قراءة في تجربة شباب الفايس بوك إن ما حدث في تونس و ما يحدث في مصر وما سيحدث في بلدان عربية أخرى، يؤشر على عناوين جديدة، تؤرخ لمراحل تاريخية محددة بعينها، وتقدم خبرة اجتماعية لحركية المواطن العربي بعامة، وحركية الشباب العربي بخاصة، وارتباطا بهذا الأخير، الذي يعتبر أهم الفاعلين في ثورتي تونس و مصر الشعبيتين، يقف المراقب أمام إشكالية بارزة مفادها؛ تشهد الأحزاب و الحركات والجمعيات في العالم العربي، تحدي استقطاب الشباب وإقناعهم بمشاريعها للانضمام إلى أعضائها، في المقابل ظهرت أشكال تنظيمية جديدة يحتضنها الإنترنت مثل " الفايس بوك " ينضم إليها الآلاف من الشباب غير المؤطر حزبيا في التنظيمات الكلاسيكية. إلى هنا نتساءل: لماذا أصبح " الفايس بوك " منصة جديدة للشباب العربي، للتعبير عن مطالبه السياسية والاجتماعية، بعيدا عن المؤسسات الحزبية السياسية المعدة لهذا الغرض ؟ للإجابة على هذا السؤال نسلك المقارنة الآتية، بين التنظيم الحزبي الكلاسيكي والتنظيم الافتراضي الجديد. - التنظيم الحزبي الكلاسيكي: كما هو معروف في أبجديات التنظيمات، أنه لتأسيس أي تنظيم مدني أو سياسي، تنطلق لجنة تحضيرية تأسيسية، من مهامها إعداد الرؤى و التوجهات والمواقف وصياغة القانون الأساسي، هذه الوثائق تقدم في المؤتمر العام لمناقشتها و المصادقة عليها، وبالموازاة يعرف المؤتمر انتخاب قيادته التنفيذية، والمجلس الوطني للتنظيم، وهذا المسار يتطلب الكثير من الجهد الفكري و السياسي و القانوني، إضافة إلى حضور قيم الديمقراطية والحوار والنقد البناء، كما أنه يؤسس لهيكل تنظيمي عبر انتخابات تفرز القيادات الوطنية والجهوية والمحلية، إضافة إلى نقاش دقيق في القانون الداخلي للتنظيم، حول شروط العضوية، و حقوق العضو وواجباته، و مهام كل هيئة، و الموارد المالية للتنظيم، وتحديد مكان المقر، وبعد الانتهاء من أشغال المؤتمر تسلم إلى وزارة الداخلية الوثائق الإدارية لأعضاء اللجنة القيادية العليا... - التنظيم الافتراضي الجديد: لتأسيس هذا التنظيم، قد يكون مبادرة فردية من شاب، ينشئ مجموعة على الفايس بوك تطالب بالتغيير السياسي و الحقوق الاجتماعية، و قد يديره لوحده دون حاجة إلى فريق أو لجنة، و قبل إقدامه على هذا الفعل، لم يكلف نفسه عناء التفكير في مهام إعداد الوثائق التي توضح المواقف و الرؤى و التوجهات والقانون الأساسي، كل ما فكر فيه بدقة هو اسم المجموعة و ما هدفها، ويبدأ في دعوة الأعضاء للانضمام بالمئات، فيصبح هؤلاء الأعضاء فاعلون أساسيون في إنضاج توجهات المجموعة من خلال نقاشاتهم التفاعلية القصيرة السريعة، وبعد كل هذا لا يفكر واحد من الأعضاء في إجراء انتخابات لفرز "قيادة فايسبوكية" أو " مجلس وطني فيسبوكي "، لأن كل عضو يعتبر نفسه " قائدا مبادرا"، و هذا المسار لا يتطلب تكوينا قانونيا أو سياسيا أو فكريا، مما يجعله شعبيا بامتياز، فتجد في المجموعة كل المستويات الثقافية و العلمية، لأنهم اتفقوا و اقتنعوا بالفكرة المحورية المطلبية التي يعملون على تنفيذها في الواقع، و ما يأخذه القانون الأساسي أو الداخلي في التنظيمات من وقت طويل في المناقشة و التعديل، القانون المنظم للمجموعة على الفايسبوك، ليس من ضمن بنوده شروط العضوية و لا حقوق العضو و واجباته، و لا مسطرة الإقالة و الاستقالة، و لا المقر ، و لا الموارد المالية للمجموعة، القانون المنظم للمجموعة يستند إلى فكرة " السرعة التفاعلية " من سيكون "سريعا أكثر"، و ليس من سيكون "منضبطا أكثر" ليحوز رضى التنظيم، و القانون المنظم غير مكتوب، بل كل الأعضاء متماهون ضمنيا مع بينة الفايسبوك . من خلال هذه المقارنة الأولية، يرشح عنها أهم القواعد الآتية: سرعة التنظيم لا قوة التنظيم: هذه الفكرة تشكل صلب ثورة الشباب في تنظيمهم الافتراضي على الفايس بوك، فهم انطلقوا من واقعهم إلى الفايسبوك، و من الفايس بوك إلى الواقع، هم أرادوا التواصل بينهم في قضية لامست عقولهم و وجدانهم، بطريقة فيها السرعة التواصلية لأجل التعبئة و التجميع حول فكرة واحدة واضحة " مستعجلة "، فالواقع المستعجل يتطلب منهم " السرعة " وليس من وسيلة مؤثرة سوى البحث عن آلية سريعة تستجيب لمتطلبات الواقع، فوجدوها في " الفايس بوك"، فبسرعة البرق يتجمع الآلاف