بعد صولة وزير الصّحة على مجانين بويا عمر، وضدا على رغبتهم ربما ! وعلى رغبة بعضٍ من أسرهم وذويهم، وبعد أن أوفى السيد الوردي عهده وبرّ بوعده الشهير: " يا أنا، يا بويا عمر."، وبعد أن وزّع وبدَّد لاجئي هذا الولي الصالح على مستشفيات الوطن زرافات زرافات، وبعد توزيع مستشفيات الوطن بدورها هي الأخرى لهؤلاء المساكين على أزقة وأروقة مدن الوطن فراداً فراداً، أصابت بالتأكيد وزير الصحة عينٌ شريرة لنجاحه في الإيفاء بوعده وسط وعود حكومية من وزراء آخرين لم تتحقق بما فيها وعود لرئيس الحكومة نفسه التي من بينهما محاسبة ومحاكمة تماسيح الوطن وأشباحه، ولربما ليست في الأصل عينٌ شريرة وإنما في الحقيقة لعنةٌ من رمز الولاية والصلاح عند عامة الوطن بويا عمر نفسه أو لربما من حفدته في حقيقة الأمر، فوزير الصحة بالتأكيد الآن يعاني الأمَرّين، فالرجل لم يكن يظن أن الطلبة الأطباء بهذه الصّلابة والقوة النضالية والعناد في الدفاع عن أنفسهم وعن حقوقهم حينما أبانوا عن لياقة وطول نفس نضالي قوي وطويل لرد قانون مجحف سيبدأ بهم ولن ينتهي إلا بآخر موظف في آخر قطاع تحت وصاية الدولة. منذ عقود من السنين و وزارة الصحة ودون رحمة منها ولا طلب لرحمة من الطالب الطبيب كان يتم إرساله إلى البوادي البعيدة والمناطق النائية، ولم نسمع أبدا عن أحدهم أنه انتحر، ولا أنه رفض العمل هناك، لكنه الآن يرفض ويصرخ في وجه وزارة الصحة بقوة:" لا لا لن أذهب."، السبب بسيط جدا، أبسط ربما بكثير من عملية الزائدة الدودية، أو اقتلاع اللوزتين، وهو وببساطة أن الأطباء الذين كانوا يُوقعون ببراءة وحب على وثيقة تلزمهم بثمانية أعوام من العمل وليس عامين فقط من العمل لصالح المواطن مع حق الترسيم، هم الآن وبسببٍ من السيدة وزارة الصحة التي تريد منهم أن يكونوا أقناناً على شاكلة أقنان العصور الوسطى ونظامها الفيودالي المقيت والسيء الذكر، فيأدوا أعمال السخرة لعامين كاملين، وبعدها ليتم رميهم كجوارب مثقوبة أنهكها المشي في طريق مغربية أنهكتها هي الأخرى مشاريع التزفيت المتكرر كل انتخابات والحفر المتكررة الظهور كل شتاء.، وكل ذلك باسم خدمة الوطن هذا الشعار الذي رفعته حكومة بنكيران أمام الطلبة الأطباء لا لخلق الفرقة في صفوفهم كما فعل معاوية بن أبي سفيان حينما رفع فريقه المصاحف في وجه الإمام علي كرّم الله وجهه، بل ليؤلب المواطنين على وضد مواطنين مثلهم، بتهمة قلة الوطنية وموتها فيهم. بعد قرابة عقد من عمر، لم يكن فيه نصيب للدراسة وحدها، بل لخدمة إجبارية أخرى كان طالب الطب مضطرا فيها ولسنوات لتحمل أعباء الحراسة الليلية والساعات الإضافية، ساعات يتحمل فيها مسؤولية السَّهر على المرضى ومُداواة كُلومهم والانصات لأنين جراحاتهم يتخرج المسكين لا ليحصل على دكتوراه وطنية فتضطر دولتنا بمنحه راتب 12000 درهم، على غرار صحابته من أصحاب الدكتوراه الوطنية، بل حصل على دكتوراه في الطب وفقط، تقل في مستحقاتها عن الدكتوراه سابقة الذكر، كي تُقطع عليه الطريق لكي لا يحصل ما على ما يحصل عليه أصحابها، بل ألا يتجاوز راتبه راتب أي موظف حاصل على باكلوريا معها ثلاث سنوات أخرى، مع نجاحٍ في امتحان مهني أو امتحانين، أو مع أقدمية سنوات قليلة في العمل، فأي عقل يصدق هذا، وأي جسم سليم يقدر على تحمل مسار دراسي كهذا، اللهم أن يكون طالب الطب قد كُتِب عليه في ألواح قضائه وقدره المقدور أن يكون سيزيف عصرنا هذا. لم يكن طالب الطب ينتظر من الدولة أي دعم أو مساندة، فلو كان يعول على المئة