أعتقد أن إخواني المسلمين (إخواني في الإنسانية) يواجهون اليوم مجددا بابا مسدودا بعدما سلكوا مآزق متعددة من بينها ما سمي بالنهضة (الكواكبي، الأفغاني، محمد عبده...) تلتها بعد الاستقلال ما سمي بالتقدمية (الجابري وأركون كآخر مُمَثِّلَيْنِ لهذا التيار) ثم ما نقف عليه اليوم من محاولات لإصلاح المنظومة الفكرية الإسلامية من الداخل بينما هي، كسابقاتها، مجرد محاولات لتنحية بعض القشور (أحاديث وفقه وتفسير) دون المساس بلبنات الأساس التي بني عليها صرح عتيق شامخ لكنه متآكل من كل الأطراف. فهل الفشل ملازم للفكر الإسلامي بكل تلويناته؟ ولماذا يا ترى؟ وما هو السبيل للخروج من هاته المآزق إن كان هناك صراط بديل؟ أبدأ بتلخيص جوابي قبل تبريره: منذ إبراهيم إلى حد الآن لم يقرر المسلمون أمْرَهم لله ولوج صراط مستقيم بمعنى اتباع قيم وشريعة قويمة تحترم ضميرهم وتقيم للإنسان قيمة بل فضلوا على الدوام سلوك طرق ملتوية تبين مرارا أنها مجرد حيل ومراوغات فكرية لا طائلة ترجى من وراءها. سأحاول في هذا المقال هداية إخواني المسلمين لصراط مستقيم سيخرجهم لا محالة من مأزقهم العتيق ليتصالحوا مع ضمائرهم إذ ما زلت أومن بأن لهم بقية من ضمير. ولا يهمني إن هم قرروا تقديمي ككبش فداء إضافي تفاديا لتغيير ما بأعماقهم. فآخر ما آل إليه الفكر الإسلامي هو ما طالعنا به بعض الكتاب في هاته الأيام من نقد حاد لكتب الحديث بعدما كان الجابري قد تطرق بشكل رائع لنقد الفكر العربي مع اكتفائه بنقد التفاسير القديمة ليقدم لنا تفسيرا سياسيا لم يتطرق فيه أبدا لنقد أخلاق النبي المعلومة والمتعارف عليها وكأنما محمد ليس بعربي ولا بمؤسس للفكر العربي ولأخلاقياته. ومن المثير للابتسام أن نرى أهل النهضة يسجلون قبله نفس الإخفاق: ينتقدون بشكل قوي وحاد أسس الفكر السياسي الاستبدادي، العربي منه والعثماني ثم الغربي، مع الاكتفاء بتقديم تفسير لا يتطرق للمسائل الأخلاقية التي وردت بآيات بينات لا تحترم أمهات المومنين أجمعين ولا من خالف عقيدة المسلمين، خاصة من يوسمون بالكفر ويهددون بأشد عقاب. وكان ابن رشد قبلهم قد ناهض تفاسير أهل زمانه دون تقديم البديل ثم ظهر علينا محمد عبده وتلاه زميله الكواكبي ليقدما لنا تفسيرا جزئيا ثم ليطالعنا المفكر السياسي الفذ الدكتور محمد عابد الجابري بتفسير يحاول فيه إنقاذ المصحف دونما انتقاد لا لمقاصده ولا لأخلاقياته التي لا غبار عليها، نرى المفكرين المسلمين على مر العصور يهتمون بالسياسة أيما اهتمام بينما الأخلاق - أو بالأحرى قلتها - هي مكمن الضعف عند كل المسلمين، السابقين منهم والتابعين(*). فلما كان السيد طيب رجب أردوغان يأمل في التحاق تركيا بمجموعة الاتحاد الأوروبي أقدم على إقامة وليمة رمزية قدم خلالها أكباش فداء من أهل الحديث كعربون لجرأته على التغيير. اتهم إذاك فقهاءُ وعلماءُ تركيا المتزمتين من المسلمين بعدم احترام حقوق المرأة حيث يقبلون مثلا بما يسمونه جريمة الشرف أو بختان المرأة. ولم يُكتب لتجربة أردوغان هاته أن تتوصل إلى الاعتراف للمسلمة بنفس الحقوق والواجبات إذ لم نر أبدا أردوغان ساترا لشعره بحجاب مثلما تفعل زوجته في كل المناسبات. وكأنما أردوغان ليس