بتاريخ 4 شتنبر 2015، أنهى المغرب، بكل نجاح رهانه السياسي القانوني والدستوري بإقامة انتخابات جماعية وجهوية لإكمال مسلسل المؤسسات الديمقراطية للبلاد؛ لاسيما المؤسسة التشريعية التي ظلت تعمل منذ التصويت على دستور 2011 بمجلس منتخب وفق مقتضيات هذا الأخير في فصله 62؛ وذلك، بجانب مجلس منتخب طبقا لمقتضيات الفصل 38 من دستور 1996. لهذا، تعتبر انتخابات 4 شتنبر 2015، رهانا مؤسساتيا، يدفع بالمؤسسة البرلمانية إلى الاشتغال الفعال بعد اكتمال مجلسيها الذين ينص عليهما الفصل 60 من دستور 2011. لكن، وفي هذه الظروف السياسية المستقرة، سواء في ظل الحملات الانتخابية أو ما بعد الإعلان عن نتائج التصويت في هذه الاستحقاقات، أود شخصيا مساءلة نسبة المشاركة السياسية التي عبر عنها المواطنون لحظة توجههم لصناديق الاقتراع لاختيار الأنسب من بين مختلف مرشحي الأحزاب السياسية التاسعة والعشرين المشاركة في اقتراع 4 شتنبر 2015 المتعلق بانتخاب ممثلي المواطنين في الجماعات والجهات. فإذا كانت نسبة المشاركة وفق تصريحات وزير الداخلية المغربي، قد وصلت%53,67 ، فإن هذه النسبة، وفق العديد من الأحزاب السياسية وجمعيات المجتمع المدني وبعض الملاحظين الوطنيين والدوليين المشاركين في مراقبة سير العملية الانتخابية، فضلا عما أوردته العديد من القنوات الإعلامية وبعض المواقع الالكترونية المتتبعة للحدث وطنيا ودوليا، هي نسبة مرتفعة وجيدة؛ خصوصا إذا ما قارناها بنسبة المشاركة في آخر انتخابات جماعية بالمغرب والتي بلغت تقريبا 51 % سنة 2009 (حتى وإن تمت هذه الأخير ة في ظل الدستور المراجع لسنة 1996). إذا كانت نسبة المشاركة المسجلة بالفعل جد مرتفعة، فإن ذلك يعود إلى عدة أسباب ساهمت في توافد المواطنين على مقرات صناديق الاقتراع للمشاركة في اختيار مِن بين مختلف المرشحين من يستحق - في نظرهم - تقلد مناصب المسؤولية السياسية على مستوى الجماعة والجهة، حسب البرنامج الانتخابي والسياسي الذي يقترحه المترشح (إن كان غير منتم حزبيا) أو يقترحه حزبه (إن كان منتميا). من ذلك المنطلق، يمكن تقريب المتتبع للشأن السياسي العام المغربي، ولاسيما المتتبع للاستحقاقات الجماعية والجهوية ليوم 4 شتنبر 2015، من الدلالات السياسية التي تعبر عنها نسبة المشاركة السياسية المرتفعة، والتي وصلت %53,67. ويمكن إجمال بعض تلك الدلالات السياسية الرئيسية، في بعض النقط، كما يلي: أولا: بعد أزمة الثقة السياسية المعبر عنها في التصويت في الانتخابات التشريعية لسنة 2007 بنسبة 37%، ثم ارتفعت إلى نسبة 43% غداة تشريعيات 2011، والتي تعكس في مضمونها عزوفا عن الانتخابات خاصة والسياسة عامة، فإن المواطن المغربي يعود اليوم، في اقتراع 4 شتنبر 2015 ليعلن نوعا من المصالحة مع الانتخابات ومع السياسة، لكن بشروط عكستها النتائج المتحصل عليها من طرف كل حزب سياسي. فكانت جزاء بالنسبة للبعض، بينما كانت بالنسبة للبعض الآخر أشبه بعقاب سياسي ذي طابع انتخابي. وهذا الأمر له بدوره دلالة سياسية أساسية، تكمن في رغبة المواطن المغربي في إسماع صوته لمن كانوا ينعتونه بالكائن اللاسياسي؛ وأنه، بالتالي، يعرف اللحظة المناسبة لاتخاذ القرار المناسب وإعلان وجوده السياسي. لذلك، أسميه بالمواطن السياسي. ثانيا: يفيد ارتفاع نسبة المشاركة السياسية الانتخابية في التصويت ليوم اقتراع 4 شتنبر 2015 المتعلق بالجماعات والجهات بالمغرب، إصرار المواطنين على المشاركة في التعبير عن رأيهم وقرارهم وحاجتهم إلى الإصلاح وإحداث التغيير المفقود منذ مدة في الواقع السياسي الانتخابي المغربي؛ وما يدل على ذلك، أيضا، هو أن عددا من المواطنين قد توجهوا إلى صناديق