درهم التي تعتقد الدولة أنها تعويض شريف له على خدماته الكثيرة في مستشفياتها، والتي لا يعرف هو نفسه أي كريم من أي وزارة سنّها له، لو أنه انتظرها لباَع أحد أعضائه كلية أو فقرة من عموده الفقري زائدة من أجل تتمة مسيرته الجامعية ومساره التعليمي الذي لا ينتهي والذي يكاد يُقارب الأربعة عشر سنة كاملة، دون أن نَعُد له سنوات الرسوب لا قدر الله، فأسرة الطبيب الطيبة جدا والصبورة جدا هي من تتحمل وبكرم حاتمي تاريخي مشقة تكوين ابنها لمدة ثمان حِجَجٍ كاملة، ولو زاد التخصص لزاد من تجشم هذه الأسرة الطيبة جدا والصبورة جدا عناء مصاريف جديدة تقتطع من غذاء الأسرة ومن عطلها، إذ سيثقل على كاهل الأسرة أربع سنوات جديدة أو خمس سنوات أخرى من الكرم الذي يجعل خبر المئة درهم التي يجود بها الوطن علينا في خبر كان، بل يجعلها سُبة في حق من يستقل سيارة أجرة صغيرة ليخرجها فيستعين بها في قضاء بعض من مآربه، وشتيمة في حق حكومة تعتقد أن لديها وزارة للتعليم العالي تواكب تكوين أطرها ووزارة للصحة تواكب مشاغل أطباء غدها. هذه القرية وهذه المناطق النائية التي فجأة اهتم بها مسؤولنا ووزراء هذه الحكومة قدّس الله نياتهم، من تركها كل هذه العقود لتصير مناطق نائية. ولتحمل هذا الاسم أو الصفة السوداوية؟ بالتأكيد ليسوا الأطباء، فقبل أن يتوجه الطبيب إليها أليسوا هم أي هؤلاء السياسيون من تركوها عرضة لعوامل النسيان لتَنخر طرقها، وتقضم قناطر بنى الاستعمار أغلبها، وتلتهم أصابع أهلها، وتهدم أسقف وجدران بيوت ساكنتها، فحتى القرى التي تمتلك فرقا طبية يضطر أطباؤها رغما عن نيتهم في تقديم ما يمكن تقديمه إلى إرسال ضحايا المرض ممن أنهكهم الجوع وسوء التغذية إلى مدن بعيدة لتلقي العلاجات، فمستوصفات قراهم هي بأطباء لكنها بدون تجهيزات و لا تكوين مستمر، ربما لأن البادية أمست أكثر تشويق سياسي من المدينة، ولأن أهل الأخير نفذ صبرهم على سياسيينا وخبروهم جيدا، فكم من حزب لا يعرف لقلوب أهل المدينة ممرا ولا صوتا، لكنه يجد في البادية الحسنى وزيادة، لكن قرار الوزير بتصدير المتخرجين الجدد للقرى أليس وحده إهانة للقرويين الذين رمى بهم قدرهم هناك، وكأن الأمر يتعلق بمواطنين الدرجة ثانية وبلغة علمية أكثر وأقل أدبا وكأنهم فئران تجارب، لا مشكلة مع إرسال أطباء متخرجين ودونما تجهيزات إليهم. الطبيب لا مطمع له أن يحاضر أمامه سياسي مهما كان عن الوطنية ويحدثه عن معاني حب الوطن، لأن ذلك مقرف حقا وغير متحمل بالمرة، فكل المغاربة يعرفون ما يعني الوطن للسياسي، إنه رزمة تعويضات شهرية عن الحضور في برلمان بالكاد يملأ ثلثه عند التصويت على مشاريع حكومية لا يتجاوز الحديث عنها نشرات الأخبار، لذا فدون كبرياء زائف ولا ركب على حقائق مزيفة، فليست القرية ولا الوطن من يهمكم ولكنها التطبيق الحرفي لأوامر صندوق النقد الدولي الذي أتبت بنكيران وحكومته أنهما تلميذان موظبان وطيعان جدا لمدرس التقويم الهيكلي، إن الأمر يتجاوز الحديث عن مصالح الوطن وخدمة مواطنيه، وإنما الحديث عن سد الخصاص الذي تعاني منه وزارة الصحة في وطننا وبطريقة سهلة تستفردون من خلالها بخزينة الدولة دون أن يكلف خزينتها ولو سنتيما، لا اثناء الخدمة ولا بعدها، فأثناء الخدمة الطبيب متطوع بشكل قسري، وبعدها يتم تسريحه بشكل مأساوي هيتشكوكي، ليذهب بعد ضياع سنتين من عمره الذي أمسى قصيرا بعد الأربعة عشر سنة التي قضاها أمام مدرجات الدرس، وفي مستشفيات بات فيها سهرانا ملازما لمرضى الوطن. أما كان الأجدر بهذا