرنا لنعيش عيشة الذين لا كرامة لهم. - فإما نسلم أمرنا للقدر العنيف المتجسد باستمرار عبر تاريخنا لأننا نعي كل الوعي أنه على ظلم الأبرياء لقادر. وللتهوين على أنفسنا نفضل اعتبار تجلياته مجردَ امتحان عسير للتأكد من (وليس لمعرفة) مدى قدرتنا على إسلام أمرنا له ثم الركوع والسجود لما ولمن يمثله. فكم من أمم خلت ومن شعوب رضخت قبلنا لقاهريها الجبارين المهيمنين المسيطرين والمتكبرين عليها. فما المسلمون سوى أمة من بين الأمم التي خلت أو ما زالت على قيد الحياة دون أن تعفى نفسها أو يعفيها أحد من العنف والرعب والخوف ومن الكراهية مع غياب عزتها وكرامتها. - وإما نعتقد أنه بالإمكان مواجهه العنف بعنف أبشع وأعم فلا نحصل على أي نتيجة سوى إضفاء سلطة إضافية لسلطته. نهرق دماء جديدة فيرتوي بها ويقهقه في وجهنا مكشرا عن أنيابه الدامية التي لا تخشى الموت لأنها بالأموات تتغذى وبعددها تتقوى. فالعنف في كلا الحالتين حي قيوم، لا حول لنا به ولا قوة، يعلو ولا يعلى عليه. قد ييأس القارئ بعد قراءة ما تقدم وقد يتساءل : هل كتب علينا الرضوخ والاستسلام للعنف إلى هذا الحد ؟ هل من مفر لنا غير الإذعان كأجدادنا لنظرية القضاء والقدر ؟ ألا يمكننا متابعة البحث عن بديل، محاولة منا للتخلص من جبروت العنف وقهره وهيمنته وسيطرته وتكبره ؟ أعتقد أن الأمل ممكن بل ومرغوب فيه أكثر من أي وقت مضى. أرى بصيصا منه على آفاقنا اليوم. أعلم أن ما سأقترحه عسير على الأنفس لأننا فطرنا على العنف والخوف من فتنه وتربينا على الرضوخ له منذ غابر الأزمان. ورغم هذا كله أعتقد كذلك أن لإخوتي من المسلمون بقية من ضمير وأنهم على إتيان الخير أكثر من الشر لقادرون. فهل نحن لفتح عهد جديد ولمساءلة أعماقنا مستعدون ؟ عهد جديد نتجاوز به معاهدات إبراهيم وموسى ومن خلفهم من التابعين، الأحياء منهم والغابرين. فالعهد الجديد الذي سأقترحه هنا على قراء العربية ما هو إلا ميثاق إنساني متواضع وليس بميثاق يتنزل من السماوات العلا أو يصبو للصعود إلى ما فوقها. يكفينا اليوم أن نتعهد أمام أنفسنا وأمام أجيالنا القادمة بأننا سنغير ما بأنفسنا ليستجيب القدر لتطلعاتنا، تطلعاتنا الصادقة إلى المحبة والأخوة والكرامة وإلى إقصاء العنف والترهيب والتسلط من قلوبنا ومن أقوالنا ومن تصرفاتنا. ولن يكفينا ترديد عبارات فضفاضة ملؤها المحبة والرأفة والأخوة الفارغة من أي محتوى عملي بل يجب علينا أن نتعهد مثلا بما يلي : 1 – التفتح على كل ما أنتجته قريحة البشرية من ثقافات حية وميته دون نعت هذه أو تلك بالجهل أو بالجاهلية. 2 – فتح قلب وفراش بناتنا ليتسع لليهودي وللنصراني ولغير المسلمين، أي لبني البشر كيفما كانت عقيدتهم أو ما نسميه اليوم كفرهم. 3 – الإقرار بحقوق الإنسان كحق لكل أبناءنا وبناتنا من دون أي تحفظ والعمل على إنزالها لأرض الواقع. 4 – فتح أبواب النقد للقرآن ولسيرة محمد لننهى عن المنكر الذي أباحوا لأجدادنا اقترافه مثل خيانة الزوج ليس لزوجته فحسب بل لزوجاته ولمن ملكتهن أيمانه. 5 – الاعتراف بأن عبارة “كتب عليكم القتال وهو كره لكم” ما هي إلا اغتصاب لضمائر المسلمين وأن ذلك “المكتوب” عليهم منكر. 6 – الاعتراف بأنه لا يمكن أن نقيم أي قدر لمن أمر إبراهيم باقتراف المنكر البراح : التضحية بالنفس البشرية في سبيله. إنه لمن المنكر أن تمتحن الناس لتعلم من هو مستعد منهم لذبح ابنه عوض مساءلة رؤاه أو عقيدته. واللائحة مفتوحة ليكملها كل واحد منكم بما يراه واجبا علينا الإقدام عليه لبناء معاهدة جديدة تتجاوز عهد إبراهيم وآله لنشارك في تأسيس عالم أفضل من ذلك الذي شارك أجدادنا في صياغته وفي رسم حدوده، علما منا أنهم رضخوا لتهديدات من توعدهم بعبارة « ومن يتعد حدود الله فقد ظلم نفسه ».