"الثورة" كادت هذه الكلمة أن تخرج الى غير رجعة من القاموس العربي. و أكاد أجزم ان استعمالها في التداول العام خلال الثلاثين سنة الماضية كان دوما بصيغة الماضي في نوع من النوستالجيا الأطلالية البكائية ، أو بنوع من الاحتفالية الغبية لذكريات نخرجها سنويا من الفريزر، نمجدها ثم نجمدها من جديد . وها هي قد عادت في أبهى معانيها وأرقى أشكالها . عادت لتحيي الأمل المفقود منذ عقود . عادت لتنعش الآمال وتغير الأحوال. عادت لتؤكد حقائق جديدة في الميدان . الميدان ! عاد للميدان معناه الحقيقي . وما الميدان، عربيا ، إلا الآغورا إغريقيا. و الاغورا فضاء للتداول الديموقراطي في أول أشكال التمدن الفكري والانساني. الثورة المصرية نبراس نموذجي لصناعة التاريخ لصالح الشعوب المقهورة من الظلم و الاستبداد . ثورة قوية بكل المقاييس : قوية بشبابها ، قوية بفكرها ، قوية بتنظيمها ، قوية بسلميتها، قوية بتسامحها، قوية بإصرارها ، قوية باستمرارية نفسها ، فطنت لمناورات الأنظمة البالية ، فطنت لمبرراتهم الواهية، ونهجت طريق الفكر الجيلي. الجديد. ينطلق الفكر الجيلي الجديد من تشخيص مزدوج للواقع . فالواقع واقعان : واقع معيش هنا، مظهره الظلم والقمع والاضطهاد. وواقع معيش هناك في مجتمعات أعادت للانسان كرامته بقوة الحق و القانون . فأصبح هو الواقع المأمول و هو الواقع البديل . وهو أقرب مما كنا نتصور . هو على مرمى إيمان صادق بالنصر وصفحة إلكترونية و ميدان عريض. مفهوم الجيل ليس تحقيبا ديموغرافيا وسوسيولوجيا فحسب، بل هو تحقيب فكري أيضا . الجيل الفكري الجديد الذي نعيشه مع بداية العقد الثاني من الالفية الثالثة هو جيل البناء الديموقراطي لكل الشعوب المضطهدة وهو بناء راسخ ولا رجعة فيه . هذا ليس حكما ساذجا أو نظرة مبالغة في التفاؤل بل هو نتيجة لمعطيات موضوعية . ولا يمكن لهذه المعطيات الا ان تتوطد وتتقوى من التجارب السابقة : التجربة التونسية الرائدة و التجربة المصرية النموذجية . لم تعد وسائل الإعلام حكرا على من يحتكر السلطة . بل أصبحت ملكا لمن يريد .كسرت المواقع الاجتماعية الالكترونية سلطة الإعلام التقليدي وتخندقاته التواطئية مع الأنظمة القائمة . وكرست أسلوب التداول المباشر والصوت المباشر و الفعل المباشر. وفي المقابل، لم تعد أساليب المنع والمراقبة تجدي ، هناك دوما أساليب للالتفاف عما يحيكه الئالمون من خطط أكل عليها الدهر وارتوى .ولم يعد الخطاب حماسيا أجوفا بل أصبح واقعيا ومنطقيا وقابلا للانجاز الفوري. الفكر الجيلي يحمله أشخاص يؤمنون بقيم المواطنة الحقة التي تعتمد على العدل والمساواة ومضمون جديد لمفهوم الصالح العام . أشخاص قد يخرجوا في لحظة من مكاتبهم وعياداتهم وجامعاتهم إلى الشارع لتنظيفه ، قد يستبدلون في لحظة أقلامهم بمكنسات يكتبون بها واقعا جديدا يزيدهم نبلا و سموا. الفرصة متاحة أمام الأنظمة لتغيير أنظمتها. لتوافق حركتها حركة التاريخ المشرق. فالحبر الذي كتبت به الدروس لم يجف بعد. ودوي الحناجر الأبية لم يخفت صداه بعد. فتح التاريخ بابين : باب المعزة والخلود، وباب المذلة و الجمود . ولكل أن يختار بابه.