يروج بعض الساسة خطابا مفاده : نحن مع استقلال القضاء والقاضي ، ولكن لا بد من ضمانات للمواطن و للمتقاضي حتى لا يضره هذا الاستقلال ، ومن هذه الضمانات : أن يصدر القاضي أحكامه داخل آجال معقولة و إلا أصبح مسؤولا مسؤولية مهنية قد تعرضه لمحاكمة تأديبية عما تسبب فيه من بطء في إصدار الأحكام ،وربما هناك بعض المقتضيات في مشروع القانون التنظيمي للنظام الأساسي للقضاة الذي - حسب بعض المصادر الرسمية - سيرى النور قبل نهاية هذه السنة 2015 هذا كلام معقول وجميل " ما أقدرش أقول حاجة عنو " كما تقول الفنانة ليلى مراد لكن ،قبل توجيه هذه التهمة الخطيرة للقاضي لا بد من بحث و دراسة الأسباب والظروف التي تساهم في بطء القضاء ولا يد للقضاء فيه أية مسؤولية بتاتا وهي كالآتي : 1- توفير جهاز فعال لتبليغ الطيات القضائية في المدن والبوادي والمناطق الجبلية 2- تمكين جهاز كتابة الضبط من الموارد البشرية والمادية للقيام بعمله في انجاز الطيات القضائية في وقتها 3- إقناع السادة المحامين بعدم طلب الآجال تلو الآجال لأسباب تخصهم أو تتطلبها إستراتيجيتهم في الدفاع عن موكليهم - وهذا من حقهم - و إلا وقع اصطدام أو حزازات غير مرغوب فيها بين الطرفين ، ونحن لا نرغب في أن تسوء العلاقات داخل الأسرة القضائية 4- لما يأمر القاضي بإجراء بحث ويستدعي الشهود لا بد من ضمان حضورهم في الوقت المحدد ، والبحث وحده يستغرق شهورا 5- لما يأمر القاضي بإجراء خبرة لا بد من انجازها في آجال معقولة ، فالخبرة وحدها تستغرق سنوات ابتدائيا واستئنافيا 6- ضمان عدم شن إضرابات تشل حركة المحكمة - وهي حق دستوري كما نعرف - من طرف هذا القطاع المهني أو ذاك في بعض الأحيان 7- الدعوى تقام بشكل معيب لانعدام الصفة أو الأهلية ، وتصحيحها قد يتطلب وقتا طويلا لا سيما إذا كان الورثة المدعى عليهم موزعين بين أمريكا وأور وبا واستراليا ... الخ ، 8- تغيير الهيئة القضائية من حين لآخر على اثر ترقية أو انتقال أو بعد عقد الجمعية العمومية السنوية ، وما يتطلبه هذا التغيير من دراسة جديدة للقضية من طرف الهيئة القضائية الجديدة 9- توزيع عادل للقضاة عبر مختلف محاكم المملكة ، لأن القاضي الذي يترأس أكثر من 3 جلسات في الأسبوع في محكمة بمنطقة نائية ، ويحجز أكثر من 40 ملف في الأسبوع ، سيكون ضربا من الخيال أن ننتظر منه الحكم داخل آجال معقولة ، في محكمة لم يعين بها إلا عدد قليل من القضاة لا يتناسب مع حجم القضايا الرائجة بها 10- المداولة ... ، في آخر المطاف ... ، وبالنسبة للقضاء الجماعي إجراء صعب ... ، قد لا يتفق القضاة فيما بينهم على حل قانوني معين للدعوى أو القضية ، وقد تطرح فيها نقط قانونية شائكة تتطلب بحثا ودراسة ، وربما تقرر الهيئة تمديد اجل النطق بالحكم مرة أو مرات ... صحيح انه من القضايا البسيطة ما يحكم في شهر واحد فقط ، ولكن بالمقابل من القضايا المعقدة ما يمكث في المداولة شهرين أو 3 أشهر أو أكثر و للأسباب المذكورة ، أو لأسباب أخرى كقلة المراجع في خزانة المحكمة أو لعدم ربطها بالانترنيت الأمر الذي يتعذر معه على القضاة إيجاد الحل القانوني بسرعة للقضايا المحجوزة للمداولة ، وهذه مسؤولية الدولة وليست مسؤولية القاضي ، في سنة 1996 كنا في دورة تدريبية بمحكمة الاستئناف بفيرساي VRESAILLES ... وقيل لنا أن ميزانية المحكمة تخصص ما يناهز 40 مليون سنويا للمراجع والمدونات LES CODESلفائدة القضاة ورؤساء الغرف وقضاة النيابة العامة . إذا توفرت هذه الأسباب العشر ، أو بعبارة أخرى إذا رفعت من طريق القاضي هذه العراقيل أو الصعوبات العشر وتوافرت كل الشروط ، ومع ذلك تماطل القاضي في الحكم ، وبعد إعداد تقرير من طرف المسؤول القضائي بالمحكمة حول هذا التماطل أو البطء وتأكد له بالملموس عدم وجود أي سبب خارج عن إرادة ذلك القاضي يبرر له هذا البطء الضار بمصالح المتقاضين ، يمكن عندئذ مساءلته مهنيا ، ولا أظن أن قاضيا شريفا ومهنيا سيرضى لنفسه بان يكون منكرا للعدالة ، أما إذا لم يتوفر ولو سبب أو شرط واحد من الشروط العشر المذكورة ومع ذلك تقوم المفتشية العامة بجرجرة القاضي إلى مكاتبها من أجل (( سين ؟ و جيم ؟ )) ، فإن هذا السلوك ينطبق عليه المثل الشعبي القائل (( إلى سقطت الصومعة ... فعلقوا الحجام )) وفي جميع الأحوال إن فرض جدول زمني - ولو بنص تشريعي - على القاضي يتعين عليه الأخذ به للحكم في هذه القضية أو تلك من شانه أن يمس باستقلاله كقاضي ويحد من حريته في العمل طالما أن الشروط أو الأسباب العشر المذكورة آنفا غير متوفرة من جهة ، و لأن القاضي بما له من استقلال وحرية في العمل هو الذي يقدر متى تصبح هذه القضية او تلك جاهزة للحكم فيها ومن ثم حجزها للمداولة لا يمكن أن نفرض على القاضي أجلا محددا للحكم في قضية معينة ‘ لأنه قد يكون له رأي مخالف ويحدد هو زمن الحكم في الدعاوى المعروضة عليه التي قد يتطلب بعضها بحثا أوليا ثم بحثا تكميليا ، وقد يجري فيها خبرة ، ثم خبرة مضادة ، وقد يضطر في النهاية إلى إجراء معاينة والانتقال إلى عين المكان ... الخ . لا يمكن أن نتعامل مع القاضي المستقل بمنطق المقاولة لأن المحكمة ليست مقاولة تهدف إلى الربح و لأن القاضي ليس مقاولا حتى نفرض عليه تسليم منتوجه - أي الحكم القضائي - داخل اجل محدد سلفا ، فحتى الشركات والمقاولات الصناعية والتجارية تعجز أحيانا عن احترام الآجال المتفق عليه في العقد ويحكم عليها بغرامات التأخير رغم ما تتوفر عليه من اطر وإمكانيات مادية وتكنولوجية حديثة ، فما بالك بالقاضي المسكين المغلوب على أمره بسبب كثرة الملفات والمداولات والجلسات وتحرير الأحكام لا يمكن اختزال المحاكمة العادلة والقضاء المستقل والضمانات الممنوحة للمتقاضين في وضع رقم زمني محدد مثل : 3 أو 4 أو 6 أشهر للحكم إجباريا وقانونيا في هذه القضية أو تلك ، لأن مفهوم العدالة الحقيقية اكبر من ذلك ، ويمكن إلى حد ما أن توضع من طرف الجمعية العمومية للمحكمة لائحة استرشادية حسب كل منطقة جغرافية تحدد الأمد المتوسط للحكم في القضايا ، ولائحة الدعاوى القديمة التي يتعين تصفيتها و إعطاؤها الأولوية في الإجراءات و الحكم ، ويمكن تسمية هذا العمل " بالديمقراطية الداخلية " وسط المحاكم . لا يمكن محاسبة القاضي على البطء في تصريف القضايا التي كلف بها إلا إذا تلقى تكوينا جيدا بالمعهد القضائي ، وكان مستقرا نفسيا بالمحكمة التي يشتغل بها ، ولا يقطع مآت الكيلومترات كل أسبوع بين محكمته ومنزله حيث تقيم أسرته ، وبعد أن تتوافر الأسباب أو الشروط العشر التي اشرنا إليها أعلاه ، وعندئذ لن يكون المجتمع ولا المشرع و لا مرسوم حكومي في حاجة إلى فرض اجل معين على القاضي للحكم في هذه القضية أو تلك لأن ضميره واستقلاله هما من سيفرض عليه ذلك . وفي ختام هذا المقال نستغرب سلوك بعض رجال السياسة وبعض الأقلام الصحافية الذين يستكثرون اليوم على القضاء استقلاله ، ويريدون مساومته والتفاوض على استقلاله - وكأننا أمام صفقة تجارية - لكي يكون مستقلا بنسبة معينة 60 %أو 80% فقط ، ونسوا أن هذا القضاء مستقل منذ دستور 1962 ، ولما طرح السيد التيجني منشط برنامج ((ضيف الاولى )) ليلة الثلاثاء الماضية - 6/10/2015 - سؤالا في هذا الاتجاه على السيد وزير العدل والحريات ضيف الأولى كان جوابه حاسما وبلا تردد : (( القضاء يجب أن يكون مستقلا تماما ، ولكن مع وجود ضمانات للمتقاضين )) ، تحية للسيد الوزير على انتصاره لاستقلال القضاء ... ، أما مسالة الضمانات ففيها نقاش ونظر . *دكتور في الحقوق