هذه الجزيرة المحروسة التي هاموا بعقيانها ،ومحاسنها، هياماً،ثمّ سرعان ما خبت فيها وفى أركانها الضياء ،وجفّت المآقي،هذه الواسطة فى عقدٍ من جُمان مُرصّعةٍ فى جيد الزّمان،كيف وهنت قلادتُها ، وتناثرت حبّاتُها، وتحوّلت إلى عَبراتٍ حرّى تبكي العهدَ، والجدَّ والدّار..؟ هكذا كانت البداية ثمّ أفلت الشمس بدون شروق قريب ،وغاض النبعُ الرّقراق ،ولم يبق سوى بقايا وميضٍ خافتٍ تتلمّسه هنا وهناك،سرعان ما يتحوّل إلى بريق مشعّ قويّ نفّاذ، تراه فى هذه الأعين النُّجلُ ذات الملامح العربية، والأمازيغية،والموريسكيّة الدقيقة التي تحملك فى رمشةِ عين إلى أعماق الجزيرة الأولى أو إلى جنان الرُّصافة والجِسر،أو تتيه بك فى غياهب المسافات اللاّمرئيّة. فى العادات والتقاليد إنها هنا فى العادات والتقاليد الجميلة ، فى رعشات الأنامل وإنحناءاتها ، فى ضربات الأكفّ المتوالية التي تذكّرك بمرّاكس الحمراء ،وزحلة الأَرز،وحَماة القاهرة،إنها هنا فى هذه الأقراط الزاهية، الزاهرة، المتلألئة المدلاّة عبر جيدٍ ناصعٍ ،وذوائبَ فاحمةٍ .إنها هنا فى هذه الرّاح التي لا تلبث أن تتحوّل إلى روح حيّة مُحاورة..! الأندلس ... أيّ سرٍّ أنتِ كائن فينا وبيننا..؟ أيّ سحرٍ أنتِ تائه فى طيّات الألسن، ومخادع القلوب..سمّوها فردوساً ،ولكنّها ليست مفقودةً كما وُهموا،إنّها هنا حاضرة الكيان،قائمة الذات،إنها هنا بسِيَرِها وأسوارها،وبقاياها وآثارها،ونفائسِها وذخائرها، إنها هنا فى عاداتها وطبائعها، فى عوائدها وأهوائها،إنها هنا فى البريق المشعّ فى المدائن،والضّيع والوديان،فى اللغة والأدب والعلم، بل فى لهجة القروي النائي، والفلاّح المغمور،إنها هنا فى الكرَم،والجود المتوارثين، فى الحزازات القديمة التي ما تزال تفعل فى ذويها فعلَ العُجب . يتساءلون وقد علت جباهَهم علائمُ الشّدوه، وأمارات السُّؤْل ..كيف حدث..؟ كيف إستطاعت سنابك خيولهم المسوّمة بقيادة طارق الفاتح أن تطأ ثرى هذه الأرض البكر، وتقام أسس حضارة عريقة أشعّت على العالم المعروف فى ذلك الإبّان ،وأنارت دياجي الظلام فى أوربّا دهرئذ،إنهم يتساءلون : كيف تسنّى لهؤلاء القوم الغُبر الوشاح ،البداة الجفاة أن يضطلعوا بكلّ ذلك..؟كيف أمكن لهم أن يروّعوا كسرى فى إيوانه، وأن يجعلوا الرّومانَ يفرّون تحت وخزات الرّماح وثقل الصّفاح..؟إنهم ليسوا قوماً قساة ،جفاة، عتاة كما وُهموا، بل إنهم قوم فاتحون ،مبشّرون بحضارة ،وعلم،وعمران،وتاريخ. أيّها الجار النائي القريب.. إنهم يحنّون إليك، ويتغنّون بإسمك الآن،قَلَوْكَ زمناً ولكنهم سرعان ما فاقوا من نكرانهم فراحوا يشيّدون لك الأبنيةَ، والتماثيلَ، والمجسّمات المُخلِّدة ، ولكنّهم فى خَبل من أمرهم ،ذلك أنّ ربيعك دائم متجدّد لا تراه الأعينُ فى الحدائق والجِنان، أو على ضفاف الأنهار المنسكبة، بل إنه فى النغمات، والخُطى، والعيون والحواريات ،إنه ربيع لا يعقبه صيف قائظ، بل يتولّد منه ربيع تلو ربيع..! العيون المُزجّجة إنهم يتأوْرَبُون أحياناً أكثر من الأوربّيين أنفسهم ،وأحياناً أخرى تشطّ بهم الأحلامُ بعيداً ،ولكنهم أبداً ملتصقون بأرضهم ( البكر) ،وبتاريخهم ( الحافل) وعاداتهم (الدّخيلة) وتقاليدهم (العريقة)..! يضحكون عنك، وهم فيك، ومنك، وإليك ،يُنكرون طبائعَك وعوائدَك وهم الذائدون عنها ! هنا حطّ الشاعرُ رحلَه ليهجرَ الشّعرَ ولغوَه ،ويقرّر أن يبني له محراباً للصّلاة ففعل ،فكانت له جنّة الخلد فى هذه الحياة الدّنيا قبل الآخرة. إنها تعدّ عدّاً ،ثماني من الرّواسي الرّاسخات فى عمق التاريخ، تعلو فى عِنان الأفق معلنة للملأ أجمعين أنها هنا ..ما تزال قائمة ثابتة فى الصّور والمنقوشات،والعيون، والرّقصات، والعقل ، واللسان والجَنان. إنها هنا تسلبُ لبَّ العاشقين ،وتروي صَدَى الهائمين ،من دوحها إنطلق صوتُ حمامةٍ ذات مساء حزيناً باكياً شاكياً يعلّم المحبّين أصولَ الهوى والصّبابة ،إنهم لا يمقتونك بل إنهم معجبون ، إنهم يفرّون منك ولكنهم ينتهون إليك، الأندلس ..هذه الفاكهة المُحرّمة المُعلّقة فى شجرة ليس لها جذع قائم مَن يطولها عادت إليه الحياة فى ثوب قشيب جديد متجدّد..!...هذا النّهر الجارف مَن ْ يستطيع الغوصَ فيه أو الندوّ منه لآب إلى النبع الأوّل بعد أن طالت عليه المسافات ،وشحط به المزار..!.. هذه الأغرودة الحالمة الحلوة تنطلق عند الأصيل على ضفاف العيون فلا يملّ السّمع منها، ولا يتعب اللحظ ..هذه الأنثى الهائمة الحالمة المخصاب التي شقّ النسيمُ عليها يوماً جيبَ قميصها فانسابت من شطّيها تطلب ثأرَها ، وما أن تضاحكت ورقُ الحَمام بالأدواح الشاهقات هزءاً حتّى ضمّت إليها من الحَياء إزارَها..! كيف حدث ..؟! ولكن..قل لي بربّك أيّها الصّديق كيف أمكن لهم ذلك؟ كيف أمكن لهم أن يغيّروا وجهةَ التاريخ ؟ كيف إستطاعوا الإضطلاع بهذا الدّور الرّيادي ؟ لأنهم كانوا أصحابَ إرادة وإيمان، ومن توفّر فيه هذان الشرطان كان له دائماً ما أراد ،ولكنّهم أخفقوا فى النهاية ،إنّ الإخفاق من صفات البشر، وهذا ليس عيباً بقدر ما يكمن العيبُ فى ألاّ يعمل الإنسان شيئاً ، ولكنّهم بعدما كانوا مفخرة فى جبين التاريخ، وذرّة فى أعين الناس غدوا مهزلة أمام ناظريهم حتى أصبح أمرهم يثير الشفقة،كيف تجرؤ على قول مثل هذه الترّهات وهم بناة أعمدة ضخام مزركشة ،ورافعوا أقواس عظام منمّقة،ولكنّ البِلىَ قد أتى عليها كما يأتي على كلّ شئ،إنه شأن الحياة ، إننا إذا أخذنا بهذا المبدأ فلنترك كلّ شئ على عواهنه ونمضي،إنّهم قد عملوا جهدَهم، وبذلوا كلّ ما فى وُسعهم ليتركوا لنا شيئاً نتملّى بالنظر إليه والتأمّل فيه ،وإعمال النظر،والفكر، والعقل وكل الحواس ، أجل، ترى ماذا فعلتم أنتم بالمقابل اليوم ،إنكم لم تفعلوا شيئاً ، كيف لم نفعل شيئاً، وقد قمنا بترميم كلّ ما تركوه لنا ،ووضعنا حارساً على الباب ،والآخر فى الداخل يسهران على تلك الكنوز المتبقية،حسناً فعلتم، فتلك شيمة من شيم الأمم الراقية،وإنّ مَنْ يحافظ على ماضيه إنّما يبني مستقبله ،إنني أُصاب أحياناً بالشدوه، فيراودني نفس السّؤال الأبدي المؤلم ..كيف حدث؟