بوسيم ولا بفتان لعديد من النساء خلال خطبه الجماهيرية بتركيا وبألمانيا مثلا. ونرى السيد عبد الفتاح السيسي يوهمنا بأنه تقدمي لما دعى علماء الأزهر إلى تجديد الخطاب الديني دون أن ينصحهم باعتبار تعددية الأزواج عند أغلبية المسلمين كقلة لأخلاقهم (خيانة زوجية من طرف دون الآخر) ولا اختلال موازين المواريث كغياب لقسطهم ولا اعتبار تأدية المهر من طرف دون الآخر كدليل على عدم تكافؤ حظ الجنسين. ويقدم لنا الكاتب والصحافي رشيد أيلال اليوم خبرا مفاده أن أسطورة عظيمة من أساطير سلفنا تنهار بإصداره كتابا عنوانه “صحيح البخاري – نهاية أسطورة”. ونرى الناشر لهذا الكتاب يطمئننا على الصفحة الأخيرة معتبرا أن الكاتب يعبر عن ”موقف جيل جديد من الباحثين والمفكرين الذين عقدوا العزم على نصرة دين الإسلام، دين الله، دين السلام، دين المحبة والإخاء، وعلى تبرئة الرسول المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم من كذب الأفاكين وخفافيش فقه الظلام، الذين يحرفون الكلم عن مواضعه ليشتروا بآيات الله ثمنا قليلا“. ولا ينتبه الكاتب ولا الناشر إلى تقليدهما لما سجله تاريخنا القديم والحديث من صراعات ضارية بين فرق وشيع المسلمين. يتجرؤ الناشر على نعت بشر من طينته وطينتنا بالخفافيش ولا يعتبر تشبيههم بحيوانات كقلة للأخلاق وعدم احترام لنفسه هو الإنسان مثلهم ومثلنا. ونحن نعلم أنه كلما شبه الإنسان بالحيوان فلربما استعدادا لسحقه وللتضحية به دونما جنوح للتعقل ولا احترام للأخلاق الطيبة. ولحسن الحظ تفقد كل الطقوس من نجاعتها مع الزمن لقد تبين عبر تفحص معتقداتنا البشرية ومقارنتها أن تقديم أكباش فداء تفاديا لتغيير ما هو متجذر بأنفسنا ولتعرية ما هو دفين بداخلنا من عنف (جسدي ومعنوي) ما هو إلا طقس من الطقوس التي تعارفت عليها البشرية بأكملها بحيث لا تتميز بها ثقافتنا ولا هي حكر على دين أو معتقد دون آخر. فالأبحاث الرصينة المقارنة للأديان وللمعتقدات، المندثرة منها والحية، تفيدنا بأن العنف الدفين هو المُكَوِّن المشترك لما تقدسه كل البشرية وما تتحاشى الإقتراب منه إتقاءً (التقوى إسْمٌ مِن اتَّقَى) لعواقبه الوخيمة وتخوفا من أن تتنزل آلامه مجددا لساحتنا فيسود الإقتتال وتعم الفتنة على أرض واقعنا، فتنة يختلط فيها الحابل بالنابل ولا تسطيع البشرية في غمرتها أن تميز بين الظالم والبريء، بين البادئ والمنتقم. نعلم علم اليقين أننا نخشى الفتنة ونتمنى جميعا لو يسود الوئام والسلام وما يمكن اعتباره إجماعا ضمنيا على ما جربه أجدادنا من طقوس ومن معتقدات ظلت جامعة لشملهم قرونا عدة وكانت مؤسسة لأمجادنا ولتوسع رقعة أراضينا أو، إن شئتم، لفتوحاتنا التي نود ألا نعتبرها كإمبريالية على حساب الآخرين. هنا يتبين لقارئ العربية المتحلي بالجرأة على مصارحة نفسه أنه غالبا ما سلم أسلافنا أمرهم لله مقلدين في ذلك لمؤسس دين الإسلام، أعني إبراهيم، جد اليهود والمسيحيين على حد سواء. وما زال جل إخواننا في الإنسانية يسلمون أمرهم لمن أمر إبراهيم باقتراف المنكر البراح. لا ننهى ربنا عن المنكر ونفتخر رغم ذلك بأننا شعب الله المختار أو خير أمة أخرجت للناس (تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر) أو