تعددت القراءات واختلفت التفسيرات حول النتائج التي أفرزتها الانتخابات المحلية بالمغرب خلال الرابع من شتنبر الماضي؛ والتي أعطت الصدارة لحزب الأصالة والمعاصرة المحسوب على التيار الليبرالي ب6655 مقعدا أي بنسبة 21.12% من مجمل المقاعد المتبارى عليها، متبوعا بحزب الاستقلال ب5106 مقعدا بنسبة 16.22%، ثم حزب العدالة والتنمية المحسوب على التوجه الإسلامي الذي حصل على 5021 مقعدا بنسبة 15.94%، فيما اقتسمت الأحزاب الأخرى باقي النتائج. تداعيات هذه النتائج لم تحصر النقاش الذي دار حول قياس درجة تطور السلوك الانتخابي بالمغرب؛ ودرجة تطور المؤسسات الإدارية في ضبط العملية الانتخابية برمتها. حيث توالت التحليلات خصوصا حول الانتصار السياسي لحزب العدالة والتنمية خلال هذه الاستحقاقات، رغم حصوله على المرتبة الثالثة من حيث المقاعد المحصل عليها؛ إلا أنه استطاع أن يضاعف حصيلته الانتخابية بالمقارنة مع آخر انتخابات محلية أجريت سنة 2009؛ بالإضافة إلى حصوله على مليون ونصف من حجم الكتلة الناخبة وهو ما بوأه الصدارة من حيث عدد الأصوات المحصل عليها. أدت هذه النتائج التي حصل عليها حزب العدالة والتنمية إلى تقديم مجموعة من التحليلات الأكاديمية من زوايا ورؤى متعددة؛ كان أبرزها ما ذهب إليه أستاذ العلوم السياسية "محمد مدني" الذي اعتبر أن هذه النتائج لم تكن متوقعة خصوصا وأن حزب العدالة والتنمية ظل يتعرض لهجمات شرسة مدعومة من طرف مجموعة من الأحزاب المعارضة؛ وأن من المتوقع أن تشكل هذه النتائج "مشكلة بالنسبة للقصر؛ نظرا لأنه وجد فاعلا سياسيا يتقوى خارج نطاق السيطرة". فيما ذهب السوسيولوجي "محمد الناجي" لتفسير هذه النتائج إلى نفي أطروحة التصويت الديني للاختيارات السياسية للمغاربة خصوصا بالنظر لحجم الكتلة الناخبة التي استمال أصواتها حزب العدالة والتنمية، لكن التصويت لصالحه جاء نظرا للنوايا الحسنة التي يظهرها الحزب للقطع مع الممارسات السائدة في الحقل السياسي المغربي. باحثة سوسيولوجية أخرى "منية بناني الشرايبي" اتجهت في تحليلها للنتائج التي حصل عليها حزب العدالة والتنمية لدرجة الانضباط التنظيمي الذي يعرفه هذا الحزب، لكن عادت لتفسر الحضور القوي لحزب الأصلة والمعاصرة في الانتخابات من خلال اكتساحه الظاهر للدوائر الانتخابية بالمجال القروي؛ إلى "الدور الذي يلعبه هذا الحزب في جلب الأعيان القروية باعتباره كحزب مقرب من السلطة، على اعتبار أن الهندسة الانتخابية بالمغرب لا زالت تعتمد على التمثيلية القروية، ويشكل الحزب بذلك نسخة جديدة من الفلاح المدافع عن العرش". هذه القراءة التي تستند لأطروحة "الفلاح المغربي المدافع عن العرش" التي اشتغل عليها الخبير الفرنسي المهتم بقضايا شمال إفريقيا وبالمغرب على الخصوص، من خلال بحثه في بنية النسق المغربي وآليات التحكم السياسي التي ينتجها من أجل ضبط الحقل السياسي والفاعلين الممارسين بداخله. حيث خلص الباحث إلى أن الحركة الوطنية التي كانت تطمح للحكم بعد الاستقلال من خلال تجاوز النخب التقليدية المحلية، وتقليص سلطات الملك والحد منها عبر دسترة صلاحياته السياسية والمؤسساتية. مما اضطر بالملك إلى إقامة نظام للأعيان في خدمة الملكية لا سلطة للحركة