بل كيف أمكن أن يحدث..؟! ألاَ كلّ شئٍ مَا خَلاَ اللهَ باطلُ كيف أمكن للدّهر أن يأتي على جنسٍ بأسره من على سطح الخريطة..؟ ولم يُبق سوى على أسماء بعض العوائل، والمدن، والقرى، والمداشر، والعشائر، والأنهار، والضيع، والأرباض، وجملة مصطلحات، ومسمّيات أصابتها العجمة واللكنة ،على كل حال إن الذي يقوم به علماء البيئة من أجل المحافظة على جنس بعض الحيوانات سواء البرية أو البرمائية،أو المستأنسة،او المتوحّشة شئ مفيد ويستحقّ التصنيف والتصفيق، ولكن كيف حدث إذن؟ أنا شخصيّاً لا أدري،ومن يدري؟ كفى هراءً، وقل لي كيف حدث، وإن لم يكن لديك الجواب فالقِ السؤالَ على سواك،وإن تعذّر عليك الجواب، فاطلب منه أن يجول به فى الأسواق العامّة أيام الجُمع والآحاد ويسأل الناس علناً عن ذلك،ومن كانت لديه الإجابة فليقدمها فى أقرب الآجال،إنني جادّ، ومتى لم أكن جادّاً معك،وإن خلتني أمزح فاطرد هذه الفكرة الخاطئة فوراً من رأسك،واعمل ما أنهيت به إليك ، واسأل القومَ عن سرّ ذلك اللمعان الغريب،وكيف إستطاعوا أن يمزجوه بالعطر، والكافور، وأن يصيّروا منه بخاراً رقيقاً أو رذاذاً منعشاً يتطاير بين الناس، ويحدث فى الأبدان القشعريرة، ويضفي عليها ذلك البريق العجيب الذي ما زالت آثاره باديةً ماثلةً للعيان حتى الآن،إسال القومَ عن سرّ تلك التعاريج المائية الملتوية المحيّرة التي أذهلت الأذهان ،والتي يشقّ ماؤها طريقه فى باطن الأرض بشكل يثير الإعجابَ، ويبعث على الحيرة،ثمّ تجُول فى القصور والبساتين وفى الأزقّة والدروب فتسقي الأشجارَ، وتورق الازهارَ، وتُحيي الأنفسَ، وتنعش القلوبَ، وتجعل الجوَّ ربيعاً فى قيظ الصّيف، وصيفاً فى عزّ الشتاء،وتؤتي من كلّ فنّ غرابة وعجباً !....ثمّ أما آن لك أن تكمل عجزَ بيت لبيد...آه أجل ...وكلُّ نعيمٍ لا محالةَ زائلُ..! مَنِ الباني..زَيْدٌ أمْ عَمْرو ؟! سواء كان الذي أمَرَ بذلك عمرو أو زيد فقد أحسنا صنعاً هما الإثنان معاً،ولكنني أفضّل عملَ عمرو، فقد كان أكثر َ ذكاءً وفطنةً ،وعلم مسبّقاً أنه قد يتدحرج من علٍ نحو أسفل السّفح،حيث المنحدر سحيق بعيد الغور،أمّا زيد فقد صعد إلى قمّة الهضبة، وفضّل أن يعتصم هناك ظانّاً منه أنّه بلغ الجوزاءَ علوّاً ،إلاّ أنّ التاريخ أثبت أنهما كانا مخطئين الإثنين معاً،فلا الذي كان فى أعلى الأكمة نجا من الطوفان، ولا الذي كان فى الأسفل إحتمى من الأتيّ المنهمر من الأعالي الشّاهقات،أجل إنك الآن قد أصبتَ عينَ الصواب، وكبدَ الحقيقة. ولماذا تتسرّع فى الأحكام ،فأنت تلقي اللومَ على الجميع، وهذا ليس صحيحاً، خاصّة وأنت تعلم أنّ الأمر كان يتعلق بالسّادة العارفين، وليس بسواد القوم .إنّني لا أتسرّع فى الأحكام كما وُهمت، بل إنّني أقول ما يعنّ لي صحيحاً وصواباً غيرَ خافييْن على أحد. إنّني أخشى أن يكون القارئ قد ملّ من هذا اللغط،فما أكثر ما يملّ القرّاء فى هذه الأيام، ولكن لا عليك، ثِقْ أنّ قارئنا لا يغشاه المللُ بسهولة ويُسْر، إنه قويّ الشكيمة ،عالي الهمّة، فلا تيأس وأعدك أنني سأطلب منه أن يستمرّ معنا حتّى النهاية،بل ولماذا لا نستعين بحكمته، ولباقته،ومعارفه، ولكن كيف يمكن ذلك ؟ الأمر هيّن ،توقّف قليلاً ريثما يسترجع قارئنا أنفاسَه ، ويزمّ شفتيه،ويدرس إقتراحنا ،دعه يسرح بفكره بعيداً ،وله أن يحكم بما يشاء،وبما يعنّ له، عندئذ سيجد نفسَه مشاركاً لا محالة. جنّة العَرِيف أم جنّة العِرفان؟! ولكن كم السّاعة الآن..؟لعلّنا تأخّرنا عن موعد الوصول إلى الجنّة ! أيّة جنّة تعني..؟جنّة العريف أم جنّة العرفان أم كليهما ..ألا ترانا واقفين على ضفافها ..الإختيار لا يهمّ ،المهمّ أنها جنّة وكفى..لا عليك لدينا فسحة من الزّمن، وما زال أمامنا متّسع من الوقت،لنسترسل فى الحديث كما نشاء،ولكن أليس من الخير أن نضع ضوابطَ لحديثنا..؟! على كلّ حال إنّ اللّوم لا يقع عليك، بقدر ما يقع على أهل العصر،فقد عَدَوْك بعد أن أصيبوا جميعاً بالإسهال اللفظي، أتعرف كم من منشورات، ومطبوعات،وصحف،ومجلاّت، وكتب،ومقالات، ودّراسات، وأطروحات ومؤلّفات،وتحاليل،وتعليقات،وحوارات، وتحقيقات أصبحت تملأ علينا حياتنا، وتغصّ بها رفوف مكتباتنا، وأرصفة مدننا،وجدران مواقع التواصل الإجتماعية المختلفة التي أمست من مميّزات وعلامات هذا العصر الذي نعيشه،وكم من إذاعة وتلفزة ومحطّة إرسال أو إلتقاط ،وكم من جهازٍ مشوافٍ، ومذياع، وأشرطة تعمل فى هذه اللحظة ،لا شكّ أنّ العدد كبير ،بل وهل تتخيّل بكم لغةٍ تعمل هذه المخترعات جميعها ..؟ الكلّ يصيح، ويحتجّ، ويلعن، ويغنّي ويتاوّه،أو يمزح، وكأنّي بالأسطورة القديمة إيّاها قد تحقّقت أمام الملأ أجمعين، فإذا بالقوم قد بلبل الله ألسنتهم، ألم يريدوا الصّعود إلى البرج الشّاهق..؟ إنّك ما زلت تتعلّق وتتشدّق بأهداب الخرافات والأساطير ، ألم تر كيف فعل أصحابُ المركبة الفضائيّة.. المتطوّرة والمُذهلة .؟ فبعد كولومبوس المغامر الذي شقّ عبابَ البحار، وذلّل الجبالَ المائية حتى إكتشف القارة البِكر ،ها هي ذي المركبات الفضائيّة تشقّ هي الأخرى هيادبَ الضباب ،وتخترق مُزْنَ السّحاب فى الفضاءات المرئية، واللاّمرئيّة لتكتشف فى آخر المطاف ضآلة الإنسان إزاء الكون،وعظمة الخالق وسعة ولا محدودية ملكوته..؟ ويحك أتسخر من العِلْم ؟ لقد إستطاعت تلك المركبات بالفعل الوصول إلى قمّة البرج ،وحوّمت حوله ،وإستطاع ربابنتها العودة إلى الأرض سالمين معافين، طليقي اللسان تماماً كما إنطلقا منها،أيّ هذرٍ، وأيّ هذيانٍ هذا الذي تروم،تخلط العلمَ والتاريخ،بالأسطورة، والأحلام، والخرافات، والأوهام؟ وهل هناك فرق بين هذه المعاني برمّتها، ألا يكمّل بعضها الآخر،ولكن تأنَّ فأنت تعلم أنّ العلم إن هو إلاّ إنعكاس وتجسيد لما سبق أن تخيّله أجدادُنا،وأسلافنا الأوّلين، فما الطيور الجارحة ،والغيلان المُرعبة والجنيّات المسحورة،والوحوش الضارية وغيرها سوى هذه المخترعات الغريبة من طائرات ،وغوّاصات، ومدرّعات، ومُصفّحات، وصواريخ، ومركبات مكوكية ،إنّ ما كان يبدو للنّاس بالأمس خرافةً، قد غدا اليوم حقائقَ علمية مدهشة، ألم يقل العلماءُ أننا بعد لأيٍّ من الأعوام قد نستطيع القيامَ بنزهةٍ فضائية ما بين زحل وعطارد، بل نستطيع الإصطياف فى الزُّهَرَة ،ونقضي وقتَ الظهيرة على سطح القمر.. ألستَ على وفاقٍ معي إذن..؟ أجل إنني متفق معك ،أما الوفاق فموطنه لبنان، وفلسطين ،والبلدان التي أورق،وأزهر فيها الربيع العربي ،وهيئة الأمم، وهلسنكي، والمؤتمرات التي تلته.إنه مصطلح خاص بالبلدان التي تخبّط فى القلاقل، وتشعر أنها على حافة أزمات ،أوتنوي الدّمار أو تخشى الدمار ،فهذا هو المجال الذي تستعمل فيه هذه الكلمة فى الغالب، على كل حال إنها كلمة تتمتّع بجاذبية خاصّة لدى البلدان التي تجيد اللعبة ،أمّا الإتفاق فهو من شأن البلدان التي ما تزال فى طريق تعلّم اللعبة ! الصّدق مفتاح القلوب ألا تظنّ أنّ القلمَ قد جنح بنا قليلاً، فمزجنا شعبانَ برمضان كما يُقال فى الأمثال،أو ربما إنما كنّا ننقل ما يختلج فى صدورنا ،وما يطفو على هامش مشاعرنا كما يقول الاطبّاء النفسانيون ،إذ أنت تعلم أننا إذا لم نكن صادقين فإنّ القارئ سيعود لملله،وسيفطن سريعاً لإدّعاءاتنا ،وينصرف عنّا ،الصّدق إذن هو مفتاح قلب هذا القارئ الذي يريد أن يستحوذ عليه جميع الكتّاب فى كلّ عصر،مسكين إذن هذا القارئ ..خاصّة القارئ الصّبور الدّؤوب، الذي يسهر الليالي طلباً للمعالي فى التحصيل ،والإطّلاع،ولم يفكّر أحد بعد فيما يعانيه هو الآخر، أليست القراءة الجيّدة نوعاً من المعاناة كذلك ؟، ثمّ إنك تعلم أنّ القراءة، والتحصيل كنز، وفضيلة، وإستفادة، وغذاء للعقل والرّوح معاً،ولماذا لا تقول للبطن أيضاً ! أليس هناك قرّاء - رغم أنوفهم- يتلقّون أجوراً نظير قراءاتهم ،أنت تعرفهم ،وأنا، وقارئ هذه السّطور كذلك ،ألم أقل لك أنّ القراءة تحصيل أيّ يحصل الإنسان من جرّائها على علم ومال، وإلاّ فلماذا عندما وضع أجدادنا النحاة قواعدَ الأسماء الخمسة المعروفة ختموها بذي مال ! . والختام دائماً مسك كما تعلم ،أرأيتَ كيف أنّهم لم يقولوا ذا علمٍ أو فطنةٍ بل ( ذو مال) نعم مال أفهمت..؟! أرأيتَ ما أصغرَ حجم هذا الجهاز الذي ينطلق منه ذلك الصّوت اللّعين وما أدقّ ذبذباته ، إن موجاته تغرقنا فى بحورها، وتنهمر علينا إنهماراً ، إنّه لا يتوقّف برهةً ليلاً أونهاراً، ليس فى الأمر أيّ عُجب فتلك علامة من علائم العصر، فدعه يصرخ كما يشاء فإنّ الضوضاءَ، والصّخبَ، والدّأب، واللجبَ، والهرجَ والمرجَ أمور إعتادت عليها آذاننا ،وألفتها طبائعنا، فلا تعجب كذلك إن طالت خُطب هذا الهذر . صاح.. لقد غاضَ النّبعُ الرّقراق، ولم يبق سوى هذا الوميض الخافت الذي تتلمّسهه هنا وهنالك ،وتراه فى هذه الأعين النُّجْل ذاتِ الملامحٍ العربية والأمازيغيية العريقة التي تحملك فى رمشةِ عينٍ إلى أعماق الجزيرة الأولى،أو إلى مرّاكش الحمراء أو إلى جنّات الرّصافة والجِسْر.. صدقتَ أيّها الشّاعر المكلوم ،وصدقَ حبُّك للأرض الفردوس ،وللمرأة الولود المِخصاب، كيف لا وحولك ماءٌ، وظلٌّ، وأنهارٌ، وأشجارُ.!. * عضو الأكاديميّة الإسبانيّة – الأمريكيّة للآداب والعلوم - بوغوطا- ( كولومبيا).