أن الخلاص لنا لا لغيرنا بينما نعلم في قرارة أنفسنا أن قبولنا للتضحية بالنفس في سبيل الله منكر ما بعده منكر وأنه كان حريا بجدنا إبراهيم أن يكون رحيما، قوي العزيمة، حي الضمير أمام من أمره باقتراف المنكر ممتحنا بذلك لقلة الرحمة بقلب إبراهيم الذي لم يتشاور في ذلك الأمر المنكر مع زوجته التي خرج من أرحامها إبنهما. فلماذا يا ترى لم يواجه جدنا إبراهيم إلهه ليكون رمزا وقدوة لمن يتحلون بالإنسانية وبالشجاعة الفكرية وبالمناهضة للمنكر إذ بإمكان الإله (الذي هو على كل شيء قدير)، أن يضحي إما بنفسه أو بابنه (إن كانت له زوجة لها أرحام وبها رحمة وتقبل مع ذلك بأن يُقَدَّم طفلها للنحر أو للصلب). هذه بالطبع خرافة أو أسطورة افتراضية عصرية أقدمها كبديل أفضل بكثير من رواية تقض علينا أن إله الموحدين امتحن “إنسانية” إبراهيم ليكتشف أن جدنا مستعد (كمقلديه المصلين عليه وعلى آله) لاقتراف المنكر وللإقدام على التضحية بالنفس وبالنفيس عبر حقب التاريخ المتوسطي المتتالية لا لشيء سوى أنه وانهم بعده موعودون بالتكاثر وبخلافتهم على الأرض، أرض كنعان أول الأمر ثم ما تيسر لهم بعد ذلك من غزوات وفتوحات لمستوطنات ولمستعمرات قد تتوسع إلى أقاصي الدنيا ليعم دين التوحيد لله لا شريك له. هذا هو الأساس الهش لفكر الموحدين منذ إبراهيم. ولحسن الحظ تبقى لنا، نحن بنو البشر، ضمير يستيقظ وقد يستنير بين الفينة والأخرى. يعلم جزء كبير منا اليوم أن إنسانيتنا فطرت على حب السلم وعلى كره القتال. لقد قرأنا ونقرأ ثم فهمنا ونفهم حق الفهم ما تنزل علينا دون مشاورتنا بل وغصبا عنا : ”كتب عليكم القتال وهو كره لكم“. فأشهدوا واعترفوا لأنفسكم أيها الإخوان في الإنسانية بأن هذا المكتوب علينا منكر وبأنه اغتصاب لضمائر بشريتنا. فعوض أن تُكْتَب علينا المسالمة ونبذ العنف في كل الأحوال نرى أن غاندي لم يولد بشرقنا الأوسط ولا قُدِّرَ له أن يقوم مقام إبراهيم لينجب لنا ذرية مسالمة لا تضحي بالنفس البشرية في سبيل الله ولا من أجل التحرر ناهيك عن التوسع على حساب الآخرين. نجد اليوم أنفسنا منخرطين، كسلفنا الرابح الفاتح الرابح في طقوس التضحية بجزء من بني جلدتنا آملين من وراء ذلك الاحتفاظ بالوئام والسلام رغم وعينا بأننا كذلك منخرطون فيما سميته “الوفاق والاتفاق على النفاق”. لقد فهم جزء من بشريتنا بعد اطلاعه على فلسفة كانط الألماني أنه لا يمكننا أن نؤسس لأخلاق طيبة كونية إلا إذا ما أقمنا شريعة تُقِرُّ باحترام الآخر لأنه مشارك لنا في الإنسانية. لذا يقر جل المسلمين اليوم بأنه ليس من الأخلاق في شيء أن يُرْغِموا بني جلدتهم من النصارى على أداء الجزية وهم صاغرون أو أن يخيروا الأيزيديات العراقيات بين اعتناق الإسلام أو السبي أو القتل بحجة أنهن لسن من أهل الكتاب ولا من الصابئات. فكفانا اليوم نفاقا لأنفسنا أيها الإخوان. النهي عن المنكر مع نبذ الوفاق والإتفاق على النفاق هو الطريق الوحيد الذي سيعيد لنا شرف اكتساب ضمائر لا تحط من قيمة الإنسان ولا تضحي به في سبيل الله مهما خالفنا الرأي أو العقيدة. فاحترموا الإنسان وليس الدين لتحترموا أنفسكم وكرامتكم المشتركة مع البشرية جمعاء.