الاقتراع لأداء واجبهم الوطني، لكن للأسف، لم يجدوا أنفسهم مسجلين باللوائح الانتخابية؛ وإن دل هذا على شيء، فإنما يدل على رغبتهم الملحة في المشاركة السياسية؛ وبالتالي، تأكيدهم لحس المواطنة والوطنية الذي يفترض عليهم أداء حقهم في التصويت لصالح الحزب الذي يستحق - في نظرهم - صوتهم الانتخابي والسياسي. ثالثا: إن محاولة تأكيد المواطنين على رغبتهم في التغيير، من خلال إسماع صوتهم وتأكيد وجودهم عبر اتخاذ قرار المشاركة في التصويت، يدل - هو الآخر - على امتلاك المواطن المغربي لوعي سياسي ومعرفة سياسية كافيين لمساعدته على اتخاذ الخيار الصائب. فالمواطن الذي يعزف عن التصويت في الانتخابات، ليس مواطنا عازفا عن السياسة، بل إنه يجد عدم الفائدة في التصويت لهذا الحزب أو لهذا المرشح ما دام الواقع لا يعكس ولا يستجيب في نظره لمختلف حاجياته ومتطلباته ورغباته. لذلك، فالمواطن يعرف لماذا يعزف عن المشاركة ولا يعزف عن متابعة ما يقع في الشأن السياسي المغربي. ولذلك، دلالته السياسية، حيث يتضح أن المواطن "ذكي" بما فيه الكفاية ليختار الوقت المناسب للتعبير عن كائنيته السياسية واتخاذ قرار المشاركة السياسية دون إخلال لا بالحق ولا بالواجب الذي يفرض عليه إعادة الأمور في الوقت المناسب إلى نصابها وإلى القادرين على تحمل المسؤولية مقابل المحاسبة دون خوف منها. فإذا كان اختيار العزوف سابقا، لم يفلح في الاستجابة لتطلعات المواطنين السياسية في الواقع السياسي المغربي، فإنه اليوم، يحاول تغيير استراتيجياته بكل وعي من خلال اتخاذ قرار عدم العزوف وبالتالي التعبير عن مشاركته أملا في تغيير الواقع السياسي وتحقيق ما يمكن تحقيقه من متطلبات المعيش اليومي لمختلف المواطنين المسؤولين عن قراراتهم السياسية المتخذة بشأن المشاركة في الاقتراع. رابعا: لا يجب أن نغفل، أيضا، الدور الذي لعبه الخطاب الملكي بمناسبة ثورة الملك والشعب، والذي دعا من خلاله الملك مختلف المواطنين إلى المشاركة في الانتخابات الجماعية والجهوية قصد قطع الطريق أمام المفسدين والمرتشين الذين يستغلون ثقة المواطنين فيما يخدم مصالحهم الشخصية فقط. يقول الملك في خطاب يوم 20 غشت: "إن التصويت حق وواجب وطني، وأمانة ثقيلة عليكم أداءها، فهو وسيلة بين أيديكم لتغيير طريقة التسيير اليومي لأموركم، أو لتكريس الوضع القائم، جيدا كان أو سيئا. وعليكم أن تعرفوا أن انتخاب رئيس الجهة وأعضاء مجلسها بالاقتراع المباشر، يعطيكم سلطة القرار في اختيار من يمثلكم. فعليكم أن تحكموا ضمائركم وأن تحسنوا الاختيار". ولذلك، دلالته السياسية الواضحة، حيث تعتبر الاستجابة للخطاب الملكي محاولة تأكيد أداء الواجب الوطني والتعبير عن المواطنة الصادقة. فالإحساس بالمسؤولية فيما يقع في الواقع السياسي لما بعد الانتخابات، يحث المواطنين على المساهمة في تفاديه ما أمكن، من خلال ممارسة حقهم في التصويت وعدم إغفاله كواجب سياسي وطني أيضا. وكما جاء أيضا في الخطاب الملكي، فالمشاركة المستفيضة، هي بدورها مساهمة واعية في إكمال المسار الديمقراطي لتشكيل المؤسسات السياسية الضرورية لتسيير الشؤون المحلية والوطنية للمواطنين المغاربة؛ وبالتالي، الدفاع عن الخيار الديمقراطي، الذي تُعد المشاركة السياسية في الانتخابات أحد ركائزه الأساسية من بين ركائز أخرى. خامسا: لا يجب أن نغفل دور مؤسسات الدولة المنوطة بها مهمة السهر على السير العادي والمنتظم للعملية الانتخابية؛ ونذكر، على وجه الخصوص، ما قامت به الدولة على مرحلتين: المرحلة الأولى، عندما سمحت بفتح فترة استدراكية لمن لم يسجلوا بعد أسماءهم في اللوائح الانتخابية، فزادت نسبة ما يقارب المليون مسجل