في بداية سبعينيات القرن الماضي، كان إقليم الساقية الحمراء ووادي الذهب الجزء الوحيد من المنطقة المغاربية المتبقي تحت نير اﻻستعمار، وكانت المناطق التي تقطنها غالبية صحراوية في دول الجوار المستقلة (الجنوب الغربي الجزائري وجنوب المغرب وشمال موريتانيا) مهمشة ومحرومة من التنمية؛ وهي مظلومية اتخذتها جبهة "البوليساريو"، التي تأسست في مايو 1973 في موريتانيا، عنوانا لحركتها، وسببا مباشرا لتأسيسها (تحرير الأرض والإنسان). الجبهة قدمت نفسها كمخلص لصحراويي المنطقة من اﻻستعمار والتهميش، ووعدتهم بنعيم دولة مستقلة وافرة الخيرات. ولم تكن تلك العوامل كافية لتحقق للجبهة حديثة النشأة الغاية التي يمني قادتها النفس بها، وهي انتزاع الساحة الصحراوية من القوى التقليدية في الإقليم (جماعة شيوخ القبائل)، التي كانت تمانع مشروع الجبهة الثوري التصادمي بذريعة أنه سيدخل الصحراويين في مغامرة غير مضمونة النتائج. وخدم إعلان المستعمر الإسباني نيته اﻻنسحاب من الإقليم مشروع الجبهة، ليس ﻷنها ستتسلم إدارة الإقليم، بل ﻷنه سيضعف القوى التقليدية في المجتمع الصحراوي التي تمانع مشروع الجبهة، فلم يكن لها من إطار منظم غير الجمعية العامة التي أسسها المستعمر المنسحب كبرلمان للإقليم من شيوخ القبائل. وبالرغم من ضعف الجمعية العامة كهيأة، ظل أعضاؤها يمثلون الشرعية الأقوى، بحكم أنهم منتخبون من قبائلهم ويتكلمون باسمها، الشيء الذي يفتقده قادة الجبهة. كان من آثار اﻻنسحاب الإسباني من الإقليم تحوله من شماله إلى جنوبه إلى ساحة حرب يتصارع على السيادة عليه كل من المغرب وموريتانيا من جهة، والجزائر وجبهة "البوليساريو" من جهة أخرى. واستغلت "البوليساريو" اﻵثار السلبية للحرب على المدنيين من سقوط ضحايا وتشريد، وبدعم من الجزائر التي وفرت الأمان والمأوى داخل أراضيها، تمكنت جبهة البوليساريو من تجميع أكبر عدد من النازحين داخل التراب الجزائري، مما حقق للقادة الجدد، بالإضافة إلى المعسكرات، شعبا يستمدون شرعيتهم وقوتهم من السيادة عليه. وشيئا فشيئا بدأت أنياب الذئب الكامن في شخوص قادة الجبهة تتكشف، ويتحول المخلص إلى فرعون يملي إرادته على المشردين، ما يريهم إﻻ ما يرى، وما يهديهم إلا سبل البقاء تحت سطوته حتى تتحقق غاياته. استمرت الحرب في الصحراء 16 سنة، ولم تترك بيتا صحراويا إلا وفيه ضحية، وكانت المظلمة الكبرى التي استفادت منها الجبهة؛ فقد أصبح لكل أسرة صحراوية عدو قتل ابنا أو جرحه أو أسره، ولم تعد الجبهة بذلك بحاجة إلى تحريض على القتال، فأحرقت سفن العودة إلى الوطن الذي أصبح في نظر ساكني المخيمات مغارة لوحش يقتل أو يعيق كل من يقترب منه. بعد وقف إطلاق النار، كان ﻻبد للجبهة من مظلومية جديدة تختبئ وراءها لتستمر في أسر الصحراويين، ووجدت ضالتها في الأخطاء التي يرتكبها أعوان الإدارة المغربية، فبدأت تحرض أبناء الأقاليم الصحراوية على التصادم مع عناصر الأمن المغربي لتربح من مآسي ضحايا التصادم مظلومية جديدة، تثبت بها لساكنة المخيمات أن الوحش القابع في أرضهم ما زال ذلك الشرس الذي يقتل أو يعتقل، وتسترزق من معاناة كل فتى سجين، أو تأوه معطوب، نفسا جديدا في عمر مشروعها المبني على نظرية "إذا أردت حقك يجب أن تسخى بدمك". وما لبث الفتيان الضحايا في الإقليم أن وقفوا على حقيقة أنه "لا يمتطي ظهرك من لم تساعده باﻻنحناء له"؛ فقد تأكد لهم بنظرية الخطأ والصواب، ما تأكد لضحايا الحرب بالأمس، بأنهم مجرد أدوات في نزاع هم وحدهم الخاسرون فيه، أو على الأقل لم يعودوا يقبلون أن "يأكل غيرهم العلك وتنتفخ بطونهم بدﻻ منه". وبسبب نفاذ رصيدها من المظالم الناتج عن وعي الصحراوي بأن الجبهة إنما تدفعه ليكون ضحية ليستمر مشروعها، دون أن تكون لتضحيته نتيجة ﻻ على نفسه وﻻ على الصحراويين عموما. فتح نفاذ مخزون الجبهة من الضحايا، وانسداد الأفق السياسي للحل، باب المطالبات داخل المخيمات باﻻنفتاح والديمقراطية والعدالة اﻻجتماعية. وبدأت اﻻحتجاجات تتصاعد والمطالب تكبر، وأصبح قادة الجبهة الباحثون عن الزعامة بالأمس يختبئون خلف الحراسات الأمنية، حتى تحولت المخيمات إلى مليشيات، لكل قائد قواته. ومع بروز مرض الزعيم للعلن والتهافت على خلافته، وخروج صراع أجنحة الجبهة من المكاتب المغلقة إلى الشارع، وقرب موعد المؤتمر العام للجبهة الذي سينعقد وجوبا منتصف دجنبر، حينها يتوجب على قادة الجبهة الإجابة عن استفسارات الشارع الصحراوي حول مصيرهم الذي تحتكر القيادة القرار والتصرف فيه منذ عقود، وحول خليفة الرئيس وسوء تدبير المساعدات الإنسانية، مما اضطر قيادة "البوليساريو" إلى تشكيل خلية تفكير في الطريقة التي سيتم بها إخراج المؤتمر قبل تشكيل لجنته التحضيرية. كانت كل هذه المعطيات تضع المخيمات الصحراوية على صفيح ساخن؛ لوﻻ أن أرسل الله الفيضانات الأخيرة التي أتت على كل ذرة طين بناها الصحراويون في المخيمات، تقيهم حر الصيف وبرد الشتاء. وحمدت قيادة الجبهة الله على ما أنعم على المخيمات من نعمة الدمار الذي حل بها، والذي سيشغل الشارع حتى يمر المؤتمر في 16 دجنبر القادم بسﻻم، ويعطي لطبخة خلافة الرئيس الوقت والهدوء المطلوب لتنضج على مزاج الحليف وأعوانه؛ وفوق ذلك سيكون سببا مباشرا لزيادة ثراء القيادة من خلال المساعدات التي بدأت تصل المخيمات من كل مكان، وخاصة من الجزائر التي كانت تبحث عن مسوق أمام شعبها، المطالب بحقه في الثروة الجزائرية، لتبرير زيادة دعمها لقيادة "البوليساريو"، حتى تتمكن من إسكات شارع المخيمات أو تهدئته على الأقل. * قيادي في جبهة البوليساريو لاجئ في موريتانيا