هل شهد عصر التكنولوجيات اضمحلال التكنولوجيا أم ازدهار لها؟ انقسمت الآراء كما في كل قضية أو أمر أو شيء، فذهب مفكرون إلى أن الإيديولوجيا انتهت ولو يعد لها مكان في عصر الإعلام حيث المعرفة متاحة للجميع، فمن بريجينسكي إلى دانيال بيل إلى فرانسيس فوكوياما وفرانسوا ليوطار صدح الجميع بنهاية عصر الإيديولوجيات الكبرى بشكل أو بآخر، تلك الإيديولوجيات التي تعبئ المواطنين عن طريق الأفكار أو المثل والمبادئ والشعارات، واعتبروا أن التطور العلمي والتكنولوجي أدى إلى التحول من مثاليات الإيديولوجيات إلى المنطق العلمي الأداتي للعلم والتكنولوجيا وأن التاريخ بوصفه صراعا بين أفكار ومذاهب وإيديولوجيات قد انتهى بانتصار الديموقراطية الليبرالية وانتصار المعسكر الأورو-الأمريكي في الحرب الباردة، وتلك التحولات التي سميت ديموقراطية بلدان أوروبا الشرقية من سقطت الإيديولوجيا على وقع الاعتقاد السائد بقدوم عصر الإعلام الذي يتصف بالشفافية والنقل الحر واللحظي الآني للحدث. وفي قِبَالِ هؤلاء وقفت مجموعة أخرى من المفكرين الذين ذهبوا إلى أن العلم والتكنولوجيا أصبحا الإيديولوجيا الجديدة، وأضافوا بأن العلم والتكنولوجيا أصبحا يقومان بالدور التقليدي للإيديولوجيا في تبرير الوضع القائم وإضفاء الشرعية والمشروعية على كافة صور الهيمنة السياسية والاقتصادية واستبدال العقلانية الأداتية وهي عقلانية الوسائل بعقلانية الأهداف والقيم الموضوعية؛ بين هذه المقولة أو تلك لابد من وجود أجوبة تتوافق مع واقعنا وتتفق مع تجربتنا في مجالي الإيديولوجيا والإعلام في مجتمع يتداخل فيه الديني بالسياسي بالإيديولوجي. يرى الجابري في كتابه "الخطاب العربي المعاصر ج1 دراسة تحليلية نقدية" بأن الإيديولوجيا هي تعصب لمذهب معين في كل وقت، فيما يرى البعض بأن الإيديولوجيا وعي زائف منخدع بحقيقة الأشياء والأمور، وأنها نسق مترابط من التبريرات الفكرية لواقع يفتقد الشرعية والمشروعية، وبما أن وسائل الإعلام بجميع أصنافها كما تصورها الليبرالية الأورو-الأمريكية تقوم في جوهرها على مبدأ حق المعرفة للجميع وعلى نظرية الحياد والموضوعية، كان من الطبيعي أن يطرح على بساط البحث موضوع العلاقة بين الإيديولوجيا والإعلام فظهرت آراء تقول بأن جوهر الوسيلة الإعلامية يتنافى بما هو في ذاته مع الإيديولوجيا بالنحو المعرف معناه أعلاه، وفي ما يخص العلاقة بين الديني ووسائل الإعلام يرى عدد من الباحثين أنهما يرتبطان اليوم بطرق قوية وعميقة وأصبحت العلاقة بينهما أوضح من أن تكون موضع جدل، لكن ما يشغل بال الباحثين تحديدا في طبيعة العلاقة بين الدين والإعلام وإذا كان الدين يبدو اليوم كموضوع مهم بشكل حيوي فإن وسائل الإعلام التي يتم في سياقها الخطاب الديني تمثل المصدر المركزي للمعلومات حول الأديان، على الأقل بالنسبة لجماهير المواطنين، وفي عصر الإعلام والسماوات المفتوحة والإنترنيت