لم يتأخر أثر العدوى التونسية ليصل إلى دول الجوار. وصدقت نبوءات المراقبين حين رشحوا وبقوة مصر للحاق بالنموذج التونسي. وانطلقت شرارة التغيير بأيام للغضب. سقط العديد من القتلى وانكسر حاجز الخوف رغم نزول الجيش إلى الشوارع بعد أن انسحبت قوات الأمن في خطوة لا تزال محفوفة بالغموض. وإذا كان من الصعب الحكم على طبيعة التطورات الجارية فإن المراقبين يتفقون على أن ما يقع في مصر هو نتيجة طبيعية لتفاعل العديد من العوامل السياسية و السوسيولوجية والاقتصادية والثقافية. ولم تكن أيام الغضب سوى تعبير عن وصول الاحتباس السياسي إلى أوجه. راكم النظام المصري على امتداد ثلاثين سنة من الحكم مجموعة من الخصائص أهمها غياب الحرية وسيادة الإكراه، كما زرعت المؤسسات الاستخباراتية والأمنية الشك محل الثقة، وانتشرت ثقافة الخنوع والاستسلام للأمر الواقع. وانتهجت الدولة منهجا سياسيا انبنى في أساسه على التفرقة التحكمية بين الناس على أساس الولاءات الحزبية والعشائرية والعائلية الضيقة. وبمقابل ذلك استغل النظام ورقة الإخوان المسلمين من أجل تهديد الداخل والخارج بخطورة المسار الديمقراطي الذي يمكن أن يوصل الإسلاميين إلى السلطة. وبالمقابل قدم نفسه كصمام أمان ضروري في المنطقة لوقف مد الإخوان المسلمين وحفظ التوازنات. نشأت عن هذه المعطيات تراكمات سياسية ضاعفت من حدة الاحتقان السياسي والاجتماعي. لقد صار هدف النظام منذ بداياته الأولى إقناع المصريين باستحالة تغييره. يقول بحث سوسيولوجي أجراه محمد عوض يوسف حول الثقافة السياسية لطلاب جامعة القاهرة" أدرك الأفراد في تعاملهم مع السلطة ما تتمتع به من قوة ونفوذ وعدم إمكانية معارضتها، ومن ثم أدي ذلك إلى تطبيع الأفراد علي قيم معينة مثل الطاعة والإذعان والخضوع للسلطة والتشكيك والخوف منها، والإيمان بعدم جدوى معارضتها" تصف هذه الفقرة بدقة كبيرة درجة السلبية السياسية التي وصل إليها قطاع واسع من الشعب المصري. وتكشفت هذه الحالة بوضوح بعد الانتخابات التشريعية الأخيرة التي عرفت أدنى مستويات المشاركة بنسبة لم تتجاوز حسب العديد من الخبراء 25 في المائة. لقد شكلت الانتخابات التشريعية الأخيرة منعطفا خطيرا في الحياة السياسية المصرية ضاعفت من حدة الإحباط الشعبي من إمكانية دمقرطة النظام السائد من الداخل. ويعود الإحباط بالأساس إلى أن الانتخابات مكنت الحزب الحاكم من تكريس هيمنته المطلقة على البرلمان وحصد ما نسبته 93 في المئة أي 475مقعدا. كما كشفت أيضا حجم الجشع السياسي للحزب الحاكم الذي استولى على البرلمان. وعرت في الوقت ذاته مستوى الشكلية الذي وصلته التعددية الحزبية، فكانت الانتخابات الأسوأ على صعيد التمثيل السياسي للمعارضة المصرية منذ بدأت التجربة التعددية. عقب هذه الانتخابات وما آلت إليه نتائجها تنبأ العديد من المراقبين بانفجار الوضع المصري.وهو ما تحقق فعلا بعد نزول الشباب المصري إلى الشوارع بعيدا عن كل وصاية حزبية أو تأطير تنظيمي. وبالرغم من محاولات حسني مبارك تهدئة الوضع من خلال إقالة الحكومة إلا أنه وأمام تحرك الشارع المصري لم يعد بالإمكان الوقوف في وجه رغبة المصريين العميقة في التغيير. إن ما يجعل النظام السياسي في مصر غير قادر على التقاط أنفاسه هو تصميم الشارع على رفع سقف المطالب وصولا إلى المناداة بتنحية مبارك. ولم تعد المطالب ذات طبيعة اجتماعية أو اقتصادية فحسب. كما أن ما أذهل النظام فعلا هو سقوط المرتكزات الأساسية التي بنى على أساسها استجلاب دعم الغرب . فالإخوان المسلمين الذين طالما رفع النظام ورقتهم في وجه الغرب لم يبد لهم أثر واضح. و ارتفعت مطالب علمانية تقودها معارضة غير حزبية ممثلة في شباب الفايسبوك و جبهة التغيير وجماعة 6 نيسان (أبريل) من ناحية أخرى. إن المآل الذي تسير فيه الأحداث على الساحة المصرية نتجت بالضرورة عن انسداد أفق التغيير من داخل النظام. وهو انسداد ترافق مع أزمات اقتصادية واجتماعية بفعل هشاشة الأسس الاقتصادية للدولة ممثلة في موارد ريعية غير مستقرة من قبيل السياحة وموارد قناة السويس وتحويلات المهاجرين المصريين.