أرخت الهجمات الإرهابية التي ضربت باريس يوم الجمعة الماضي بظلالها على العالم وأحدثت صدمةً وحزناً لدى عامة الناس باختلاف مشاربهم. وقد كنتُ واحداً منهم، إذ حزنت لأمرين اثنين: أولهما لأن هذه الهجمات استهدفت بلداً عزيزاً علي، حيث قضيت أهم مراحل حياتي الشخصية والمهنية، وثانيهما لأنني كنت على يقين بأن تلك الأحداث من توقيع "داعش"؛ وهو ما يعني تلقائياً أن ملايين الغربيين حول العالم سيوجهون أصابع الاتهام واللوم من جديد إلى ديني. لم يفاجئني ذلك السيل الكبير من التضامن العالمي مع الشعب الفرنسي، بقدر ما فاجأتني رؤية آلاف المغاربة وهم يضعون علم فرنسا على صور "بروفايلاتهم" الخاصة ب"فايسبوك". الهجوم الإرهابي الذي هز الضاحية الجنوبية ببيروت قبل يوم فقط من هجمات باريس لم يكن أقل دموية؛ وهو ما يفرض على من يتجه إلى إضفاء ألوان العلم الفرنسي على صورته ب"فايسبوك" كتعبير عن التضامن التفكير للحظة وطرح تساؤلات عديدة: هل الأرواح الفرنسية تفوق الأرواح اللبنانية قيمةً؟ ألم يكن جديراً بهم أن يظهروا تضامنهم مع لبنان بعد هجمات الخميس؟ أين كان تضامنهم عندما ضرب الإرهاب تونس مرتين بعنف قبل أشهر؟ هل يتبنون العلم الفرنسي على صور صفحاتهم الخاصة إحساساً منهم بالذنب بعد أن نفذت حفنة من المجرمين هجماتها باسم الإسلام؟ هل يصبغون الألوان الفرنسية الثلاثة على صور صفحاتهم الخاصة فقط ليُشار إليهم كمسلمين معتدلين؟ لا يوجد أي تفسير معقول لردود الأفعال المختلفة، خاصةً إذا علمنا أن هجمات باريس سبقها بيوم واحد انفجاران هزا بيروت وأوقعا 43 قتيلا ومائتي جريح. وأنا أشاهد تطور الأحداث يومي الخميس والجمعة، لم ألحظ أي تعبير عن التعاطف أو الحزن تجاه الشعب اللبناني على مواقع التواصل الاجتماعي، ولم أر أمريكيا ولا فرنسيا ولا إسبانياً يغيرون صور صفحاتهم الخاصة في تضامن رمزي مع اللبنانيين، بل تُركت لبنان وحدها ترثي قتلاها دون أي دعم دولي. لكن بمجرد وقوع هجمات باريس، سارع الكثيرون إلى تبني العلم الفرنسي كصورة لصفحاتهم الخاصة. المفاجئ هو رؤية الناس مندفعين وراء تيار وضعته الشركات العملاقة، مثل "فايسبوك"، يتلو عليهم ما يجب وما لا يجب فعله؛ فقط لأن شركة في هذا الحجم أشارت عليهم بتبني العلم الفرنسي، فاتبعوا الأوامر. الأمر المحير هو أن من يضعون هذه الأيام علم فرنسا على صورهم لم يفعلوا الأمر ذاته حينما قضى أزيد من 1600 مسلم في ظروف مأساوية في مكة يوم عيد الأضحى؛ فلماذا لم يغيروا صورهم إلى صور من مكة أو آيات من القرآن الكريم تضامنا مع الضحايا وذويهم؟ ولماذا لم تُظهر الشعوب الغربية تضامنها الرمزي على "فايسبوك" مع ضحايا مكة؟ شخصياً أحب فرنسا وأحب الفرنسيين وللبلد مكانة خاصة في حياتي وستبقى كذلك؛ لقد عشت هناك أكثر من 7 سنوات، وحصلت على كل شواهدي العليا من هناك، وأحتفظ بذكريات لا تنسى، كما أنني أشعر بالأسى لما حصل. وبحكم تجربتي الناجحة في هذا البلد، لطالما دافعت عنه وشرحت لمن لم يذهب إلى فرنسا بأنها من أكثر البلدان في العالم ترحابا، رغم الصور النمطية المتداولة بين العديد عن عنصرية الشعب الفرنسي. ولن يغير أمثال مارين لوبان وإيريك زمور أبداً رأيي عن هذا البلد الرائع. لكن لا يجب أن ينسينا اندفاعنا إلى إظهار تضامننا مع الشعب الفرنسي بأننا كمسلمين تحتم علينا الأخلاق أن نتضامن أيضا مع كل شعوب العالم، خاصةً الفلسطينيين واللبنانيينوالعراقيين والسوريين والليبيين واليمنيين، الذين تُهدر أرواحهم يوميا؛ فلا يمر يوم واحد دون أن نسمع خبر تفجير في العراق أو سوريا أو قتل فلسطينيين أبرياء، فهؤلاء يعيشون في إرهاب يومي. على الناس أن يكونوا أكثر حذراً عندما يقبلون عن غير وعي بأن مآسي العالم العربي أمر عادي، وأن ما يحصل في بلد غربي هو كارثة يجب أن يمتد صداها إلى كل أرجاء العالم. بقدر ما أشعر بالأسى تجاه الشعب الفرنسي، بقدر ما أشعر بأسى أعمق تجاه الشعب اللبناني والشعب العراقي والسوري، الذين يؤدون ثمن أعمال إجرامية بصم عليها قادة غربيون لا ضمير لهم من أمثال جورج بوش الابن وطوني بلير. هل علينا أن ننسى أنه تم القضاء بشكل كلي ولا رجعة فيه على العراق، مهد الحضارات، بسبب جشع مجرمين أمثال ديك تشيني وبول وولفويتز وغيرهما؟ هل علينا أن نقبل بسهولة أن مليون عراقي ونصف قضوا نحبهم، وأن ثلاثة ملايين عراقي لحقت بهم عاهات جسدية بسبب حرب فرضتها عليهم الدول الغربية؟ هل نحن على وعي بأن قطاع غزة يرزح تحت حصار إسرائيلي غير شرعي منذ ثمان سنوات في تجاهل كامل للقانون الدولي والقرارات الأممية المنادية بإنهاء هذا الحصار الذي يتنافى مع كل القيم الإنسانية؟ هل علينا أن نعتبر معاناة الشعب الفلسطيني في الضفة الغربية والسياسات اللاإنسانية التي تتبناها الحكومة الإسرائيلية أمراً تافهاً؟ عندما ننسى أن نُذكر المجتمع الدولي بأن هناك حاجة ماسة إلى معالجة المشاكل العويصة التي تمس عدداً من الدول الإسلامية، فإننا نسيء لأنفسنا ولديننا ولشعوب أخرى كالشعب الفرنسي، الذي يطمح مثلنا للعيش في سلام. وفي الوقت نفسه، نسمح لمجرمي "داعش" بالتماس الذرائع والأعذار لغسل أدمغة فئة صغيرة من المسلمين وتدنيس ديننا. إن إدانة الاعتداءات الشنيعة التي ينفذها أمثال مجرمي داعش، ودحض إيديولوجيتهم، هو واجبنا الأخلاقي كمسلمين، لكننا مطالبون كذلك بتذكير المجتمع الدولي بأن الحاجة ملحة أكثر من أي وقت مضى إلى وضع حد لمعاناة كثير من الشعوب المسلمة، وعلى رأسها الشعب الفلسطيني. فيجب ألا تكون ذاكرتنا ضعيفة ولا انتقائية، بل علينا أن نظهر تضامننا المطلق مع معاناة كل من هم في حاجة إلى دعمنا. فلنكن رافضين للتراتبية بين الناس، ولنكن أكثر حرصا على أن كل الأرواح سواسية، فلا أرواح تفوق أخرى قيمةً. إن المسلمين ليسوا بشراً من الدرجة الثانية، وبهذا وجب تذكير العالم، فعندما تُقتل نفس سواء كانت مسلمة أو يهودية أو مسيحية أو معتنقة لأي معتقد آخر، فيحب علينا أن نعبر عن المستوى نفسه من التضامن. فكلنا سواسية، ومن هذا المُنطلق وجبَت معاملتنا على قدم المساواة؛ فحياة الأمريكي أو الفرنسي أو البريطاني ليست أغلى ولا أكثر قيمة من حياة المغربي أو اللبناني أو السوري. *مستشار دبلوماسي | رئيس تحرير موقع Morocco World News