الوطنية عليها؛ وذلك بضمان أن الاقتراع العام يضمن للملكية شرعية من شأنها أن تقوي مركزيته في الحكم. بيد أنه؛ في تقديري أن الرجوع لاستحضار هذه الأطروحة من أجل مقاربة تطورات المشهد الانتخابي بالمغرب، وقياس مواقع الفاعلين السياسيين تجاه الملكية التي سادت خلال فترة الستينات والسبعينات من القرن الماضي، مع أدوار الفاعلين السياسيين في الوقت الحالي هو أمر يغيب التطورات الحاصلة في المشهد السياسي المغربي؛ سواء على مستوى النخب السياسية أو على مستوى الجغرافية السياسية المغربية. فإذا رجعنا إلى الوضعية التي كانت تحكم العلاقة بين المؤسسة الملكية ونخب الحركة الوطنية؛ نجد أن هذه الأخيرة كانت لم تكن تروم إبان الاستقلال إلى تقاسم الحكم ولكن كانت تبحث عن ممارسة كلية له، مما ولد صراعا سياسيا بينها وبين المؤسسة الملكية التي ظلت متشبثة بشرعيتها التاريخية والدينية في السلطة. فكان بحثها عن شركاء محليين متمثل بدرجة أولى في الأعيان والتجار والفلاحين، من أجل التحكم في الكتلة القروية المتشبثة بشرعية الملك في الحكم. الاستناد على هذه الخطاطة من أجل إعادة تحليل المشهد السياسي الحالي؛ والقول بأن السلطة الملكية تستند على المجال القروي من أجل ضمان ولائها وإخلاصها للحكم هو قول يجانب للصحة، لماذا؟ لأن الشروط المنتجة له سابقا لم تعد حاضرة والصراع السياسي الذي استمر لعقود بين نخب الحركة الوطنية والمؤسسة الملكية لم يعد له وجود هذا من جهة. المسألة الثانية التي تفرض إعادة النظر في الإسقاطات الكلية لهذه الأطروحة لتحليل الحاضر على ضوء الماضي هي التحولات التي طرأت على الجغرافيا السياسية بالمغرب، فإذا كان المجال القروي خلال الحقبة التي اعتمدها ريمي لوفو في تبرير اطروحته؛ يشكل 80% من ساكنة المغرب في مقابل 20% من ساكنة الحواضر، فإن المجال القروي حاليا لا يشكل إلا 40% من الساكنة مقابل 60% داخل المدار الحضري. هذا التحول في السوسيولوجيا الحضرية يحمل معه أيضا تحول في بنية التمثلات الاجتماعية والممارسة اليومية للمواطن ونظرته للمؤسسات السياسية وتفاعلاته معها. لهذا فالتفسيرات التي تذهب للقول بأن حزب الأصالة والمعاصرة الذي ينعت بتقربه للسلطة بالرجوع للحظاته التأسيسية، يشكل أحد أوجه إعادة إنتاج أطروحة "الفلاح المدافع عن العرش" بالنظر إلى حصوله على المرتبة الأولى بالانتخابات المحلية، خصوصا وأن معظم كتلته الناخبة تقبع في المجال القروي. بمفهوم المخالفة يمكن اعتبار أن الكتلة الناخبة بالحواضر التي اتجهت للتصويت على حزب العدالة والتنمية هي منازعة للعرش، وهو تحليل في نظرنا لا يحتوي على العناصر السوسيولوجية الكافية لتبرير استنتاجاته. على اعتبار أن حزب العدالة والتنمية تأسس منذ بداياته على احترام الملكية والانصهار في شرعيتها الدينية، وهو ما سهر على إثباته من خلال ممارساته السياسية عبر مختلف المحطات الاتخابية، ومن خلال أطروحاته التعبوية وشعراته السياسية التي ما بات يؤكد من خلالها مرارا وتكرار على تشبثه بالثوابت الوطنية وعلى رأسها القيادة السياسية للمكية. ولعل هذا ما دفع وزير الاتصال والقيادي بحزب العدالة والتنمية للخروج من أجل الرد على بعض التحليلات التي فسرت النتائج التي حصل