لقد تفتقت عبقرية الأنظمة العربية على فكرة إغراق شعوبها بسيل من المسلسلات المكسيكية والبرازيلية في قنواتها الرسمية، وكذا سياسة المهرجانات الغنائية التي تصرف عليها الأموال الباهظة طيلة أيام السنة، حتى توحي أو توهم الواهمين بأن الناس كلهم في فرح وغناء، ورقص وطرب، ونشوة بقصص الحب والغرام والهيام على نمط الخيال المكسيكي والبرازيلي، إلا أن هذه الشعوب العربية الأبية أبت إلا أن تنتج مسلسلها الخاص بها، مسلسل يعبر عن همومها الحقيقية وتطلعاتها وأحلامها الحقيقية. إنه مسلسل الثورة الذي تابعنا الجزء الأول منه على الهواء مباشرة، تحت عنوان: ثورة تونس، الذي استمر على مدى ثمانية وعشرين حلقة. كما تابعنا الجزء الثاني تحت عنوان الثورة المصرية، وقد استمر على مدى ثمانية عشرة حلقة، ولا زالت الجماهير تنتظر بقية الأجزاء على أحر من الجمر. ورغم أن الجزء الثاني كان أقصر من حيث مدته الزمنية ومن حيث عدد حلقاته بالمقارنة مع الجزء الأول، إلا أنه تميز بأحداثه المشوقة والمثيرة التي تشد الأعصاب منذ البداية حتى النهاية، وخاصة بعد موقعة الجمل أو غزوة الجمل في ذلك الأربعاء الدامي، الذي استنجد فيه النظام البوليسي العتيد المنهار، بالدواب والجمال والبغال، و"البلطجية" والمخربين والمجرمين الخارجين عن القانون، والجهال المتخلفين، في مواجهة شباب متحضر، متعلم، راقي في سلوكه وفكره، استعمل أحدث وسائل التكنلوجيا المعلوماتية، وكان سلاحه الوحيد هو الكلمة والتظاهر السلمي، ولم يكن هدفه إلا الوقوف في وجه الظلم والمطالبة بالعدل. وقد كانت مثيرة للأعصاب كذلك بسبب تعنت مبارك وإصراره والتصاقه بالكرسي، وإصراره على حرق أعصاب الناس وحرق جميع أوراقه وسفنه وكشف جميع حلفائه وتعريتهم قبل أن يرحل. ولكن رب ضارة نافعة، لأن تمسك مبارك بالكرسي إلى آخر لحظة جعله يسقط في النهاية سقوطا مأساويا بكل نظامه ودستوره وبرلمانه المزور وحتى نائبه عمر سليمان "كمان". أما حسنات هذه الثورة المصرية إلى جانب الثورة التونسية فكثيرة، لكن أهم ما يمكن تسجيله هو أنها صححت للعالم صورة الإنسان العربي، التي عمل الإعلام الغربي طيلة الفترة الماضية على ربطها بالإرهاب والعنف والتفجير، وبالتخلف والجهل، وبالجمال والإبل، لتبين للعالم بأكمله بأن الإنسان العربي إنسان متحضر ومتعلم ومثقف، يعرف معنى الديمقراطية ويعرف كيف يدبر اختلافاته في الرأي، ويعرف كيف يحترم الآخرين، وأكثر من ذلك فهو إنسان قادر على صناعة ثورة سلمية مدنية متحضرة، هي الأولى من نوعها، حيث تفوقت حتى على الثورة الفرنسية التي كانت ثورة دموية انتقامية مدمرة. وأما سياسة المهرجانات الغنائية فقد ردت عليها الجماهير العربية ردا بليغا، حين خرجت الملايين من المحيط إلى الخليج في مظاهرات احتفالية عفوية وتلقائية تعبيرا عن الفرحة والحبور والبهجة الصادقة والنابعة من أعماق القلوب، وبينت بأن المهرجانات الحقيقية هي تلك التي تعبر عن نبض الشارع وهموم الناس وتساهم في بناء الوعي الحقيقي، وليست المهرجانات التي تحاول تخدير مشاعر وأحاسيس الشباب وتسطيح التفكير والوعي السياسي، ونشر ثقافة اللامبالاة. وأثبتت كذلك المظاهرات والاحتفالات أن تلك المهرجانات لم تكن إلا ماكياج لتغطية العيوب والأعطاب والأوساخ والعفن، وأن كل تلك السياسات المائعة لم تنس الشعوب في كل تلك المعاناة التي تعيش تحت وطأتها يوميا، من بطالة وفقر وظلم ورشوة ومطاردة للباعة المتجولين ومطاردة للمعطلين وحاملي الشهادات المحتجين، وتكالب على أموال الدولة ونهب لخيرات الشعوب. وفي انتظار بقية الأجزاء من هذا المسلسل الثوري، كل ثورة وأنتم بألف خير.