( قراءة تحليلية في الحدث المصري ) في مقالي السابق المنشور يوم 31 يناير الماضي والمعنون " ما هي احتمالات سقوط الرئيس حسني مبارك؟ عرضت سلسلة من الإحتمالات المستندة على قراءة سياسية للحدث المصري وراهنت على عدة عوامل ما كان لثورة الشباب في مصر أن تتقدم نحو تحقيق أهدافها دون تفاعل هذه العوامل. اليوم وبعيدا عن إحتمالات سقوط حسني مبارك من سدة الحكم في مصر يبدو أن ما اسميته بمخطط تمطيط الأزمة قد دخل حيز التطبيق واستطاعت الآلة الإعلامية والمناورة السياسية المصرية من توجيه ضربات قوية لنهج ثورة الشباب وبات من الممكن جدا التأكيد أن تكتيك إطالة عمر الأزمة وإلى غاية سبتمبر المقبل قد أصبح أمرا واقعا لا محالة وان التعايش مع إحتجاجات ميدان التحرير قد تحولت إلى سلاح ذو حدين. أحدهما عدم تطورها إلى المستوى الذي يستطيع الإطاحة برأس النظام وهو التطور الذي ما كان له ليتم دونما توفر الدعم الرسمي الغربي بل وحتى العربي لها. (علما بأن هذا الدعم يتناقض مع مصالح الغرب مرحليا ومصالح النظمة العربية على الإطلاق) وثانيهما بروز لغة جديدة في المحيط السياسي المصري تحاول إظهار هذه الثورة على أنها إحتجاجات شعبية ( تقع في كل بلاد العالم ) وبالتالي فلا مناص من المزايدة عليها بعدة أساليب لعل أبرزها هو جر المعارضة المصرية ( والتي لا تمثل المحتجين ) إلى طاولة المفاوضات وبالتالي تحويل كل نوع من أنواع الإحتجاج إلى خروج عن قواعد التحاور السياسي ليتم عزلها سياسيا وشعبيا وما أكثر الوسائل المتوفرة للنظام لفعل ذلك. قد تبدو هذه المقدمة غير ذات معنى إذا لم نخضعها لنمط تحليلي متأن وما لم نبتعد عن لهيب الشعارات وجو الحماس الذي يسود الشارع المصري والعربي عموما. مع التأكيد أن كل ما نطرح من افكار هي مجرد فرضيات وإذا كانت قد أثبتت صحتها لحد الآن فإن ذلك لا يعني بأن اليقين المطلق. إن التغيرات التي أثرت على المشهد المصري داخليا يمكن تلخيصها في ثلاث عناصر هي كالتالي : - إستحداث أصوات مساندة لحسني مبارك ( عنصر الإقتتال والفوضى ). - غياب التأطير السياسي للمحتجين ( ركوب الساسة على مطالب المحتجين ). - تواطؤ المؤسسة العسكرية مع مشروع النظام الذي يراهن على الزمن. عناصر يمكن التعويل عليها للإستدلال على صعوبة مهمة المحتجين بل واستحالة أن تنجح ثورتهم في تحقيق مطلبها الأساس وهو الرحيل الفوري لحسني مبارك. لكن وقبل الإنطلاق في تحليل هذه العناصر لا بأس من الإشارة إلى أن الإحتجاج ( بشكله الحالي ) قد استنفد أقصى غاياته التي تمثلت في تاكيد حقائق هامة من بينها : - إنطلاق التغيير في مصر - ضمان عدم بقاء مبارك مدى الحياة - وأخيرا الإستبعاد المطلق لفرضية التوريث. إستحقاقات لو فسرت بالأدوات السياسية لفهمنا أنها إنتصارات رغم حالة العجز في تنحية مبارك بالأسلوب الذي عرفته تونس والفارق كبير بين الحالتين. إستحداث أصوات مساندة لحسني مبارك ( عنصر الإقتتال والفوضى ) على الرغم من بشاعة ما اقترفه أنصار الرئيس حسني مبارك من جرائم في ميدان التحرير وعلى الرغم من الإستنكار الدولي لهذه الجرائم والتي طالت بين من طالت رجال الصحافة والإعلام , إلا أن عنصر إستحداث ورقة العناصر الداعمة لمبارك قوى القناعة لدى المجتمع الدولي بأن رحيله بالشكل الذي يريده المحتجون لربما يحول الساحة المصرية إلى ميدان حرب أهلية, وهو الأمر الذي لم يك ليريح عدة أطراف لعل أهمها الولاياتالمتحدة وإسرائيل وباقي