سلط مضمون ما بثه البرنامج الاستقصائي "Black List" على قناة "تونسنا"، حول "حقيقة تواجد المخابرات المغربية بتونس" وكيف "أن للمغرب يد سوداء في العمليات الإرهابية التي ضربت تونس مؤخرا" (سلط) الضوء من جديد على الفوضى الغير صحية التي يعيشها الإعلام التونسي، بعد ثورة 17 ديسمبر 2010. أن تعيش تونس انفتاحا إعلاميا ما بعد الثورة، وأن تكون لنا مساحات كبيرة ل"كسر الطابوهات" من خلال الإعلام الذي كان مخنوقا في عهد الرئيس المخلوع، زين العابدين بن علي، فهذا أمر صحي وجزء من الديمقراطية "الفتية" التي ضحى من أجلها مئات التونسيين، بأرواحهم وأرزاقهم، كي نحصل على التغيير، لكن أن تتحول كل هذه الأحلام الجميلة إلى "فوضى قذرة" يتداخل فيها "العبث" باللامسؤلية الأخلاقية، والمهنية لبعض المؤسسات الإعلامية، فهذا ما يمكن تسميته ب"الفوضى الغير خلاقة" التي قد تدفع تونس ثمنها غاليا. من أدبيات العمل الصحفي الاستقصائي، وأنا التي عملت في الصحافة لزمن طويل، هي سبر أغوار الظواهر أكانت سياسية أو اجتماعية أو إقتصادية.. من خلال الوصول إلى عمقها بالدلائل المادية، الملموسة، كي نسلط الضوء عليها، أمام الرأي العام، وصناع القرار، وذلك بالاعتماد على المصدر الأصيل، الموثوق، مراعاة لجنس التحقيق أو الاستقصاء الذي يُعد أرقى أنواع الأجناس الصحفية، وكذا للمهنية المطلوبة في الصحافي، الذي يبتغي من خلال تحقيقه توسيع الوعي الجماعي وكشف الحقائق، وهذا هو دور الصحافي في الدول الديمقراطية، التي يعد فيها الإعلام المسؤول والرزين، ركيزة أساسية لبناء أي ديمقراطية أصيلة. من كل هذا، يحق لنا أن نطرح هذا السؤال: هل ما بثته قناة "تونسنا" عبر برنامج "Black List" يُعد تحقيقا؟ الجواب بكل بساطة أن ما تم بثه هو "عبث إعلامي" حاولت الهيئة العليا المستقلة للإعلام السّمعي البصري في تونس التي تسمى "الهايكا" ترقيعه، لاستدراك "السقطة الكبيرة" للقناة التونسية، في حق المغرب، حينما أوقفت إعادة بث البرنامج، وسحبه من الموقع الالكتروني للقناة، ومن جميع صفحات المواقع الاجتماعيّة التابعة لها. وبالعودة إلى ما اعتمده الصحافي، معد برنامج "Black List" كدلائل لسرد اتهامته للمغرب، نجد أنه ركز على ما سبق لهشام بوشتى، أن نشره على صفحته الخاصة بموقع التواصل الاجتماعي "فايسبوك" وتداولته صحيفة "الشروق" الجزائرية، على أساس أنه سبق صحافي، وفتح مبين، يفترض أن يزلزل أركان المؤسسات الأمنية بالمغرب. وإن كان مفهوما نشر صحيفة "الشروق الجزائرية" لوثائق تعرف قبل غيرها أنها بلا قيمة استخباراتية، ويُراد منها فقط "الضجيج الإعلامي"، بحكم قرب الصحيفة من المؤسسة العسكرية في الجزائر التي تعتمد على الصحيفة لتصريف عدائها اتجاه المغرب، فمن المؤسف أن تقوم قناة تونسية بنفس التضليل بالاعتماد على وثائق مزورة و"مضروبة" ويمكن لأي إعلامي يفهم أدبيات التحقيق ويعرف زواياه أن يدرك ذلك. وللعلم لمن لا علم له في هذا السياق، أن الوثائق التي نشرتها صحيفة "الشروق" الجزائرية، واعتمدتها قناة "تونسنا" في برنامج "Black List" لتبرير "أن المغرب ساهم في العمليات الإرهابية ضد تونس"، هي وثائق بعيدة كل البعد أن يكون مصدرها