حققت أحزب العدالة والتنمية والأصالة المعاصرة نتائج كبيرة لها دلالات سياسية وسوسيوثقافية تعكس التقاطبات الدينامية التي تميز بهما الفعل الحزبي في المشهد السياسي بالمغرب في العشرية الأخيرة. فبعد الفوز بالانتخابات التشريعية، تمكن حزب المصباح مرة أخرى من تأكيد ذاته والتربع على رأس المجالس الجهوية بخمس جهات ( الرباط، والدارالبيضاء، وفاس، ومراكش، وطنجة، من أصل إثني عشرة جهة في المغرب أي (%25.6) من المقاعد، متبوعا بحزب البام غريمه السياسي الأول ب (%19.4)، وكذلك احتلال المرتبة الثالثة على مستوى الجماعات المحلية. وهي معطيات تبرز معالم التحولات والاتجاهات الجديدة في المشهد السياسي بالمغرب، والتي تطبعها عودة الأحزاب الكلاسيكية إلى الوراء، وفسح الطريق أمام الوافدين الجدد للاستمرار في التنافس على احتلال المواقع بعد تجاوز المغرب بذكاء لما سمي بالربيع العربي، وعلى بعد سنة واحدة من الانتخابات التشريعية 2016. لكن تقدم البيجيدي على مستوى الحواضر يقابله من جهة أخرى تقدم البام انطلاقا من البوادي، وهي تموقعات جيوسترتيجية لها دلالاتها السميائية تبرز بشكل واضح الاستراتيجيات المتبعة في كل حزب على حدى، والرامية إلى تأكيد الحضور الوازن لكل منهما كرسالة واضحة على الرغبة القوية في التحكم والهيمنة على المشهد السياسي بالمغرب والتمكين للمشروع الحزبي المتصادم مع الاختيارات الايديوليوجية لكل من الحزبين فيما يخص مواضيع حقوق الإنسان، حقوق المرأة، والحق في الإجهاض، والحق في الحرية الفردية، والإرث، والمناصفة، والشريعة الإسلامية والمواثيق الدولية، كأبرز معالم الصراع الذي يدور اليوم بين هذه الهيئات السياسية المتنافسة، والتي تروم الدفاع عن مصالح الطبقات الوسطى من خلال الاعتماد على الرأس المال البشري الذي تمثله هذه الفئات، والمتمركزة في المدن في حالة حزب المصباح، أما البام فلديه اختيارات أخرى متضادة تعتمد على موارده المالية والطبيعية التي يتحكم فيها الأعيان السمة البارزة في البوادي. انتخابات الرابع من شتنبر أكدت من جهة أخرى هول الصدمة والصفعة القوية التي تلقتها الأحزاب التقليدية الكبيرة كشريك في الانتقال الديمقراطي الذي أسس له الراحل الملك الحسن الثاني، والتي أشرت عليها نتائج الاقتراع بسقوط مدوي لكل من أحزاب اليسار وحزب الاستقلال الذي كان يعول عليه في قيادة قطب اليمين المحافظ بالمغرب. كما تميزت هذه المحطة الانتخابية بارتفاع في نسبة وعي المغاربة بأهمية المشاركة في العملية السياسية، والتصويت في المجالس الجماعية كخيار جديد ومفصلي يقطع مع الممارسات الماضية حيث هيمن المال الحرام، ويشير إلى المزيد من التقاطب نحو مشاريع مجتمعية واختيارات ثقافية، وذلك من خلال حشد المزيد من الدعم الجماهيري المحفز على التدافع السياسي في المحطة التشريعية المقبلة، خصوصا مع دخول وسائل إعلام قوية ومؤسساتية قادرة على صناعة الرأي وتوجيه الرأي العام والناخب نحو اختيارات معينة بطريقة سلسة. وأمام هذا الحراك السياسي المتدافع يبقى المستقبل غامضا يصعب فيه التكهن بمآل التدجربة المغربية إذا ما أخذنا يعين الاعتبار التحولات الإقليمية، ومدى استعداد صانعي القرار بقبول اللعبة الديمقراطية كيفما كشفت صناديق الاقتراع عن خرائطها، والقبول باستمرار التعايش دون الوقوع في استفزازات خصم عنيد يسر على المضي قدما نحو المزيد من الزحف واكتساح المؤسسات النافدة في الدولة. إن المتتبع للشأن السياسي في المغرب ليقف حائرا، ويتساءل إذا ما كانت هذه التطورات تشكل تهديدا لمستقبل المغرب أم هي مجرد مدخلات نحو عهد ثالث تكون فيه الديمقراطية وسيلة ناجعة لقبول التداول على السلطة في المغرب مع الحفاظ على صلاحيات الملك كحكم، وليس كطرف مشارك في العملية السياسية كما ظهر ذلك ضمنيا في خطاب العرش الأخير. هذا ما ستؤكده السنين القادمة بالنظر إلى طبيعة التحالفات الجارية على قدم وساق، وما ستسفر عنه تشكيل مكاتب المجالس الجماعية والجهوية في إفق الإعداد لتحالفات منطقية تروم فرز التقاطبات الحزبية إلى نوعين من التيارات، الأول ديمقراطي حداثي ليبرالي، والثاني ديمقراطي إسلامي محافظ، كل ذلك في انتظار النزال الأكبر في الانتخابات التشريعية القادمة.