هذه العوامل مجتمعة دفعت بدينامية الشارع إلى ابتغاء التغيير بفعل تصاعد صعوبات الحياة وغلاء المعيشة لدى جل المصريين. لكن ما دفع حركية الشارع إلى مزيد من التشدد في المطالبة بتغيير جذري للنظام واختيار العصيان طريقا للتغيير هو مفعول النموذج التونسي. لقد شكلت التجربة التونسية وأصدائها الإعلامية المتفاعلة تجربة ملهمة للمصريين الذين تعاطفوا معها واستلهموا حتى شعاراتها. ظل المسؤولون المصريون إلى وقت قريب يتهكمون على كل صوت محذر من تكرار التجربة التونسية بمصر. واعتمدوا في ذلك على ثقتهم بقوة النظام المؤسس على تجميد السياسة. وهو تجميد استمد قوته من الاستخدام المفرط لقانون الطوارئ، والتحكم الأمني في مجريات الواقع السياسي بدءاً من انتخابات اتحادات الطلاب الجامعية، وحتى النقابات المهنية، وصولاً إلى التغلغل العميق داخل الأحزاب السياسية بهدف شل حركتها. إن الجمود السياسي الذي هيمن على مصر في العشر سنوات الأخيرة أنتج ركودا مجتمعيا عاما، وانتشرت مظاهر الانحطاط المجتمعي، التي تبدت بالخصوص في ظهور سلوكيات جديدة وغريبة من قبيل شيوع الفساد ونموه إلى درجة خانقة،تدهور قيم الانتماء، وارتفاع معدلات الجريمة وغيرها... لكن ما لم يتنبه له النظام الحاكم هو أنه وأمام هذا الركود السياسي، كان حراك من نوع آخر في إطار التشكل. فقد انسحبت القوى الشبابية إلى مستويات أخرى من التأطير المدعوم بسهولة الاتصال عبر وسائل الاتصال الحديثة. وهكذا وفي مقابل الركود السياسي والسلبية الظاهرة عرفت المواقع الاجتماعية وشبكات الاتصال الأنترنيتية حراكا غير مسبوق من خلال مجموعات للنقاش وتبادل الآراء والمناداة بالتغيير. وهكذا نشأ جيل جديد من الشباب مراكما الإحباطات والأزمات السياسية والاقتصادية. ولم يستطع النظام السياسي التعامل مع الوضع سوى عن طريق المهدئات في الوقت الذي شهدت مصر حراكا سياسيا مكثفا منذ عام 2004 حيث تأسست حركات تنادي بالتغيير بدءا من حركة كفاية وحركة ٦ أبريل وصولا إلى شباب من أجل التغيير. كما حرك بروز البرادعي كشخصية تحظى بالتقدير والإجماع من طرف أطياف سياسية مختلفة الوضع الآسن. فإلى أين يتجه الوضع الحالي بمصر بعد انطلاق أيام الغضب؟ نتيجة التطورات المتسارعة للوضع الميداني تبقى سيناريوهات كثيرة واردة من قبيل الهيمنة العسكرية أو الدينية على النظام والدولة خاصة مع تعقد البنيات التي تحمي النظام وخبرته التي راكمها على امتداد ثلاثين سنة من الحكم. من الصعب التكهن بسيناريوهات المرحلة المقبلة من الواقع المصري، إلا أن العديد من المعطيات تشير إلى أن العصيان المدني كخيار أخير ماض في فرض مطالب التغيير السياسي العميق. ومهما اختلفت السيناريوهات، سواء ظل مبارك في الحكم وهو احتمال ضئيل أو غادر السلطة نهائيا وهو الاحتمال الأكبر، أو نصب خلفا له للحفاظ على استمرار النظام ولو بدون رأسه، فإن الثابت هو دخول مصر والمنطقة العربية عموما فترة تاريخية جديدة مدعومة بمطالب التحرر من كل مظاهر الشمولية والاستبداد وما يرافق ذلك من فساد ومحسوبية وتفاوتات غير مبنية على أسس واقعية. أما السؤال الذي صار يؤرق المتتبعين فهو على من الدور خاصة وأن اليمن والأردن وبلدان عربية أخرى تعيش منذ مدة على صفيح سياسي واجتماعي ساخن. *باحث مغربي بالمشروع العربي لمنظمة أطلس للأبحاث