بذلت المملكة المغربية، على مدى العقود الأربعة الماضية، جهودا كبيرة لتدارك الخصاص الذي كانت تعرفه الأقاليم الجنوبية من حيث تحسين مؤشرات التنمية وتمكين المدن الصحراوية من مقومات الرقي الاجتماعي والاقتصادي والنهوض بأوضاع الساكنة. بيد أن هذه الجهود، التي طبعتها اجتهادات غير موفقة أحيانا، لم تكن كافية، لتحقيق الأهداف المرجوة في تطبيع (Normalisation) علاقة الساكنة المحلية مع محيطها، وتمكينها من الانخراط في المجهود التنموي، مما انعكس على نوعية المشاركة وقيمتها وعطل المبادرة الحرة، وترك الدولة تواجه، لوحدها تقريبا، تحديات التنمية والاستثمار والتشغيل. إنه من السهولة بمكان اختيار عينات من الحلول الجاهزة باستنساخ البرامج والتطبيقات والاحتفاء بنتائج الدراسات المُسيرة بطريقة إجرائية تكتفي باحترام المنطق الأكاديمي الصارم دون النفاذ إلى التفاصيل المؤثرة، لكن ذلك لا يعفي، بأيّ حال من الأحوال، من القيام بواجب الدراسة والتقويم وبناء المؤشرات بطريقة صحيحة، بما ينطوي عليه ذلك من صعوبات تحتاج لضبط النفس والهدوء لكسب ثقة الشرائح الاجتماعية المستهدفة بالمشروع التنموي. إن عملية التنمية التي تستهدف أساساً تطوير القدرات البشرية وتعبئتها للتغلب على المشاكل والعقبات التي تحول دون الوصول إلى الأهداف التي ينشدها، تضع مسألة المشاركة العامة في صلب مسار التنفيذ الذي يحقق النجاح، حين يصبح لكل فرد دور فيها، على أساس أن يكون واعياً بما يجري حوله، ومطلعا على دوره في تطوير المجتمع وتنميته. وفي هذا الصدد، نحسبُ أن النموذج التنموي الجديد للأقاليم الجنوبية، الذي أطلقة جلالة الملك بالعيون يوم 7 نوفمبر 2015، لا بد أن يكون قد تجاوز الأسباب التي جعلت مسار تنمية الصحراء يشهد حالة المراوحة الصعبة، بل نزع إلى السقوط في الإنتظارية القاتلة في ظل ارتفاع منسوب الأمل في الخلاص لدى فئات واسعة من المجتمع المحلي، ولا سيما أجيال المسيرة وما بعدها من اللذين تمكنوا من نيل حظ أوفر من التعليم في المدارس العليا والمعاهد والجامعات. وفي نفس الوقت، لا يتوانى المغرب في استحضار انتظارات مواطنيه في المخيمات، الذين يتطلعون إلى الفرصة التي سيتمكنون فيها من استعادة حريتهم في اتخاذ قرار العودة إلى الديار وتأمين مستقبل الأجيال والعيش بكرامة في ظل الأمن والاستقرار. لقد قام إعداد وتفعيل النموذج التنموي الجديد للأقاليم الجنوبية على مبادئ احترام الحقوق الأساسية للمواطنين، والتنمية البشرية الإدماجية وإشراك المنتخبين والساكنة المحلية في إعداد وتفعيل البرامج التنموية في المنطقة ولامركزية القرار على المستوى الجهوي، وهو ما يجسد، من دون أدنى شك، طبيعة الاختيارات، المعبر عنها على أعلى سلطة في البلاد، للدفع بإشراك سكان الجنوب في بناء مستقبلهم. ولذلك وجدنا أن التحول الذي بشر به جلالة الملك رعاياه في الأقاليم الجنوبية في خطاب الذكرى الأربعينية للمسيرة الخضراء يقوم على القطع مع ثقافة الريع وفسح المجال أمام المبادرات المبتكرة وإشراك الساكنة وممثليها في الخيارات المهيكلة الكبرى المرسومة للمنطقة وتفعيلها الملموس. وينطوي التواصل المستمر مع السكان على أهمية خاصة لوضعهم في سياق التغيير، وجعلهم في صلب هذا التحول الكبير، وهو ما تُجسده الزيارة الملكية إلى الجهات الجنوبية، لقطع الطريق على أصحاب الإرادات السيئة (داخليا وخارجيا)، التي تسعى بكل قوة إلى إفساد عملية البناء في ظل الاستقرار التي تنهجها المملكة المغربية في كل أرجاء البلاد، وفي طليعتها الأقاليم الجنوبية. وعليه فإن الإصلاح لا ينطوي فقط على رزنامة الأفكار والنظريات المجردة التي يجب إتباعها على أهميتها، بل يتعلق الأمر بإطار مرجعي شامل (إداري وقانوني) يأخذ بعين الاعتبار حاجة الأقاليم الصحراوية إلى مبادرات مبتكرة تهم المشاريع ذات القيمة الاقتصادية والاجتماعية المضافة وتثمين الموارد وترشيد الإمكانيات وإقرار هندسة ترابية ناجعة تحقق آليات التأهيل الاقتصادي والاجتماعي المستدام بهذه الأقاليم. ولابد أن يقوم تنزيل الإصلاح على الفهم الصحيح للمؤشرات الدقيقة التي يقدمها المشروع التنموي الجديد، حتى لا تتم إعادة النماذج الموسومة بالمعالجة الظرفية للمشاكل وارتجال القرارات لتدارك الاختلالات البنيوية، التي بات بعضها يرهن المستقبل، بعد أن أصبحت أقاليمنا الجنوبية مدنا وحواضر تعيش مظاهر التمدن ومتطلبات الانتقال من أنماط حياة البادية إلى أنماط حياتية أخرى. ولا بد أن يطال هذا التنزيل مكامن الخلل في تدبير الشأن المحلي في الأقاليم الجنوبية، على غرار باقي مناطق المملكة الأخرى، بما يتصل، خصوصا، بسوء التدبير وغياب تكافؤ الفرص، وهي عوامل مقلقة قد تسهم في المزيد من التفكك، الذي بدأ يعرفه النسيج الاجتماعي وتؤدي إلى فقدان الثقة في عمل المؤسسات وتكريس الفساد والنزاعات والهيمنة والاستفراد بالخيرات وإذكاء التوترات. إن التوجه الإرادي، الذي انعكس في المبادرة التي قدمها المغرب عام 2007 لتمكين ساكنة الصحراء المغربية من نظام للحكم الذاتي، سيتوج في الأخير مسار تفعيل الجهوية المتقدمة ويكرس الاختيار الديمقراطي لبناء المجتمع الحداثي، الذي يثمن كل الطاقات، وفي طليعتها الطاقات البشرية التي تعتبر مصدر قوة النموذج المغربي وديمومته. *باحث متخصص في سوسيولوجيا الاتصال