الأنظمة العربية. وهنا نجح مهندس الإستراتيجية الرسمية المصرية في إقحام عنصر التخويف ( البلطجة ) وبنى عليه الصيغة التفضيلية لما يسمى بالتدرج في إحداث التغيير, ليتناغم مع الموقف الأميركي وغيره من المواقف الغربية التي تربطها بنظام حسني مبارك مصالح إستراتيجية لا ترى أي داع للتخلي عنها حتى لو كان ذلك على حساب مبادئها الداعية للحرية والديموقراطية والشفافية والتخلي على طموحات الشعوب. لأن الأمور في السياسة الدولية لا تحددها الشعرات بل المصلحة والمنافع والحسايات الإستراتيجية. غياب التأطير السياسي للمحتجين ( ركوب الساسة على مطالب المحتجين ) لقد تردد على لسان الكثير من المحللين السياسيين ( وما أكثرهم على شاشاتنا العربية ) كلام يوحي بأن غياب عنصر التنظيم السياسي لثورة الشباب هو ميزة وليس نقصا. رأي قد يخجل المرء في التعاطي معه لأن واقع الحال أثبت أن مسار هذه الحركة الإحتجاجية لا يمكن أن ينتقل ( سلميا ) نحو تحقيق أهدافه الرئيسية دون وجود رصانة في ترتيب الأولويات وتنظيم محكم لما بعد الوقوف والصياح والتضحية بالأرواح.. فالتاريخ يؤكد أن كل الثورات الشعبية في العالم تحتاج لموقف سياسي واضح وموحد .. وتحتاج أكثر من ذلك لقيادات تلتف حولها دونما إنقسام أو بعثرة للمجهود العام. فمع تدشين ما أسمي بالحوار مع (نائب) الرئيس المصري عمر سليمان يمكنني التأكيد أن حركة الإحتجاج قد فقدت عنصر التأثير الذي كان يمكن أن تحدثه لو أن من انخرطوا في هذا ( الحوار) أخذوا بعين الإعتبار ملفها المطلبي الأساس وهو رحيل مبارك وإقامة إنتخابات رئاسية مبكرة , بل وإيجاد صيغ دستورية للإلتفاف حول كل المعوقات التنظيمية التي تحول دون ذلك. صحيح أن ميدان التحرير قد تحول إلى ساحة ورمز للإرادة الشعبية , وتحول كذلك إلى منصة للتعبير عن رفض رجل الشارع المصري لحسني مبارك , وصحيح كذلك أن هذا الميدان قد تحول إلى منبر لإستعراض أشكال من الإستعراض الغنائي والفني لما تخزنه الذاكرة المصرية من (ويلات) هذا النظام. لكن هل يخدم ذلك مبدأ التغيير الفوري؟ قطعا الجواب هو : لا .. جواب يفرض نفسه على مضض .. لأن إطالة عمر هذه الوقفة الإحتجاجية سوف يؤدي لا محالة إلى إستهلاكها سياسيا وعلى مدى الأشهر القادمة .. وإلى حين حلول موعد الإنتخابات الرئاسية المصرية , لينهي مبارك (عهدته الرئاسية) وتتمكن القوى الغربية من حسم خيارها حول رجل المرحلة المقبلة والذي لن يخرج بمصر عما اعتمدته من سياسات في مراحلها السابقة. وإنني على يقين أن نجاح عمر سليمان في إستمالة الإخوان المسلمين للحوار ( رغم ترددهم ) شكل ضربة قاسية للنسيج الشعبي المكون لهذه الثورة .. وقد يتساءل البعض عن المعنى التكتيكي لقبول الإخوان بهذا الخيار. الجواب يكمن في كونهم الأكثر إستفادة من النتائج الفورية لما حدث .. فالحركة الإخوانية المحظورة لربما تعطى غطاء الشرعية وهي كذلك - بهذه الخطوة-تريد إثبات قدرتها على التعاطي السياسي البعيد عن العنف وأخيرا فهي بخطوتها توجه رسائل إلى الغرب مفادها أن الإخوان قادرون على التكيف مع المرحلة وتكذيب التخوف الغربي من نواياهم في المستقبل. وما تردد من كلام عن تحول مصر غلى دولة دينية. أما النظام المصري فلا مكسب لديه سوى إدخال البلاد في دوامة من الإحتقان السياسي وإغراق الساحة بتعقيدات الحوارات السياسية وكسب المزيد من الوقت لترتيب خروجه وتصفية حساباته وتحويل ما يحدث في ميدان الحرية إلى