على الرغم من غياب الشروط العلمية والموضوعية ( المتوفرة لدى الغرب) لنعت بعض الباحثين المغاربة بصفة الخبراء في مجال الفكر والثقافة، فإن مصطلح "خبير" شاع في المدة الأخيرة، فأطلق على بعض المشتغلين في كثير من المجالات كمجال التربية والتعليم، و البيئة والاقتصاد... ومعلوم أن مفهوم "خبير" صناعة أمريكية لا يحيل إلى أفراد بقدر ما يحيل إلى مؤسسات مستقلة ( نواد فكرية) قد تضم إلى جانب رؤساء مقاولات ورجال أعمال "مثقفين" جامعيين،هدفهم جميعا "التفكير" في نقط بعينها من أجل هدف محدد مرسوم. أي أن الخبير ملزم بأهداف مؤسسة معينة وينتج أفكارا تحت الطلب وقد يختفي لمدة من الزمن إلى أن يتم استدعاؤه مرة أخرى، وقد لا يعلن عن نفسه إلا داخل المؤسسة التي يشتغل لصالحها. وأمام تراجع دور المثقف الملتزم في وطننا العربي تهافت بعض الباحثين المغاربة مؤخرا على هذه التسمية لإضفاء هالة على أنفسهم، وكسب امتيازات معنوية ومادية كما حصل لبعض الذين اشتغلوا مع خبراء أجانب قدموا إلى بلادنا لحل مشاكل منظومتنا التربوية. أما المثقف فتحركه فيما يكتب وينشر دوافع أخلاقية و نضالية ، فهو يسعى دوما إلى الدفاع عن قيم إنسانية، ولذلك لم يعد مرحبا في الآونة الأخيرة بالمثقف "الأداتي" الذي ينحصر تفكيره في اختصاصه الدقيق دون أي اهتمام بالقضايا الإنسانية الكبرى، بل إن هناك من المفكرين الغربيين ( آلان تورين) من ذهب أبعد من ذلك حين وصف هذا النوع من المثقفين "الأداتيين" بالعدمية والاغتراب عن مجتمعاتهم، فهم سواء كانوا أطباء أو أساتذة جامعيين أو حقوقيين بارزين مثقفون "أداتيون" مادام تفكيرهم مهنيا لا يتعدى حدود مكاتب شغلهم.( انظر العدد 4 المجلد 43 من مجلة عالم المعرفة 2015). ذلك ما يفصله بوضوح تام المفكر الفرنسي المذكور آلان تورين Alain Touraine في كتبه الثلاثة: "براديجم جديد لفهم عالم اليوم" و "ما الديموقراطية؟" و "نقد الحداثة"، حيث يؤكد على دور الثقافة وليس الاقتصاد في إعادة بناء الحداثة وما بعد الحداثة. وما يميز طرح هذا المفكر أنه يتجاوز طروحات مفكرين غربيين آخرين اكتفوا بتشخيص مشكلات عصرنا بروح تشاؤمية ترى أن الثقافات الإنسانية اليوم ستدخل لا محالة في صراع دام وأن العدائية والقلق وعدم الثقة هي الأشكال التي ستحكم العلاقة بين الحضارات، لقد اختار "تورين" اتجاها آخر تواصليا يعتقد أن الثقافات لا بد أن تتعايش وأن ثقافة التسامح والتفاهم هي التي ستسود العالم. ولا يعني هذا أنه يميل إلى نزعة طوباوية مثالية بل إنه على عكس ذلك متشكك في المثاليات لأنها في اعتقاده ضد الحقوق والحريات الفردية التي تم طمسها في مجتمع الحداثة باسم الديموقراطية والدولة والمجتمع. لا يعترض "تورين" على استمرارية المجتمع باعتباره كيانا أساسيا لكن المهم أن يقوم الفرد بتوجيه المجتمع وليس العكس، وأن تكون حقوق الفرد وهمومه في أعلى سلم اهتمامات المجتمع الأمر الذي يجعل الحقوق أهم من الواجبات. وبالرغم من أهمية الدراسات التقليدية التي اختزلت الثقافة في المجال الاقتصادي والاجتماعي والفلسفي التاملي