الاستخبارات المغربية، لسبب بسيط يدركه كل صحافي متابع للشأن الأمني في الدول المغاربية ويعرف كيف تشتغل الأجهزة الأمنية المغربية، بشكل جيد. وكل صحفي لبيب خصوصا إن كان يرغب في إجراء تحقيق صحفي عن الأجهزة الاستخباراتية بالدول المغاربية تحديدا، لا بد أن يكون مدركا أن جهازي المخابرات المغربي سواء الداخلي منه "الديستي" أو المخابرات الخارجية "لادجيد" لا تستعمل في جميع مراسلاتها الداخلية، اللغة العربية، على خلاف ما جاء في الوثائق الذي نشرها هشام بوشتي، المنتمي لسلك القوات المساعدة، وهي قوات احتياط عسكرية، وظيفتها في المغرب التواجد في الأماكن الشعبية مثل الأسواق الأسبوعية، وحراسة التجمعات الجماهيرية، في القرى، وكذا المدن، مع بعض الأدوار البعيدة كل البعد عن ما هو استخبارتي محض. والمتابع لتطور أجهزة المخابرات المغربية، يعلم أن حميدو العنيكري، الرئيس السابق للاستخبارات المغربية الداخلية (DST) هو من أشرف شخصيا عند توليه هذا المنصب على فرنسة كل المراسلات الداخلية، للمخابرات المغربية، حيث اعتمد اللغة الفرنسية لغة وحيدة في كل الوثائق، قبل أن يسلم مشعل الجهاز أواخر سنة 2005 لعبد اللطيف الحموشي، المدير الحالي للجهاز الاستخباراتي، والذي سار على نفس المنوال في استعمال اللغة الفرنسية في كامل المراسلات، ومعه مدير المخابرات الخارجية، ياسين المنصوري، الذي يعتمد هو الآخر على اللغة الفرنسية في كل المراسلات الخاصة بالجهاز. هذا، بالإضافة إلى أن الإدارة المغربية، بما فيها السلك الديبلوماسي، والاستخباراتي، وحتى الجيش المغربي، كلها مؤسسات تستعمل اللغة الفرنسية، في مراسلاتها الداخلية، الخاصة، وما نشره حساب "كريس كولمان" من تصريبات لوثائق تخص هذه الأجهزة خير دليل على دليل، وهي مراسلات كلها بالفرنسية، لم ينفها المغرب، بل إن وزارة الخاريجة المغربية، أكدت صحتها ضمنيا. كل هذه المعطيات وأخرى، تجعل ما نشره هشام بوشتى، واعتمدته صحيفة "الشروق الجزائرية" وتبنته قناة "تونسنا" يصبح بلا قيمة، لأنه لا يعتمد على المعطيات المادية الصحيحة، التي يمكن أن يبنى عليها التحقيق الصحافي، بقدرما أن الأمر مجرد "لعبة مخابرات" بدأها الضابط السابق في الاستخبارات الجزائرية، واللاجئ بفرنسا، أنور مالك، مع المغرب، من خلال توظيف "أوراق ميتة" مثل هشام بوشتى، بعد أن تخاصم مع مصادره في المغرب، لأسباب مالية، فلجأ لفقاعات إعلامية ينشرها بالصحف الجزائرية ضد المغرب، لأسبابه الخاصة، وللأسف انجرّت قناة تونسية وراء هذا الوهم والإندفاع المتهور بدون سند عقلي أو دليل نقلي سليم. المغرب الذي نتهمه اليوم، ب"مسؤوليته" عن العمليات الإرهابية، في تونس، هو نفسه المغرب الذي نزل ملكه شهر يونيو من السنة الماضية، إلى شارع الحبيب بوريقبة، يتجول راجلا، بحراسة خفيفة، وبدون بروتوكول، في عز العمليات الإرهابية التي كانت تضرب بلدنا تونس، مقدما صورة مثالية، لصحف العالم التي تداولت الخبر على أن بلد الثورة، ستستمر في التحدي وشق طريق مستقبلها، بدون خوف، فهل بعد أن قدَم الملك محمد السادس حبه لتونس على أمنه الخاص، نكافئه بهذا "الجرم الإعلامي"؟ *إعلامية ورئيسة مركز المتوسط التونسي المغربي