بورتريه لمصر الديموقراطية والبلد الذي يضمن للشعب حقه في التظاهر والإحتجاج بل وحتى المطالبة برحيل الرئيس. ولن نستغرب إذا ما شاهدناه يحاسب المسؤولين على أعمال العنف والقتل مرورا بمتابعة رموز الفساد ( ولو صوريا ) ليفرغ بذلك ملف المحتجين من كل محتواه وتأثيره في الشارع المصري. فمع توالي ( إفتراضا) المتابعات والإصلاحات لربما يجرؤ هذا النظام على الإدعاء بأنه الأقدر على ضمان مصالح شعبه وضمان مصالح حلفاءه في مصر والشرق الوسط عموما. والنتيجة صوت الإحتجاج سوف يخبو.. أمام توالي الأيام وتزايد معاناة المحتجين وعدم قدرتهم على تحمل التكاليف المادية لهذه الوقفة التي قد تنهكهم ماديا ومعنويا.. فيكون الملل .. آخر المطاف. من المؤكد ان البعض سيقول : ماذا لو نجح المحتجون في تأطير أنفسهم سياسيا ؟ وماذا لو تمكن احد المعارضين البارزين من كسب تعاطفهم ؟ وماذا لو إستمالهم حزب من الأحزاب ؟ هنا سيكون الجواب هو : نعم ربما يتغير المشهد, لكن ذلك لن يحدث في أقل من سنة أو أكثر الأمر الذي يعيدنا إلى المربع الذي إنطلقنا منه وهو أن مبارك لن يسقط سقوط بنعلي في تونس. تواطؤ المؤسسة العسكرية مع مشروع النظام لقد نجحت المؤسسة العسكرية ومنذ اليوم الأول لإنطلاق شرارة الإحتجاج في مصر من كسب ثقة الشارع المصري بل وكانت ملاذا له ضد بطش(البلطجية) بل إن الكثيرين وأنا منهم راهنوا في حساباتهم أن يتخلى الجيش في لحظة من اللحظات عن حسني مبارك ليتولى قيادة البلاد في المرحلة الإنتقالية. لكن هذا الأمر لم يحدث.. وقد إشترطنا حصوله بضرورة وجود تفاهم أو ضوء أخضر غربي وإلا فإنه سيصور على كونه إنقلابا عسكريا ولن يحظى بالمشروعية الدولية.. ولعل العامل الحاسم في هذا الصدد هو إستباق مبارك للأحداث وتعيينه لعمر سليمان ( العسكري ) كنائب له , الأمر الذي وضع مؤسسة الجيش المعول عليها شعبيا في مازق بين مهادنة الرئيس إلى حين رحيله رحيلا طبيعيا. أو الإنضمام للمحتجين والدخول في صراع مع قوات الأمن التي تفوقه عددا وإستخباراتيا في أساليب القمع والبطش الأمر الذي قد يدخل مصر في دوامة لا نهاية لها من الصراع المسلح. كل هذا دونما نسيان العامل الإقليمي والأجنبي الذي قد يتجاوز حدود الكلام إلى محاولة الإنخراط عمليا في تغليب هذه الكفة أو تلك. كل ما سبق سرده من عوامل تعود لتؤكد رؤيتنا الأولى وهي أن حسني مبارك كان ولا يزال يملك أوراقا كثيرة وأن قدرته على التعايش مع الإنتفاضة الشعبية كبيرة ومتنوعة في أساليبها, وانه ورغم فقدانه للشرعية الشعبية لم يفقد دعم حلفاءه وبالتالي فإن خروجه ما زال مشكوك في حدوثه ما لم تتحقق العوامل التي ذكرتها في مقالي السابق وهي : - دعم القوى العظمى للمحتجين ( الولاياتالمتحدة على الخصوص ) - إنتفاض الجيش على حسني مبارك لكنني وأنا اسطر هذين الشرطين المحوريين لا أملك التأكيد على عدم حدوث المفاجئة , كأن تتسع رقعة الإحتجاجات مثلا لتشمل كل المدن والمحافظات, ومعها الإنفلات الأمني ليجد العسكر أنفسهم أما خيار واحد لا بديل له وهو إسقاط مبارك مع ضمان إستمرار تعهداتهم بكل (إلتزامات) مصر الدولية وعلى رأسها ؛ السلام مع إسرائيل وضمان المرور الآمن لحاملات النفط عبر قناة السويس بما لن يترك للغرب أية شكوك حول حفاظه مصالحه الحيوية في المنطقة.. ولعل حدوث ذلك مطروح رغم شكي في وقوعه فورا. لمراسلة الكاتب عبر موقعه في الفايسبوك http://www.facebook.com/profile.php?id=611009366