كم يكفي العالم من عقل كي يستثب الأمن في ربوعه ،وتعود البسمة إلى وجوه الصبايا صافية لامعة بكل الألوان ؟ كم يكفي العالم من صور شعرية مشرقة كي يمحو بها كل هذا الضباب الأسود من القلق والإضطراب الذي يلف ستائر الرؤى و الآفاق ؟ كم يكفي العالم من منظمات وحكومات واجتماعات وقرارات ومخططات كي يشعر كل من يدب على وجه الأرض أنه أخيرا عاد الإنسان إلى رشده وأن التاريخ بدأ يبتسم بعد عبوس طال كثيرا نتيجة الحروب وتراكم الإنكسارات والفوضى التي كان من طليعة مدبري خرابها ومقترفيها هذا الغرب العجيب المقنع تارة بقناع العلم والحضارة والديمقراطية والحرية وحقوق والإنسان الساهر على أمن العالم واستقراره ومساعدته ،وتارة بقناع جنون العظمة الإقتصادية والمالية والعسكرية والتكنولوجية الموغل في النهب والفظاظة ،هذا الغرب المترامي الأطماع بكل تقرفاتها وتخرماتها وتلاعباتها وضحاياها ، ماذا ينتظر كردود أفعال ضد تغوله وانحيازه لإسرائيل صاحبة أكبر الجرائم البشعة غير هذه الفواتير السوداء التي تنز حقدا ودما ؟ من احتلال فلسطين بالخدعة والخيانة وقوة السلاح والنار إلى غزو أفغانستان وتخريب العراق بدعوى الإرهاب وكذبة أسلحة الدمار الخرافية إلى تدمير سوريا واليمن وليبيا وتمزيق دول الشرق العربي ونسيجها الحضاري وخلق الفتنة والعداء والصراع بين دولها ومكوناتها العرقية والطائفية لابتلاع الثرواث . فعندما يفتح هذا الغرب المتغطرس عينيه جيدا أمام الكوارث التي خلفها تدخله في الشرق العربي بدعوى دمقرطته وتقديم المساعدات لأهله (الأنظمة السياسية الموالية له )أثناء الأزمات التي هو طرف أساسي في صناعتها وتثبيثها سيكتشف ويفهم كم كان مخطئا في حق شعوب هذه المنطقة خاصة عندما غرس في قلبها شوكة بني صهيون ، وسيدرك العمق المأساوي لحقيقته أن عملية إعادة حساب شاقة وثقيلة تنتظره ،فلا حلم الدمقرطة والإستقرار تحقق في هذه المناطق ولا العالم تعافى من فيروس تداعياتها . إن ضربة باريس القاسية التي نرفضها وندينها شرعا وقانونا والتي تبنتها الجماعة الدينية الهمجية داعش، تجسد بالفعل عمق الإصرار على ضرب هذا الغرب المتغطرس في عقر داره مرة أخرى ممثلا في عاصمة الأنوار الفرنسية كهدية دموية مسمومة غادرة ومفاجئة ،لعل الفائدة الأساسية منها الآن هي تقويض أوهام هذا الغرب وتخريجاته وإيقاظه من شروده لتصحيح أخطائه ومراجعة مواقفه وتناقضاته السياسية في منطقة الشرق الأوسط التي ما فتئت تطوق الإنسان العربي المسلم المتنور المدافع عن القيم الإنسانية المشتركة بسلسلة من المتاعب والأعباء هو في غنى عنها بدءا :بتهمة اختراقه لقشرة الحدود الدولية( الغربية على وجه الخصوص) كطالب لجوء سياسي ومعاشي ،وصولا إلى تكريس الإعتقاد بأن كل عربي مسلم هو إرهابي محكوم أصلا بمسافة واسعة من الكره والعداء للآخر . من هنا تتسع الهوة بين الخطاب الدولي( الغربي على الخصوص بزعامة أمريكا ) الداعي إلى مواجهة خطر الإرهاب وبين القاعدة العريضة من العرب المسلمين ، التي لازالت ممتعضة من سياسة هذا الغرب مؤمنة أن اليأس والتطرف الأعمى بكل أنواعه وتجلياته ما هو إلا تمثلات ونتائج