كشفت نتائج انتخابات رؤساء الجهات مفارقة عجيبة، إذ ظفر حزب الأصالة والمعاصرة برئاسة خمس جهات من مجموع 12 جهة، رغم أنه حصل في الانتخابات الجهوية على 132 مقعدا فقط من 678 بنسبة 19,47 في المائة محتلا بذلك المرتبة الثانية بعدد أصوات بلغ 1318700 صوتا، بينما لم يحصل حزب العدالة والتنمية إلا على رئاسة جهتين رغم أنه احتل المرتبة الأولى ب174 مقعدا بنسبة 25,66 في المائة وبعدد أصوات بلغ 1672000. هي نتيجة إذن تعكس تناقضا صارخا بين إرادة الناخب ومخرجات العملية الانتخابية. المفارقة الثانية، كشفتها نتائج الانتخابات الجماعية التي لم تمنح الحزب الأول من حيث عدد الأصوات إلا المرتبة الثالثة من حيث عدد المقاعد بفرق 1634 مقعدا؟؟!!. ونقصد حزب العدالة والتنمية الذي حصل على 1559814 صوتا أعطته5021 مقعدا بنسبة 15,94 في المائة، بينما حصل حزب الأصالة والمعاصرة، الذي احتل المرتبة الثانية من حيث عدد الأصوات المحصل عليها وهو 1333546 صوتا، على 6655 مقعدا بنسبة 21,12 في المائة، بوأته المرتبة الأولى.. وهو ما انعكس بشكل أكثر على انتخابات رؤساء الجماعات المحلية، حيث فاز حزب الأصالة والمعاصرة، إلى حدود يوم الخميس وبعد انتخاب رؤساء 1488 جماعة من أصل 1503، برئاسة 350 مجلس جماعي، أي بنسبة 23,52 في المائة، بينما لم يحظ حزب العدالة والتنمية إلا برئاسة 176 مجلس جماعي، أي بنسبة 11,83 في المائة. هي نتيجة أخرى تعكس تناقضا صارخا بين اتجاه التصويت ومخرجات العملية الانتخابية، وخاصة أثناء المقارنة بين الأصوات والمقاعد ورئاسة الجماعات. وتأكدت أكثر هذه المفارقة بعد انتخاب أعضاء مجالس العمالات والأقاليم، إذ حصل حزب العدالة والتنمية على المرتبة الثانية بعد فوزه ب 219 مقعد، أي بنسبة 16,04في المائة، بينما حاز حزب الأصالة والمعاصرة المرتبة الأولى ب 282 مقعد، أي بنسبة 20,66 في المائة. المفارقة الثالثة هي تباين ميولات الناخبين بين المدن والقرى، حيث تقدم حزب العدالة والتنمية، كما كان الشأن في الانتخابات الجماعية لسنة 2009، بشكل كبير على غيره من الأحزاب في المدن، بينما كانت الغلبة لحزب الأصالة والمعاصرة خارج المدن. ومع التسليم بأن عوامل متعددة تساهم في هذا التباين في مزاج الناخب وميوله وسلوكه الانتخابي، فإنه لا يمكن غض الطرف عن نمط الاقتراع باعتباره أكبر مساهم في هذا التباين، حيث يعتمد نمط الاقتراع الفردي في الجماعات التي يقل سكانها عن 35 ألف نسمة (1388 جماعة تقريبا) لأن التذرع بالخوف والفقر والمال لا يكفي لتفسير هذا التباين طالما أنها عوامل موجودة كذلك في أطراف المدن وأحزمة الفقر فيها والأحياء الهامشية ولكنها لم تؤثر على النتائج كما هو الحال في الأماكن التي يعمل فيها بنمط الاقتراع الفردي "الأحادي الاسمي". وتمثلت المفارقة الرابعة في تنصل العديد من المنتخبين من وعودهم التي ملأوا بها الفضاء العام في الحملة الانتخابية (برامج، وعود، خطوط حمراء، اتهامات،...) فتحالفوا مع الخصوم والأعداء في استهتار تام بإرادة الناخب وأخلاقيات العمل السياسي. فهل كانت بعض الأحزاب ستحصل على ما حصلت عليه من أصوات لو أعلنت قبل الاقتراع أنها قد تتحالف مع من بنت حملتها على الانتخابية على محاربته؟ لقد تواترت حالات التحالف بين العدالة والتنمية والأصالة والمعاصرة في تشكيل مكاتب مجالس رغم أنهما كانا يستبعدان هذه الإمكانية، بل تبادلا أقسى التهم. فهل في هذا احترام لإرادة الناخب؟ وهل هذا يعزز ثقة المواطن في الفاعل السياسي والعملية السياسية؟ والمفارقة الخامسة هي اقتصار تقسيم النسبة الكبرى من المقاعد، وهي 95,58 في المائة، بين ثمانية أحزاب من 29 حزبا شاركت في الانتخابات، وهو أمر تكرر في أكثر من مناسبة انتخابية، مما يؤكد الحالة المرضية للحياة الحزبية وفشل النظام الانتخابي في ترشيدها وعقلنتها. والمفارقة الصارخة تمثلت في عدم تلاؤم عدد المقاعد مع عدد السكان وكذلك غياب التوازن بين المجال الحضري والقروي، حيث التقطيع الترابي ينظم العالم القروي في 1282 جماعة رغم أن عدد السكان لا يتجاوز 13 مليون نسمة بينما ينظم العالم الحضري، الذي يتجاوز سكانه 20 مليون نسمة، في 221 جماعة فقط. ومن جهة ثانية، وحسب وزارة الداخلية، فإن 45 في المائة يقطنون بالمجال القروي بينما يتمركز 55 في المائة في المجال الحضري، ومع ذلك خصص للمجال القروي 24000 مقعد، مقابل 6700 مقعدا فقط للمجال الحضري، ويتطلب الفوز بمقعد في المجال الحضري مجهودا مضاعفا مرات عن المجهود وعدد الأصوات المطلوبين للفوز بمقعد في العالم القروي. تعكس كل المفارقات السابقة أعطابا سياسية لم يساهم نمط الاقتراع في معالجتها، بل ربما ساهمت في تفاقمها. ولذلك يغيب في المغرب التلازم المفروض بين منسوب الدمقرطة والعملية الانتخابية التي تعتبر أم مؤشر لها. لقد عمل المغرب بنمط الاقتراع الفردي منذ الستينيات، فأسفر تطبيقه عن انتشار الرشاوي الانتخابية والعزوف الانتخابي وسيطرة الأعيان وشخصنة الانتخاب وصناعة الخرائط الانتخابية وتشويه الحياة الحزبية، فتم تغييره، في عهد حكومة عبد الرحمن اليوسفي، إلى نمط اقتراع لائحي بالتمثيل النسبي على قاعدة أكبر بقية ودون استعمال مزج الأصوات والتصويت التفاضلي، سواء في الانتخابات المباشرة وغير المباشرة، ماعدا الاستثناء الذي نصت عليه المادة 200 من مدونة الانتخابات الصادرة بمقتضى ظهير 30 دجنبر 2008 والتي جعلت الاقتراع بالأغلبية النسبية في دورة واحدة بالنسبة لانتخاب أعضاء مجالس الجماعات التي يقل عدد سكانها عن 35.000 نسمة، على أن لا يشارك في توزيع المقاعد إلا اللوائح التي حصلت على 6 في المائة من الأصوات المعبر عنها بعد أن كانت العتبة فقط 3 في المائة خلال انتخابات 2002. اليوم، وبعد أزيد من عقد من التجربة، يلاحظ أن تغيير نمط الاقتراع لم يحقق عقلنة التصويت والقطع مع التحكم والانتقال من التصويت على أشخاص إلى تصويت على أساس برامج وأحزاب ولوائح، مما يؤكد أن هذه الأعطاب غير مرتبطة فقط بنمط الاقتراع بقدر ما هي مرتبطة بطبيعة السلطة الحاكمة وصرامة الجهة المشرفة وفعالية القوانين المنظمة وطبيعة الثقافة السياسية السائدة في المجتمع من جهة، ويؤكد، من جهة ثانية، أن حكومة اليوسفي وقعت في خطأ استراتيجي كانت أحزابها أول متضرر منه، وإطلالة على نتائج الاتحاد الاشتراكي منذ ذلك الوقت تبين تراجع ترتيبه وحصيلته. وطبعا هذا عامل فقط يضاف إلى عوامل كثيرة أدت إلى هذه النتيجة، منها تأثر الحزب بالانشقاقات التي عرفها. لا يمكن إلقاء اللائمة كلها على نمط الاقتراع لأن أول ما يتعلمه الباحث في النظم الانتخابية هو عدم تفاضل أنماط الاقتراع في ذاتها لأنها كلها صالحة إذا وقع تلاؤم بين نمط الاقتراع والبيئة السياسية التي يطبق فيها، ورافق ذلك إجراءات تنزيل فعالة. ولذلك، هناك دول ديمقراطية تستعمل نمط الاقتراع الفردي وأخرى تستعمل نمط الاقتراع اللائحي. كما أن ما يتعلمه الباحث المبتدئ في النظم الانتخابية هو أن أنماط الاقتراع ليست محايدة ولكن تحكم كل نمط خلفيات سياسية