فإنها في نظره لم تعد قادرة على تحليل وفهم إشكاليات عصر ما بعد الحداثة حيث تنامت قوى جديدة للهيمنة تتمثل في المؤسسات الرأسمالية العابرة للقارات التي تمتلك وسائل إعلام جبارة تتحكم في توجهات وأذواق الناس، وتغول الدولة الحديثة ومؤسساتها والحد من حرية المواطن والاجهاز على حقوقه باسم أولوية الواجبات، فضلا عن معاناة الإنسان من الاغتراب والاستلاب والاستعباد... هكذا انتهى" مشيل فوكو" في حفرياته إلى كشف سلطة المعرفة، وعلاقة الجنون بالسياسة، و قام "إريك فروم" بتحليل الأبعاد النفسية للعنف الذي اجتاح عالمنا المعاصر، وشرح "يورجن هابرماس" الجوانب الايديولوجية للتكنولوجيا وكيف تحول العلم من وسيلة لسيطرة الإنسان على الطبيعة إلى أداة لسيطرة الإنسان على الإنسان، ووقف "هربرت ماركيوز" عند ظاهرة تشيؤ الإنسان وتحوله إلى كائن خشبي ذي بعد واحد، و قام "جاك ديريدا" بتفكيك كل شيء: اللغة والكتابة والاختلاف والذات والناريخ ... و بيّن "بيير بورديو" مخاطر الليبرالية الجديدة، و اتهم "إدجار موران"أوربا بالبربرية وحذر من العنف الذي يهدد مستقبل العالم، و فضح "إدوارد سعيد" الوجه الخفي للغرب الذي لا يريد سوى الهيمنة على الشرق، وأعلن "فرانسيس فوكوياما" نهاية التاريخ ثم نهاية الإنسان على يد البيوتكنولوجية أي الاستخدامات التقنية الحيوية من هندسة وراثية، واستنساخ، وتلاعب العلماء بأعضاء الإنسان، وأعلن "صامويل هنتنجنتون" عن بداية صدام الحضارات ... هذا هو السياق الثقافي لتيار النقد الثقافي الجديد الذي انطلق في بدايات القرن الحادي والعشرين سعيا إلى تأسيس رؤية جديدة لمجتمع ما بعد الحداثة،رؤية قوامها ربط معظم مشكلات العالم وصراعاته الحضارية بعوامل ثقافية وليس بمقولات اقتصادية ،لأن الإنسان كما اتضح لهؤلاء المفكرين المذكورين كائن ثقافي بالدرجة الأولى وليس كائنا اقتصاديا، ولأن الحقوق الثقافية أهم بكثير من الحقوق الاقتصادية. ولم يكتف هذا التيار الفكري الجديد بطرد المقولات الاقتصادية بحكم عجزها عن تفسير مشكلات عصر ما بعد الحداثة، بل طرد أيضا " المجتمع" لصالح الفرد، بعدما تبين له أن النزعة الاجتماعية المفرطة والتحليل الاجتماعي الذي يعطي الأولوية للمجتمع ومؤسساته ساهمت في تهميش الفرد وتشييئه وتحويله إلى مجرد سلعة تباع وتشترى في عصر العولمة المتوحشة، كما أن تمادي الدولة الحديثة في التضييق على الحريات الفردية بدعوى المصلحة العامة دفع هذا التيار إلى المطالبة بوضع قيود على صلاحياتها التي تستخدم في بعض الأحايين للنيل من حقوق المواطنين الأمر الذي دفع أحدهم إلى القول بسخرية: إن انتهاكات الحقوق والسطو على ممتلكات المواطنين باسم الضرائب يتم على يد الحكومات بدرجة أكبر من تلك التي تتم على يد المجرمين.( راسموسين دوجلاس. الحقوق الفردية. ترجمة صلاح عبد الحق. رياض للكتب والنشر.