لم يعد يستطيع أي دين أن يسيطر على صورته أو مضامين أفكاره أو أن يتحكم بما يصل منها صحيحا أو ما يصل منها محرفا ومشوها، حيث أصبحت وسائل الإعلام تمتلك هامشا واسعا للتحكم في إدارة المعلومات وتدفقها في ما كانت الأديان في الماضي تستطيع تقريبا أن تتحكم في كيف وأين ومتى تظهر الأفكار والرموز على السطح. ومن الظواهر البارزة لعلاقة الإعلام والدين أن الوسائل الإعلامية أصبحت من الأدوات الرئيسية للتبشير والدعوة وتقديم الفكر الديني إلى الجمهور الواسع سواء من المنتمين إلى الدين المبشر به أو من غيره، كما استخدمت بعض وسائل الإعلام كأداة صراعية في الحرب الطاحنة بين المذاهب والأفكار التي تهز أركان العالم أجمع في هذه الفترة من الزمن، ولقد تمظهرت العلاقة بين الدين والإعلام في ثوب آخر نبه إليه بعض الباحثين الاجتماعيين وهو دور وسائل الإعلام لاسيما الإنترنيت كنافذة معرفية للاطلاع على الآخر الديني وتكوين صورة مسبقة عنه، انطلاقا من هذه الصورة الموجزة عن العلاقة بين الإعلام والإيديولوجيا وبين الدين والإعلام يبقى السؤال المفتوح هو: من الذي سيصوغ رؤية الإنسان عن المستقبل والحياة، إعلام الإيديولوجيا أو إيديولوجية الإعلام؟. ذهب أحد المفكرين إلى أن سيطرة وسائل الإعلام وخصوصا مواقع التواصل الاجتماعي على الحياة المعاصرة تشبه إلى حد ما أسطورة الكهف عند أفلاطون، فعندما كان أفلاطون في معرض شرح نظريته في عالم المثل والفرق بينه وبين عالم المحسوسات ضرب مثلا فقال: إن الذين يعيشون في العالم المحسوس يشبهون أناسا يعيشون في كهف ولدوا وتربوا فيه ولم يخرجوا منه أبدا وهم مقيدون بسلاسل وأغلال تقيدهم داخل الكهف، بحيث أن أنظارهم لا ترى إلا الحائط الداخلي لهذا الكهف ولا تستطيع رؤية بابه وخارج هذا الكهف توجد أشياء كثيرة كالأشجار والحيوان وأيضا إِنْسًا يروحون ويجيئون أمام مدخل الكهف وتعكس الشمس الظلال هذه الأشياء على جدران الكهف لكن ساكني الكهف لا يعرفون أن ما يرونه مجرد ظلال وأخيلة بل ينظرون إليها على أنها الحقيقة، لأنهم لم يخرجوا من كهفهم ولم يعرفوا حقيقة الظلال ولا تمكنهم أغلالهم من التقدم والنظر إلى الأمام ومعرفة الأشياء الحقيقية التي تنعكس ظلالها على جدران الكهف ولا معرفة الشمس التي هي مصدر النور الذي يحدث الأخيلة. أخيرا، تشكل أسطورة الكهف هذه مثالا جيدا ودالا على العالم الذي يخلقه الإعلام حيث يخلق الإعلام لاسيما ذلك الممسوك من رأس المال عالما وهميا زائفا يعتقد المواطنون في حقيقته وصدقه ويلتفون حوله، حول وسائل الإعلام هذه ويظلون مقيدين أمامها تماما مثلما كان أهل الكهف مقيدين داخله ولا ينقل الإعلام لهم سوى الصور كما يراها هو تماما مثلما كان ينظر أهل الكهف إلى الأخيلة وأصبحت الحقيقة حصرا ما تقوله وسائل الإعلام حتى وإن كان ما يجري يجري أمام أعيننا وإذا خرجنا من الكهف رأيناه. الإنسانية هي الحل *كاتب