حافلات تآكلت حتى غدت عبارة عن هيكل معدني بألوان ثاقبة غير مريحة للنظر، ونوافذ زجاجية قاتمة تحجب الرؤية، غير أنها في الآن نفسه، تمتلك سحراً وطابعاً محلّياً يميّزها عن بقية العربات المنتشرة في العاصمة السنغالية داكار. عتيقة لكنها سريعة، وتفاصيلها تختزل جزءًا هاماً من تاريخ البلاد، وهذا ربما من بين الأسباب التي جعلتها موضع إقبال من طرف عدد كبير من السياح. "الحافلات السريعة"، والحافلات الصغيرة الملوّنة، إضافة إلى ال "ندياغا نديايي" والتي ورثت اسم السنغالي الذي أطلقها في شوراع البلاد.. عربات سريعة تملأ شوارع داكار بالضجيج الصادر عن أبواقها وأصوات محرّكاتها، وتضخّ في شرايين مختلف مناطقها، حياة تفتقدها حين تغيب عنها، وليس ذلك فقط، وإنما تساهم في الاقتصاد المحلّي أيضا. فمختلف هذه الحافلات تعتبر إحدى رموز الموروث الثقافي في البلاد، والذي عادة ما يستقطب انتباه الوافدين عليها من الخارج.. صور تكشف عن ألوان فاقعة يهيمن عليها الأزرق والأصفر، وأخرى بلون أبيض موحّد، لعربات تعود جذورها إلى عقود من الزمن، ومع ذلك، لازالت "نجمة" طرقات السنغال بلا منازع، وخصوصاً في العاصمة داكار. فهذه العربات لازالت، إلى اليوم، تزيّن البطاقات البريدية والصور التي يقبل عليها السياح، منبهرين بتلك الحافلات الصغيرة التي تجوب الشوارع ذهابا وإياباً، بلا كلل أو ملل، لتشكّل مع سيارات الأجرة المطلية بالأصفر والأسود، إضافة إلى السيارات الخاصة وبقية الحافلات، فسيفساء جميلة للمواصلات في السنغال. وعلى متن "الحافلات السريعة" أو ال "ندياغا نديايي"، تتقلّص الشكليات حدّ الاضمحلال في كثير من الأحيان.. مزيج رائق من البساطة والفوضى المحبّبة لبعض عشاق المدن الكبرى.. أربعة صفوف من المقاعد، يحتل اثنين منها مدخل الحافلة، فيما ينتصب الآخران بشكل عامودي بالنسبة لمن يلج العربة من بابها الأمامي. المقعد الواحد منها مخصّص ل 5 ركّاب يتعيّن عليهم الإلتصاق ببعضهم البعض حدّ الغثيان في الكثير من الأحيان، ليتمكّنوا من الجلوس، وهو ما يشكّل موضوع الخلافات والمشادات الكلامية الأزلية بين الركاب، تماماً مثلما يحدث، كلّما توقّفت إحدى هذه الحافلات في محطّة ما، وتفتح أبوابها لاستقبال ركاب يتدافعون سعياً وراء الحصول على مقعد في متنها. وحول قطاع النقل الجماعي في السنغال، يحوم فاعلون آخرون ممن ترتبط أنشطتهم بهذا المجال الحيوي، منهم أولئك الذين يضطلعون بمهمة جذب انتباه الركاب إلى الحافلة وحفزهم على اقتطاع تذكرة فيها.. ففي "كولوباني"، أحد أحياء داكار الشعبية، يتعالى أصوات هؤلاء مدوّية ومعلنة عن وجهة الحافلة "داكار، سوق تيلاني.. مركز المدينة".. الجملة نفسها تتردّد على ألسنتهم آلاف المرات في اليوم، لتستقطب الركاب وتحشدهم في العربة قبل أن تنطلق نحو وجهتها مخلّفة وراءها هالة من الدخان والغبار. غير أنّ انعدام الانضباط بالنسبة لسائقي هذه العربات وحتى المتربّصين منهم، يظلّ السمة الأبرز المهيمنة على نمط التعامل السائد.. سلوك يعود إلى المستوى التعليمي الضعيف لسائقي الحافلات السريعة أو ال "ندياغا نديايي"، بحسب بعض الشهادات المتفرّقة لعدد من مستخدمي هذه الحافلات في داكار، ويمنحهم فرصة فرض قوانينهم بأنفسهم في تلك الحافلات والتي يعتبرونها ضمن مجال هيمنتهم، بما في ذلك جميع ركابها. فوضى تبلورت من خلال كثرة التشكيات والتذمّر من عدم احترام المسالك والتوقيت وغيرها، لتنضاف إلى مشاكل التلوّث المنبثقة عن جولان هذه العربات، وهو ما دفع بالحكومة السنغالية، في مناسبات عديدة، إلى السعي نحو "تطهير" المشهد الحضري منها. ومع ذلك، ورغم بعض النقاط القاتمة المحسوبة على هذه الحافلات، إلا أنّ الوجه الآخر للموضوع يتضمّن محاسن لا يمكن إنكارها.. فالقائمون على النقل المشترك في السنغال يبدؤون عملهم انطلاقا من الرابعة فجراً، بما يؤمّن وصول العمال إلى مواطن أشغالهم في المواعيد المحدّدة، كما أنّ المعروف عن وسائل النقل هذه أن لها أدنى أثمان تذاكر النقل في البلاد، حيث تتراوح بين 0.009 إلى 0.35 دولار للرحلة الواحدة، وذلك وفقا للمسافة. هوامش ربح ضئيلة غير أن مراكمتها قد يعني الكثير بالنسبة للسائقين المنحدرين في معظمهم من الطبقات الفقيرة أو المتوسّطة ، خصوصا في ظلّ ارتفاع أسعار البنزين، والتي تتراوح من 25.98 إلى 34.64 دولار. عليون سيلا، شاب سنغالي في ال 17 من عمره، بلغ عامه الثالث، كسائق متربّص يعمل لحساب عمّه، قال إنّ "الأرباح تتباين من موسم لآخر، فخلال العطلات المدرسية، تتقلّص إيراداتنا في استجابة بديهية لانخفاض عدد زبائننا، لكن، ومع انطلاق العودة المدرسية، بدأت مداخيلنا بالارتفاع تدريجيا". تقسيم الأرباح يعود، بطبيعة الحال، لأصحاب الحافلات، فمنهم من يمنح السائق حصّة يتّفق عليها مسبقاً، ومنهم من يمنحه راتباً شهرياً ثابتاَ بغض النظر عن الإيرادات، والخيار الأخير رأى عليون أنّه لا يمنح السائق هامشاً كافياً من الحرية في إدارة عربته. ومنذ 2004، دخل قطاع النقل المشترك في السنغال، مرحلة تجديد منحت فيها الأولوية للحافلات القديمة التابعة ل "شركة داكار للنقل". سنوات إثر ذلك، ظهرت مجموعات اقتصادية أخرى زوّدت شوارع البلاد بحافلات هندية من نوع "تاتا". ومع أنّ الخدمات المقدّمة من قبل هذه الشركات المستحدثة تعتبر أفضل بكثير من تلك التي تقدّمها الحافلات السريعة أو ال "ندياغا نديايي"، إلاّ أنّ المنافسة لا تزال على أشدّها بين عربات قديمة وأخرى جديدة. منافسة يجزم الكثير من سكان السنغال إنها تخدم مصلحة الزبون بغض النظر عن النقائص والعيوب التي تشوب نشاط هذا المعسكر أو ذاك. * وكالة أنباء الأناضول