لندن.2008.) إن ما يهمنا في هذا المقال هو وضعية المثقف العربي الذي تراجع دوره "النضالي" في الوقت الذي نلاحظ استغراق مفكري النقد الثقافي الغربي الجدبد في هموم البشرية ومشكلاتها السياسية والاجتماعية والثقافية والاقتصادية إلى درجة "الالتزام" و النضال في الشارع والمهرجانات والتلفزيونات والصحف والمواقع الالكترونية أكثر من انصرافهم إلى كتبهم وجامعاتهم، وذلك ما نجده بشكل لافت لدى عدد من أساتذة الجامعات الفرنسية ( إدجار موران ) الذين أخرجوا التخصصات الأكاديمية إلى ساحة الرأي العام، ودفعوا جميع الفئات إلى المشاركة في قضايا ثقافية وفكرية انطلاقا من تصور مبدئي يرى أن المثقف إذا لم يكن مناضلا وملتزما فإن مشكلات كبرى تنتظر البشرية. يقترح آلان تورين تصورات جديدة لمواجهة مشكلات عصر الحداثة وما بعد الحداثة وبخاصة ما يرتبط بالدولة والمجتمع ومؤسساته، ويدعو إلى إعادة الاعتبار للفرد.فالدولة الحديثة في تصوره تحولت إلى أداة بيد أسياد المال والإعلام يبطشون من خلالها بحرية الفرد وحقوقه حتى وصل الأمر ببعض الدول القومية في القرن العشرين إلى حد ممارسة التطهير العرقي، فضلا عن سيادة مبدأ القوة وتراجع الضمير والأخلاق العامة. وعلى المستوى التعليمي تحولت المدرسة ( وهي من أهم مؤسسات المجتمع الحديث) من أداة لتعليم الناشئة العلوم والمعرفة، وترسيخ قيم الحرية والعقلانية إلى وسيلة لفرض الانضباط وحجب الاختلاف بحجة الحفاظ على النظام الاجتماعي الموحد و تحولت مناهجها إلى طريقة "لإخضاع الجميع لشكلي التفكير والحياة لضمان نجاح الإنتاج ومكافأة النخبة." ( آلان تورين. ما الديموقراطية؟ ترجمة كاسوحة.منشورات وزارة الثقافة. دمشق. 2000.ص 91). والغريب أن تورين يبدي تبرمه من النظام التعليمي العلماني نفسه في فرنسا لأنه يقوم بتغريب الطلاب عن المعتقدات الدينية السائدة في المجتمع الأمر الذي يؤدي إلى نشوء جيل مبتور دينيا ومغترب عن تراثة وتاريخه التقليدي. وهذا لا يدل على أن تورين يدعو إلى نشر القيم الدينية عبر المدرسة ولكنه يدعو إلى احترام ثقافة الأقليات ولن يتم ذلك في نظره إلا إذا تم فك الارتباط بين العقل والسلطة وإرساء تحالف مثمر بين العقل والحرية لأن مهام المدرسة اليوم التدريب على الحرية وتقوية الروح النقدية وتنمية وعي المرء بخصوصيته الشخصية، والتوفيق بين أشكال دينية وثقافية قديمة وبين مبادئ الحداثة الشاملة. وهذه استراتيجية مفيدة لإقناع فئات ثقافية واسعة بالدخول إلى عالم الحداثة. ولذلك يعتقد توران أن فرنسا قد أخطأت عندما قررت عام 2004 نزع حجاب الطالبات المسلمات بحجة حماية العلمانية، فالطالبات المسلمات في نظره لا يهددن قيم الحداثة ولا يشعرن بأي عدائية تجاهها،والمجتمع الفرنسي الحداثي تسع قيمه الجميع بمن فيهم الأقليات التي تود الحفاظ على ثقافتها وخصوصيتها .فقرار المنع يعبر عن "عجزنا عن أن نرى في الآخر ما لدينا من جمع بين الروح الحديثة والتمسك بالتقاليد." فطريق الحداثة ينبغي أن يجمع بين المركز والمحيط وبين التجديد والتقليد والحداثة والموروثات، وبدون هذه الطريق فإن البديل هو الحروب المقدسة أو التفكك المجتمعي الثقافي.( آلان تورين. براديجم جديد لفهم العالم.ترجمة جورج سليمان.مركز دراسات الوحدة العربية. بيروت. 2011.ص.270)