الوزير أن يعمل على سد الخصاص بتعيين المتخرجين كموظفين دائمين لوزارة الصحة وتمتيعهم بمستحقاتهم المادية والقانونية حسب ما ينص عليه قانون الاجور وقانون الوظيفة العمومية أما أن يُستغل لسنتين تحت مبرر الواجب الوطني الذي استغله هتلر كثيرا للدفع بالشعب الألماني في معارك ظالمة، واستغله ستالين والجينرال تيتو والرفيق ماو ويستغله الآن بنكيران ووزيره على الصحة ليظهر الطلبة الأطباء ككائنات فضائية تريد أن تستنزف خيرات هذا الوطن، وترفض أن تؤدي له ضريبة تواجدها فيه وانتمائها له، رغم أن الذي لا يعلمه بنكيران ويعلمه جيدا وزيره الوردي أن جل من يستقبلون مرضى الوطن طوال مقامهم في كليات الطّب هم الطلبة الأطباء، يقومون بتفان كبير بما يجب أن يقوم به أساتذتهم وممرضوهم. إن نضال الطلبة الأطباء اليوم هو نضال بالنيابة عن سائر المهن في هذا الوطن، نضال ضد خوصصة التعليم وخصخصة باقي القطاعات، فبعد فرض سنتين إجباريتين على الطبيب سيأتي الدور على الأستاذ والمهندس، وعن قريب ستتوقف الحكومة عن التوظيف والعمل عوضه بعقود عمل مؤقتة من أجل إغراق السوق بيد عمل رخيصة من الأطر خاصة الأطباء و الأستاذة و المهندسين، فالمصحات و المدارس الخاصة و المقاولات تتناسل كالفطريات وما قطاع الصحة الا بداية تستكمل البداية الأخرى التي توعدت بها الدولة مراكز تكوين الأساتذة التي حصرت الدولة دورها فيها بالتكوين فقط دونما الوعد بالتوظيف والترسيم كما كان الحال من قبل، إن الأمر لا يتجاوز أن يكون تحققا لوعد ونبوءة بنكيران عن رفع يد الدولة عن كل شيء، لتبقى هي حكم شرط، تتجاوز عن أخطاء من ستبيعهم مدارسنا ومستشفياتنا وتعاتبنا وترفسنا حينما نطالب بحق من حقوقنا لا يقدر أي وطن على أن يفكر حتى برفعها وتعليقها ليوم أو ليلة عن مواطنيه. تختبئ الحكومة وراء كون قرارها قرارا دستوريا، لكن متى كانت قراراتها دستورية أصلا، إنها قرارات لا تبتعد عن أن تكون عقابات جماعية للطبقة الوسطى لم يسلم منها أحد غير عابئة بمطالب هذه الطبقة ولا بمشاغلها، قرارات لم تكن ولن تكون ضمن أي مشروع جدي لنهوض بالطبقات الفقيرة والمسحوقة، فما أتقنه بنكيران هو لغة تتكلم ديكتاتورية المنع و تتحدث بمنطق الامتناع، فمن منع رجال التعليم من اجتياز مباريات المراكز التربوية، إلى الامتناع عن تغيير الاطار، إلى وعيد موظفين أنفوا العمل وسئموا تكاليفه بالامتناع عن تمتيعهم بتقاعدهم جزاء حسنا عن عقود من التعب والعمل، إلى قرار بمنع رجال التعليم من حقهم في استكمال مسارهم التعليمي ضدا على ما تقرره الفطرة الانسانية وما تضمنه المواثيق الدولية ووصايا الشرائع والدين. إلى اقتطاعات مهولة عن إضرابات من دون قانون الإضراب، يضمنها الحق في العمل النقابي، إلى تجميد الترقيات من دون وجه حق أو مراعاة المساواة بين الموظفين، إلى قرارات ضرب المكفوفين والمعطلين، لتكون مسودة قرار الخدمة الإجبارية بهذا تعسفا يتناقض مع المبادئ القانونية والحقوقية التي بني عليها الدستور المغربي وبخاصة " حق العمل " " والحرية في اختيار العمل "، وبدل الرجوع وتجديد العهد مع المواثيق الحقوقية الوطنية والدولية تعود الحكومة إلى الوراء كثيرا وتستعيد مشاريع أمية بن خلف وأبي جهل في استعباد الناس وتمَلكِهم. كنا نظن أن حزب التقدم والاشتراكية الذي ينتمي إليه الوزير الوردي قد نسي " قَوامه " الأيديولوجي وعُدّته الماركسية، لكنه شرخ أفق توقعنا وأتبت لنا عكس ذلك تماما، والدليل أن وزيره الوردي لا يزال محافظا على أهم مؤطرات الفكر