اقتربت ساعة الاقتراع وظهرت أطراف التنافس في الميدان، وتبين من خلال الحملة الانتخابية تطور أساليب الدعاية لدى بعض الاحزاب السياسية، بينما اكتفى بعضها باستعمال نفس أساليب الدعاية: تدخلات عبر الإذاعة والتلفزيون- توزيع للأوراق الانتخابية- تجمعات خطابية- مسيرات من أجل إقناع المواطنين بالبرنامج الحزبي. وما يلاحظ على هذه الحملات الانتخابية هو اعتمادها على أساليب دعائية تستوجب أن تكون الكتلة الناخبة على بينة من أمرها عبر الاطلاع على البرنامج الانتخابي، وفهم الحقل الدلالي المستعمل بالإضافة إلى القدرة على التتبع والمقارنة ثم الاختيار ومحاسبة المنتخبين بعد ذلك. غير أنه مما لا نقاش فيه أن الأمية ببلادنا قد استفحلت، وأن الشريحة الاجتماعية التي تعاني منها لا زالت كبيرة، وبالتالي فإن السؤال المطروح في واقع الحال هو كيف يمكن لشجرة الديمقراطية أن تترعرع في أرض تسود فيها أوبئة الأمية والجهل؟ إن العملية الانتخابية يمكن تكييفها على أنها عملية تعاقدية بين الناخبين والمنتخبين من أجل القيام بتدبير الشأن المحلي خلال فترة معينة ومحددة بناء على الالتزامات الواردة في البرنامج المتفق عليه. ومعلوم أن الإرادة والرضا من مستلزمات وأركان العقد. فهل يملك الأمي الناخب/ المتعاقد أهلية التعاقد مع المنتخَب على تسيير شؤونه المحلية وتنفيذ الالتزامات المتفق عليها؟ وهل الديمقراطية مجرد أرقام أم إنها أرقام تنبني على إرادة واضحة يعبر عنها الناخبون في اختيار من يقوم بتدبير شؤونهم العامة المحلية؟ من الناحية القانونية، تعتبر أهلية الأمي المتعاقد غير سليمة ما دامت إرادته لا تكتمل إلا بالعلم والاطلاع والتأكد من مضامين العقد الذي سيقدم على الالتزام بمضامينه،كما أحاط المشرع الأمي بعدة ضمانات تفاديا للاحتيال عليه واستغلال وضعيته من أجل تمرير التزامات يمكن أن لا يعلم مضامينها وآثارها، باعتبار الأمية والجهل طريقين للوقوع في الغلط، ويجعلان إرادة المتعاقد ورضاه ناقصين عن درجة الاعتبار لأن إدراك حقيقة الشيء أساسي لاكتمال الرضا وشرعية الآثار المترتبة على التعاقد. وإذا كان القانون قد أحاط الأمي المتعاقد فيمجال العقود الخاصة بضمانات شتى حماية لوضعه ومصالحه الشخصية والاقتصادية،رغم أن آثار هذه العقود لا تتجاوز المتعاقدين نظرا لنسبية آثارها، فإن الأجدر بالحماية هو المواطن الأمي الناخب نظرا لأن تصويته بمثابة تعاقد مع المرشح من أجل تولي تدبير شؤونه العامة وائتمانه على المال العام ومستقبل أولاده ووطنه، وبالتالي فإن آثار تصويته تتجاوزه إلى كافة المواطنين المنتمين لدائرته بل إلى وطنه كاملا، وهو ما يجعل الحرص على تعلمه وتوعيته أشد من الاهتمام بالمرشح الذي قد يتوفر على فريق من الخبراء والمختصين الذين يساعدونه في تنفيذ البرنامج الانتخابي الذي تعاقد بخصوصه مع المواطنين. إذن فالذين يتحدثون عن ضرورة كون المرشح ذا مؤهلات علمية نظرا لكونه يتولى تدبير الشأن المحلي ينبغي أن ينظروا للأمر بطريقة شمولية تجمع طرفي التعاقد معا، فلا يجوز التركيز فقط على ضرورة كون المرشح متعلما ومطلعا ومدركا وذا مؤهلات وتجربة، بل ينبغي أن يتم اشتراط عدم الأمية في الناخبين كذلك حتى تكتمل إرادتهم ويعبروا فعلا عن إرادتهم في اختيار من يمثلهم في تدبير الشأن المحلي وفق البرنامج الانتخابي المتفق عليه. والمفارقة هي أن أغلبية الأحزاب تعتمد على توزيع مناشير ومطويات في الأسواق والتجمعات السكانية دون أن تتنبه إلى أنه للاطلاع على مضامين هذه المنشورات ينبغي بذل مجهودات جبارة لمحاربة آفة الأمية التي لا زالت تنخر جسم الوطن.. كما أن الوسائل الحديثة التي يتم استعمالها للدعاية الانتخابية تستلزم كون الناخبين على مستوى رفيع في مجال التعامل مع وسائل التكنولوجيا الحديثة. وبناء على ما ذكر أعلاه، فإنه من الثابت أن الديمقراطية الحقة لا يمكن أن تترعرع في بيئة تسود فيها الأمية والجهل، وإن تحقيق النجاح في الامتحان الديمقراطي يتوقف على تجفيف منابع الجهل وآفة الأمية باعتبار أنه لئن استطاعت البلاد أن تجتاز مرحلة الانتخابات بسلام على المستوى اللوجستيكي والرقمي والشكلي، فإن اكتمال الصرح الديمقراطي لن يتم إلا بتعبير المواطنين بشكل فعلي وحقيقي عن إرادتهم، وذلك لن يتحقق إلا حينما يدرك المواطنون أنهم، بالتصويت، يتعاقدون مع منتخبيهم وفق برنامج تعاقدي محدد يستطيعون في آخر الولاية تقييم المنجزات ومحاسبة المنتخبين وفق نفس آلية الاختيار الأولى المتمثلة في صناديق الاقتراع .