المواطنة عبارة نرددها باعتزاز أو بانتقاد، بحسرة أو بانتشاء، بين الفينة والأخرى، خصوصا في فترة الانتخابات او حينما يشارك المنتخب الوطني لكرة القدم في إحدى التظاهرات الدولية. ولكن، هل سبق وتساءلنا: ماهي المواطنة؟ أسئلة كثيرة تداخلت فجأة في تفكيري وتنافست فيما بينها لتحتل الصدارة حين أطرحها وكأن كل واحد منها يحمل الجواب بين طيَّاته وهو الأجدر بالذكر من غيره. فهل المواطنة مجرد علاقة تربط الفرد بالدولة وما يترتب عن ذلك من حقوق وواجبات أم هي شعور بالانتماء لوطن معين حتى وإن كنت تعيش بعيداً عنه؟ هل هي مفهوم متغير مرتبط بالهوية الاجتماعية وتفرعاتها الثقافية والاثنية والدينية، أم أنها لا تعدو كونها تعريفاً جامداً لانتماء جغرافي؟ هل جميعنا نفهم مواطنتنا بنفس الشكل وهل نعيشها على أرض الواقع كما نتخيلها؟ ... الحقيقة الجلية هنا هي أنني لا أجد جواباً بعينه ولم أكن أدرك فعلاً الهدف من السؤال حين طرحته. فكيف إذن لمصطلح واسع الانتشار كثير الاستعمال أن يحمل بين طياته هذا القدر من التعقيد والاختلاف في التعريف؟ إنه، في النهاية، هذا التساؤل هو ما دفعني للتأمل في الموضوع. إن استعمالنا لكلمة المواطنة بشكل بديهي دون البحث في أصول الكلمة ومعانيها هو نابع حالياً من تأثرنا بمناخ العولمة الذي ساق لنا مجموعة من المفاهيم الكونية حتى أصبحت جزءا لا يتجزأ من ثقافتنا وهويتنا الاجتماعية. فالكلمة ليست بالأصيلة في لسان العرب وإنما هي ترجمة للكلمة الإنجليزية "CITIZENSHIP"، وُجدت لتعوض مفاهيم قديمة حديثة في الثقافة العربية من قبيل "القبلية" و"القومية". والمواطنة كما تُعَرِّفُها دائرة المعارف البريطانية هي علاقة بين فرد ودولة كما يحددها قانون تلك الدولة، وبما تتضمنه تلك العلاقة من واجبات وحقوق في تلك الدولة. ولكن أين هو الشعور بالانتماء في مثل هذا التعريف القانوني الجامد؟! فلطالما ارتبطت المواطنة بمشاعر الانتماء للأرض التي نعيش فيها أو البلد الذي ولدنا فيه وإن كنا لا ندرك فعلا كيف يولد هذا الشعور ويتطور لدرجة يُقبِّل فيها البعض تراب البلد الذي فارقه فور نزوله من الطائرة ويتلذذ وهو يستنشق هواءه وكأنه يختلف عن كل بقاع الدنيا. إنه يتجلى إذن في الكيفية التي نمارس بها مواطنتنا كشكل من أشكال الهوية الاجتماعية وليس فقط مجرد ممارسة قانونية. فالمواطنة تتميز بنوع خاص من ولاء المواطن لوطنه والتعاون مع المواطنين الآخرين عن طريق العمل المؤسساتي والفردي الرسمي والتطوعي في تحقيق الأهداف التي يصبو لها الجميع. وكباقي أشكال الهوية الاجتماعية أصبحنا نؤسس للمواطنة في مجتمعاتنا من خلال التربية وهو ما صرنا نصطلح عليه اليوم ب"التربية على المواطنة". خلاصة القول، إنَّ المواطنة ليست مجرد فكرة بل هي ممارسة لعلاقة الفرد بالدولة وتجسيد لهويته الاجتماعية المرتبطة بالأرض والوطن. ولكي يتحقق ذلك يجب أن تكون الهوية الوطنية المبنية على روح المواطنة أسمى من باقي الهويات الفرعية الأخرى سواء كانت لغوية أو اثنية أو دينية. بهذا يصبح المواطنون، أبناءُ الوطن الواحد، إخواناً في المواطنة بالرغم من تنوعهم الثقافي وانتماءاتهم الفرعية المختلفة، يوحدهم هدف مشترك هو خدمة الوطن لأجل رقيه وازدهاره. فبفضل المواطنة يزول الاختلاف وتتأسس "الوحدة في التنوع". المواطنة، إذن، هي فعلا شعور بالانتماء للوطن وتعبير عن محبة الإنسان لوطنه ولكن في انسجامٍ وتناغمٍ مع القيم الإنسانية واحترامٍ لشعوب الأوطان الأخرى. أمَّا الوطنيّة المتطرِّفة، وهي شعور يَخْتَلِف عن ذلك الشعور المشروع المتَّزن، فلا بدّ أن يُستعاضَ عنها بولاءٍ أوْسَع، بمحبّة العالم الإنسانيّ ككلّ. ففكرة المواطنة العالمية جاءت كنتيجة مباشرة لتقلُّص العالم وتحوُّله إلى قرية يَتَجاوَر فيها الجميع، بفضل تقدُّم العلم واعتماد الأمم بعضها على بعض اعتماداً لا مجال لإنكاره. فالمحبّة الشّاملة لأهل العالم لا تَستثني محبّة الإنسان لوطنه وخير وسيلة لخدمة مصلحة الجزء في مجتمع عالميّ هي خدمة مصلحة المجموع. كم هو جميل أن نشاهد هذا التطور والارتقاء في المفاهيم التي طالما حددت علاقة الإنسان بأخيه الإنسان من القبلية إلى القومية، ومن الوطنية إلى المواطنة العالمية، في إشارة واضحة لوصول البشرية إلى مرحلة البلوغ. كل هذا يبشر بقدوم السلام العالمي ووحدة الجنس البشري كحاجة ملحة لا غنى عنها رغم المعارضة التي تلقاها من قوى الهدم التي أصبحت تنتمي إلى العالم القديم لامحالة. هكذا سنظل نسعى إلى السلام ما حيينا لأننا كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحُمَّى. وسيظل ارتباطنا بالأرض وتعلقنا بها مستمرا ولكن دونما تَعَصُّب أو إقصاء للآخر، فكلنا سواسية أمام الوطن وكلنا أبناء الإنسان.