وإن كانت كلها تهدف إلى التوفيق بين هدف تمثيلي لكل التيارات، أقلية وأغلبية، وهدف العدالة والفعالية وتكافؤ الفرص والتنافسية. وبهذا فاختيار نمط الاقتراع ليس عملية تقنية فقط بقدر ما هو اختيار سياسي بالأساس. عجز نظام الاقتراع الفردي، وكذلك اللائحي، في تخليق الحياة العامة وعقلنة المشهد الحزبي وفرز مؤسسات قوية ومتماسكة وجذب مشاركة شعبية واسعة لأنه أفرغ من محتواه، ولم ترافقه إجراءات قانونية وإدارية وسياسية مساعدة. وسبب ذلك غياب الإرادة السياسية. لم ينتقل المغرب بعد لتفعيل مقتضيات الاقتراع اللائحي لأنه عمليا ما زال في ظل نظام اقتراع فردي مقنع باللائحة لأن تنافس عشرات الأحزاب في دائرة صغيرة على مقاعد قليلة يعطل كل فوائد هذا النمط، ويجعله أقرب للاقتراع الفردي حيث التركيز على وكيل اللائحة فقط. وغيب المشرعُ القضاءَ على البلقنة الحزبية حين عمل بنظام الاقتراع باللائحة على قاعدة "أكبر البقايا"، وهو نمط معروف بتشتيته للخريطة الانتخابية ولا يساهم في فرز مشهد حزبي معقلن ومؤسسات قوية ويترك تشكيل المجالس للتحالفات لتطغى عليها الأغلبيات الائتلافية، ومن يعتمده يكون هدفه بالأساس تمكين الأحزاب الصغرى من نصيب من المقاعد. وكان الأولى، على الأقل، رفع العتبة إلى 10 في المائة، بدل 6 في المائة، لاقتسام المقاعد، وتوسيع النطاق الجغرافي للدائرة الانتخابية. ولم تساهم الأحزاب، أخلاقيا على الأقل، من جهتها في تحقيق تقاطب حقيقي حين لا تنص وجوبا على تحالفاتها المحتملة قبل الاقتراع ليكون الناخب على بينة من أمره قبل ظهور النتائج وليتبين مدى التزام كل حزب بتعهداته ووعوده. في مختلف التجارب الانتخابية المقارنة، يساهم نمط الاقتراع في دمقرطة العملية السياسية وتخليقها، وهو الأمر الذي لم يتحقق، للأسف الشديد، في المغرب. يمكن، لتحقيق هذا الهدف، اعتماد نمط اقتراع فردي في دورتين لأنه الأكثر ملاءمة لواقع بلادنا، والأكثر قدرة على فرز أغلبيات وأقليات قوية. ويمكن مرافقة ذلك بالتنصيص على حق الحزب الحاصل على المرتبة الأولى، أغلبية نسبية، في تشكيل المجلس قياسا على الفصل47 من الدستور مع استدراك هام يربط هذا الحق بمدة معينة، فإن فشل الحزب الأول في تشكيل أغلبية يُفتح الباب أمام من باستطاعته ذلك. وهذا ما كان يجب التنصيص عليه كذلك في الفصل 47 من الدستورلأننا قد نجد أنفسنا مستقبلا أمام عجز رئيس الحكومة، المعين من الحزب الأول، عن تشكيل أغلبية حكومية مما يضطرنا إلى إعادة الانتخابات، وقد تتكرر المسألة أكثر من مرة طالما أن نظام الاقتراع لا يساعد على منح أي حزب أغلبية مطلقة، وهو ما سيجعلنا أمام نظام دستوري هش. وقد كانت هذه من الثغرات الرئيسية في دستور 2011. لكل ما سبق، لا يمكن إلا استغراب إبعاد نمط الاقتراع، ومعه مراجعة جذرية للوائح الانتخابية التي تنتمي إلى عهد البصري، من النقاش الحزبي البرلماني إبان الإعداد للانتخابات الجماعية والجهوية، وهو ما يعكس غياب إرادة الحكومة والأحزاب في تخليق الممارسة السياسية وعقلنة المشهد الحزبي واحترام إرادة الناخب وربط ممارسة السلطة بالخضوع للمحاسبة لأن كل حزب يبرر عدم وفائه بوعوده بأنه جزء من ائتلاف حكومي مسير. وإذا أضفنا إلى ذلك التأخر والارتباك في إصدار القوانين التنظيمية، التي لم تصدر إلا في 23 يوليوز 2015، أي على بعد شهر ونصف من الاقتراع نفهم سر العزوف والاضطراب الذي ساد وسط كل المعنيين بالعملية الانتخابية. *أستاذ باحث مدير المركز المغربي للأبحاث وتحليل السياسات