والعمل الماركسي وهي تأميم وسائل الانتاج في يد الدولة، وهذا ما يريد تطبيقه فعليا من خلال تأميم طلبة كليات الطّب. غير أن المشكلة عند هذا الحزب اليساري بسيطة وهي أنه ليست له شجاعة لينين ولا جرأة مَاو ولا فروسية علي يعتة، وإن كانت له قليل جرأة فليبتعد عن طلبة قليلا، وليبدأ من جهته بالضغط لتأميم " لاسامير " أولا. وبعيدا عن التأميم الذي لا يمكن أن يتم على حساب حرية الإنسان وعلى يد الفكر الماركسي الذي أتى ليحرر البروليتاريا وسائر الناس، فبادرة الوردي هذه هي في الحقيقة مسودة سوداء لترسيخ سنة لأعمال السخرة أو العمل القسري، التي هي في المواثيق الحقوقية جميع الأعمال أو الخدمات التي تفرض عنوة على أي شخص تحت التهديد بأي عقاب، والتي لا يكون هذا الشخص قد تطوع لأدائها بمحض اختياره. إلا في حالات عمل أو خدمة اللذان يفرضان في حالات الطوارئ القاهرة، أي في حالة حرب أو في حالة نكبة مثل الحرائق أو الفيضانات أو حالات المجاعة أو الزلازل، أو الأمراض الوبائية العنيفة التي تصيب البشر أو الحيوانات، أو غزوات الحيوانات أو الحشرات أو الآفات النباتية، لتعاقب هذه القوانين الدولية على فرض عمل السخرة أو العمل القسري بصورة غير مشروعة بوصفه جريمة جنائية. بدل أن تستهلك الحكومة وقتها في التصريحات المشوهة لسمعة الطلبة الأطباء، فلتكن في الشجاعة نفسها وفي مستوى الفروسية ذاتها ولتشمر عن ساعد الجد ولتبدأ في بناء مستشفيات بمرافق طبية وبمعدات ومستلزمات لا يكتمل عمل الطبيب إلا بها، ولتجهز هذه المرافق بالآليات وبالأدوية التي تلزم الإنسان القروي، وإلا فليس أمامنا إلا علبة ورق وقلم لندون له وجهته التي يجب أن يتجه نحوها إلى المدينة من أجل أن يأخذ قسطه من التطبيب، وإلا فلن نطالبكم إلا بمُسكنات ألم نزود بها مرضانا ونحن في قرانا البعيدة والنائية وبخرائط تسهل على القروي المريض الوصول إلى مراكز استشفائية قد يجد فيها علاجا وقد لا يجد فيها، غير ما وجده لدينا قبل أي مسكنات وفقط. وقبل أن تبدأوا في بناء المستشفيات وفروا للمواطنين بقرانا النائية طرقا تستحق أن تكون طرقا، وأوصلوها بخطوط الكهرباء، وقبل كل هذا بالماء الصالح للشرب الذي يتسبب فقدانه بعشرات الأمراض للإنسان البدوي، وإلى ذاك الحين أقول للحكومة ولوزرائها بصدق وبصراحة كبيرين إنكم تعتمدون الحلول السهلة وتركبون من ترونهم الحلقة الأضعف عِوض أن تعمدوا إلى اعتماد التشخيص العميق والمطلوب للمرض الذي أدخلتم في عوالم أنينه شعبا ووطنا، وتريدون أن تظهروا وكأنكم من تبحثون عن علاجه ودوائه في تمثيلية تمثلون فيها أنتم دور الجانب الطيِّب والخَيِّر فيما هؤلاء الطلبة المساكين يمثلون دور فاوستس الشيطان الشرير والبغيض. وفي الأخير أقول أن هذه الحكومة تحتاج إلى طبيب يعالج عياءها في معالجة قضية الصحة بالمغرب، وبالضبط إلى طبيب عيون لتصحيح النظر، وبعد ذلك أقول أن الطالب الطبيب ليس مطلقا ضد أن يخدم الوطن وأبناء الوطن أينما كانوا ووجدوا، في الجبل والبحر، والساحل والعمق، في السهل والهضبة، وسط المدينة وفي ضواحيها، في البادية أو هامشها القَصي، بل ومستعدٌ أكثر من هؤلاء الذين يحشرون اسم الوطن في كل شيء، بأن يقدم دمه وأشلاءه في أي مواجهة يخوضها الوطن، فهو منه وليس لأحد إلا له، مرددا دوما وفي صمت يعبر عنه عمله واجتهاده عبر عقود دراسته: مغربنا وطننا روحي فداه ... ومن يدس حقوقه يدق رداه دمي له روحي له... وما ملكت في كل آن للحرية جهادنا حتى نراها... والتضحية سبيلنا إلى لقاها.