عليها الحزب، كحدث مزعج للملكية. وذلك بالتأكيد على أن "الممارسة السياسية للحزب والمنطلقة من مرجعيته وفكره السياسي أثبتت أنه كان دائما في إطار الشرعية ومعها، ويشتغل تحت قيادة جلالة الملك، وشكل دائما دعما وسندا للإصلاحات الكبرى الدستورية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والتنموية مع باقي القوى الحية". ثم يعود الخلفي ليؤكد أن طبيعة العلاقة بين الحزب والمؤسسة الملكية تنبني "على منطق التعاون بين المؤسسات تحت قيادة جلالة الملك ومبنية على احترام المشروعية والوفاء لها والعمل في إطارها والامتناع عن التنازع معها، وهو ما يشهد عليه سلوك ومسار رئاسة حزب العدالة والتنمية للحكومة". الأمر الذي يؤكده السلوك الذي نهجه الأمين العام للحزب ورئيس الحكومة السيد عبد الإله بنكيران، الذي يصوغ خطابه تجاه المؤسسة الملكية بعيدا عن الصدام والمنازعة أو اللجوء إلى الاحتجاج، بل ما فتئ يعبر عن الولاء التام للقيادة الملكية التي يعمل من خلالها في ترشيد وتدبير عمله الحكومي بالنظر إلى اعتباره رئيس الدولة والسلطة العليا للبلاد. تقودني الفرضيات الرئيسية السابقة إلى فرضيات جزئية أخرى قد تفتح الباب أمام إعادة صياغة أطروحة الفلاح المغربي المدافع عن العرش، بالوجه الذي يحترم التحولات السوسيولوجية التي طرأت على المشهد الانتخابي ومحددات السلوك السياسي سواء للنخب الفاعلية، أو بالنسبة للكتلة الناخبة. فما يتضح الآن على مستوى الخطاب أن حزب العدالة والتنمية من أكبر المساندين والمدافعين عن العرش؛ بل ساهم الحزب بشكل أساسي في إخماد فوهة الحراك الشعبي بالمغرب خلال السنوات القليلة الماضية، أولا بعدم مشاركته أو مساندته الرسمية لحركة 20 فبراير والاحتجاجات التي عرفها المغرب آنذاك، وثانيا باعتباره البديل الوحيد الذي كان متوفرا لقيادة الحكومة في مرحلة كانت معظم البلدان العربية يلفها المصير مجهول. وبالتالي التكهن بأن حزب العدالة والتنمية يشكل منافسا للشرعية المؤسساتية للملكية بالمغرب، مما يفرض التوفر على كابح حزبي له مقرب للسلطة يجد قاعدته الانتخابية في القرى والبوادي حيث يبدي المواطن المغربي ولاءه التام للسلطة السياسية؛ يمكن التسليم به إذا ذهبنا في طرح ضبط التوازنات السياسية بين الفرقاء السياسيين كأحد القواعد التي يقوم عليها النظام السياسي المغربي. لكن القول بأنه يشكل بديلا لشرعية الحكم فهذا يقتضي أن يقيم حزب العدالة والتنمية خطابا نزاعيا تجاه الملكية وأن يبني شرعيته الشعبية على الاحتجاج على السلطة المركزية للحكم؛ والتشبث بمختلف الصلاحيات الدستورية وهامش الفعل السياسي الذي يمنحه الدستور للحكومة التي يقودها الحزب منذ سنة 2011. لكن الحاصل أن القيادة السياسية للحزب منذ تأسيسه اجتهدت على بعث رسائل الثقة والود للمؤسسة الملكية؛ سواء قبل توليه رئاسة الحكومة أو بعدها. بالإضافة أن الحزب في خضم دخوله للمعترك السياسي خضع لاختبارات عديدة قبل استكمال مسلسل إدماجه داخل المشهد السياسي الذي توج بقيادته للحكومة؛ التي لا يرى بدَا من إنجاح تجربتها إلا عبر القيادة الملكية وتحت توجيهاتها الاستراتيجية. *باحث في العلوم السياسية والقانون الدستوري جامعة محمد الخامس الرباط/المغرب