واضحة لتاريخ السياسة الغربية في المنطقة والتي عملت الولاياتالمتحدةالأمريكية كزعيمة للمعسكر الغربي على تفجير أوضاعها والإمساك بخيوطها وشتاتها تاريخيا على الأقل منذ بوش الأب والإبن (حرب الخليج الأولى والثانية ) إلى الآن بدعوى القضاء على الديكتاتوريات وتقديم المساعدات وتعويضها بالديمقراطيات . ورغم إدراك هذا الغرب بقيادة الولاياتالمتحدةالأمريكية لواقع العرب المرير والمتخلف فإنها لاتزال عيونها مغمضة إشباعا لحاجياتها وامتيازاتها . إن الإنزياح الحاد غير المهادن لفظاظة الخطاب العسكري الميداني الغربي في المنطقة العربية برمتها -شعبيا على الأقل-ناتج عن مرارة التناقضات الصارخة التي تجمع العرب بهذا الغرب الذي لازال تحذوه رغبة في إذلال العرب والمسلمين واستغلال خيراتهم واستفزاز مشاعرهم بالواقع والمشاهد الحية أفظعها دعمه الثابت والمستمر لإسرائيل على اعتبار أن العرب والمسلمين شعوب متخلفة مازال اليأس والتخلف يمنعنان تخطيطاتهم من أي تقدم أو إحساس بالمهابة والتقدير بله التفوق والإنتصار. فكيف يمكن الجمع إذن بين تفكير الغرب في القضاء على هذا الخطر الداهم فيروس الإرهاب الذي يقول إن مصدره العالم العربي الإسلامي والعمل في نفس الوقت على تثبيت جذور ديمقراطية مغشوشةفيه راضخة طوعا أو قهرا للرؤية الغربية المصلحية والإستغلالية البحتة مع دعم أكبر دولة إرهابية في العالم إسرائيل التي لازالت طليقة اليدين الملطختين بدماء الشهداء والأبرياء تعربد وترعب وترهب كما تشاء متى تشاء اينما تشاء بمنطق عدواني يبدو أن لا رجعة فيه ؟ أليست هذه الضربات الإرهابية المليئة بالحقد والخبث تنبئ عن فشل ذريع وخيبة أمل مضاعفة للعالم الغربي الغني والقوي في الظفر بعالم ديمقراطي عادل مستقر يذعن فيه الجميع لصوت العقل والقانون ؟ أليست هذه الضربات الإرهابية والعسكرية الموجهة في أي منطقة من العالم فلسطينسورياالعراق اليمن ليبيا بورما وغيرها التي يذهب ضحيتها أطفال ونساء وشيوخ وشباب أبرياء تفتقد إلى العقل والمصداقية وتساهم في تعقيد الأوضاع وتأزيمها ؟ ما تنشده فرنسا الجريحة الآن ومعها العالم بعد هذه الضربة الفاشية من سلام وأمن واستقرار لبلدها و لقارتها أولا ثم لكافة أرجاء المعمور لن يتأتى بالطبع بالأماني والتخريجات السريعة المنفعلة الضاربة في عمق كرامة العرب والمسلمين بالتضييق عليهم وتأجيج نيران العنصرية والحقد ضدهم ،بل يتأتى ذلك أولا وقبل كل شيء بتقويض كل الأفكار والسياسات والبنى الفكرية والإجتماعية الجامدة الموروثة بين العالمين الشرقي والغربي المعرقلة لكل تقارب وتفاهم واندماج إيجابي انطلاقا من القضاء على الفقر والجهل والإستغلال وسياسة الكيل بمكيالين من أجل انتصار لغة العقل والحرية والعدالة كي يتعافى هذا العالم الأحمق من عبثه وأعطابه . أما أن نكرس الحرمان والفقر والتخلف والنزاعات الطائفية فلا تنمية حقيقية ولاتطور جوهري على الأرض العربية والإسلامية بل مزيدا من التناحر والحروب من أجل المصالح والكراسي والمواقع فإن باب الحقد السري والعلني المتبادل سيظل مفتوحا بين كل الأطراف على كل المفاجآت والإحتمالات .../