في تلك الفترة لوحدها؛ أما المرحلة الثانية، فتمثلت في لزوم السلطة السياسية الحياد السياسي في تتبع العملية الانتخابية والحرص على إقامتها في أجواء شفافة وحرة ثم نزيهة. وهذه الإجراءات ساهمت بدورها في الرفع من نسبة المشاركة السياسية في اقتراع 4 شتنبر 2015. سادسا: تدل نسبة المشاركة المرتفعة، وهي توضح في الآن نفسه مدى رغبة المواطن المغربي في التغيير الحقيقي، على الرغبة في تجديد النخب السياسية التي تسير الشأن المحلي. بحيث، تقدم الانتخابات الترابية الجماعية والجهوية للمواطنين، تلك الفرصة التي لا يجب تضييعها كما ضاعت باقي الفرص من قبلها. وبالتالي، إمكانية إحداث التغيير المرتقب على مستوى تنمية الجماعات والأقاليم والعمالات ومختلف الجهات باعتبارها جماعات ترابية تدخل ضمن التصور الجديد للدستور المغربي لسنة 2011، والذي يحث على تطبيق فعال لنظام الجهوية الموسعة في إطار لا مركزية تخدم التنمية المحلية للمواطنين، شرط تقليد المناصب السياسية لمن يستحقون ويقدرون على تحملها بكل تفان ومسؤولية على المستوى الجماعي وكذا الجهوي. سابعا: إذا استحضرنا نسب المشاركة السياسية بالأقاليم الجنوبية بالصحراء المغربية، نجدها نسب جد مرتفعة بحيث تتراوح ما بين 60% و70%. ولذلك دلالاته السياسية، لاسيما فيما يتعلق بقضية الصحراء المغربية التي تعرف بين الفينة والأخرى جدلا سياسيا وميدانيا بين السلطة السياسية المغربية ومنازعي هذه الأخيرة حول سيادتها على تلك الأقاليم الصحراوية. ويمكن أن نذكر، من بين تلك الدلالات، رغبة المواطن المغربي الصحراوي، في الدفاع عن وطنية الأقاليم الصحراوية بما يخدم المصلحة العامة لجميع المغاربة. وعليه، فإن ارتفاع نسب المشاركة بهذه المناطق، يدل على دعم المواطنين الصحراويين لفكرة إقامة جهوية موسعة في أفق منح أقاليمهم حكما جهويا ذاتيا يمكنهم من تنظم وتسيير مختلف شؤونهم المحلية في استقلال عن السلطة المركزية، لكن في إطار الوحدة الوطنية المغربية. عموما، يمكن القول، بأن كل ما تم استعراضه أعلاه، يُعد من بين الدلالات السياسية التي توضح بعض الأسباب الكامنة وراء ارتفاع نسبة المشاركة السياسية الانتخابية في اقتراع يوم 4 شتنبر 2015 بالمغرب، باعتباره استحقاقا وطنيا ومحليا لإكمال المسلسل الإصلاحي الديمقراطي الذي أتى به دستور 2011؛ غير أن السؤال الذي يفرض نفسه، هو: إلى أي حد يمكن اعتبار تلك النسبة المرتفعة من المشاركة السياسية في اقتراع 4 شتنبر 2015، تعبيرا عن قناعات سياسية دائمة تتملكها هواجس المشاركة في التغيير نحو الأفضل بشكل مستمر وليست بقناعات سياسية مرحلية وموسمية فقط، يمكن أن تتبدل وتندحر في الاستحقاقات الانتخابية القادمة، ولاسيما مع الاستحقاقات التشريعية لسنة 2016؟ ذلك، هو الرهان المقبل أمام المواطن السياسي المغربي: ما بين تأكيد وجوده الواعي والمعرفي المرتبط بإلمامه الدائم بالشأن السياسي الوطني من جهة، والاستمرار في مراقبة تسيير الشأن السياسي المحلي، من خلال التعبير، بكل جرأة ومسؤولية، عن رأيه فيما يتعلق بالقرارات التي لا تصب في خدمة مصالح المواطن المحلي. ختاما، يمكن القول بأن اتخاذ قرار التصويت في اقتراع 4 شتنبر 2015، بهذه النسبة المرتفعة، هو في نفس الوقت، خطوة جريئة يخطوها المواطن السياسي المغربي في اتجاه ترسيخ مبدأ المشاركة السياسية كفعل وطني واع ومسؤول له من الرسائل السياسية الموجهة إلى المعنيين بالأمر، ما يخص كيفية تسيير الشأن السياسي العام المغربي مستقبلا، سواء على المستوى المحلي والجهوي أو على المستوى الوطني. * باحث متخصص في القانون الدستوري وعلم السياسة - كلية الحقوق بجامعة القاضي عياض بمراكش.