ممن لهم نفس الفكرة، وعلى هذا الأساس ينطلق شباب الفايس بوك، يعرفون وظيفتهم جيدا، و هي التعبئة و التحريض لفكرة معينة لأجل تغييرها في أقرب وقت، وهذا التنظيم قوته في سرعته وليس قوته في انضباط أعضائه لقيادة ما، لا يتحركون إلا بأوامرها، فلغة الأوامر والنواهي غير موجودة، ولا وجود للقرارات التنفيذية التي تسافر لكي يتم تطبيقها على الواقع، وقوة التنظيم الافتراضي في سرعة أعضائه وليس في انعقاد لقاءاته الإدارية و الوظيفية و ما يرشح عنها من قرارات كما هو الأمر في التنظيم الكلاسيكي، و قوة هذا التنظيم الافتراضي في سرعة التواصل بين أعضائه، الكل يتواصل ويناقش ويحاور، عكس التنظيم الكلاسيكي الذي يعتبر قوته في " العمل التنفيذي " و ينقص من شأن الحوار و النقاش و النقد لأن ذلك يشكل كابحا في مسار التنزيل و التطبيق. العضو القائد لا العضو المنتظر: إن الثورة التي أسهم فيها الويب 2 ، تتمثل في إخراج الفرد من سكونيته إلى حركيته، و أظهرت قدرة تأثير الفرد في صناعة الحدث، بوسائل تتميز بالبساطة و قلة الكلفة، كل ما ينبغي أن يمتلكه الفرد؛ حاسوب مع هاتف بكاميرا و اشتراك في خدمة الإنترنت، ويعمل الفرد على فتح حساب في الشبكات الاجتماعية تويتر أو فايس بوك أو flickr ، و قد يقدم الفرد على فتح حساب في youtube، فهذه الوسائل منحت للفرد الحرية بدون قيود، ينشر صورا أو فيديو، يعلق و يكتب ..، و تكون النتائج التأثير الكبير في الواقع، و كم من مواطن أسقط مسؤولا، و كم من مواطن فضح الفساد، و أسهمت هذه الوسائل في صناعة شباب مؤثر، كان نسيا منسيا، فهذه المنصات التي ينطلق منها الفرد هو المفكر و المخطط و المنفذ، بمعنى أنه قائد مبادر، لا يحتاج إلى أن ينتظر البرنامج السنوي و لا مناقشة الميزانية، و ليس في حاجة إلى بيان القيادة و مواقفها، و لا إلى خطبة الزعيم المحرضة الموجهة، لكي ينزل إلى الواقع، فيطبق ما تريده القيادة، و يضيف إلى رصيدها النضالي الإنجازات و البطولات، و يذهب مجهوده دون ذكر معتبر، لأن التنظيم الكلاسيكي يدور على مدار زعيمه، لكن في التنظيمات الافتراضية الجديدة كل عضو يدور على مداره مستوعبا لفكرة جماعية، و الكل يعمل بالطريقة التي يريد، فيفرز هذا العمل قيادات كثيرة و ليس قائدا واحدا. التنظيم المؤقت لا التنظيم الدائم: إن ما يميز هذه المجموعات الافتراضية على الفايس بوك هي أنها مجموعة مؤقتة لها مطالب زمنية محددة بعينها تنتهي بتحقيق المطلب، و ليست هذه المجموعات التنظيمية أسست على الدوام، كما هو الحال في التنظيم الحزبي الكلاسيكي، الذي أراده مؤسسوه أن يكون دائما و مستمرا، و صفة المؤقت بالنسبة لهذه المجموعات الافتراضية تشكل قوة مؤثرة في جذب الكثير من الشباب، الذي لا برغب في الالتزام الدائم ، بل هو عاشق للحرية في الحركة، ثم إن التنظيم المؤقت لا ينجح إلا إذا كان المطلب واضحا و محددا بدقة، غير مبهم كما يفعل ذلك التنظيم الحزبي الذي يستمد قوته من غموض خطابه، و هذا شكل جديد من النضال انتشر في كل أنحاء العالم، لو فكر شاب في مقاطعة منتوج تجاري سيرسل بريدا إلكترونيا واحدا لآلاف الشباب، فيكبد الشركة خسائر، لا تعرف مصدرها، فالهدف المحدد بدقة في الزمن المطلوب يشكل قوة ضاربة لمثل هذه المجموعات الافتراضية على الإنترنت، و هذا لا يوجد في التنظيمات الحزبية الكلاسيكية التي تجد برامجها مليئة بالأعمال المراد إنجازها فتريد إنجاز كل شيء، من الفرد إلى الدولة إلى العالم ، و تشغل أعضاءها بأحلام بعضها وهمية صعبة التحقيق، فيصبح التنظيم حاضنا لأعضاء لا يتجددون إلى أن يصيبهم الترهل و الفتور. بهذا التحليل الذي يقدم شيئا من التفسير لحركية الشباب العربي، الذي عزف حزبيا عن الانضمام للتنظيمات المغلقة، و أسرع إلى محاضن جديدة غير معقدة و لا مقيدة، و هذا التحليل يؤدي بنا إلى نقض الأطروحات الآتية: شباب الفايس بوك يعيش في عالم افتراضي وهمي: إن هذه الأطروحة باطلة من أوجه عدة، إن الشباب الذي يستعمل الفايس بوك، ينقل واقعه إلى هذا الفضاء الافتراضي، ليناقشه و يتحاور في مضمونه مع آخرين يشتركون معه في نفس الهم ، فهذا الشباب هو من إنتاج واقع عربي معين، ولم يسقط من السماء ليستوطن في الفايس بوك، ولذلك؛ المتتبع للمواضيع و الاهتمامات التي تطرح على الصفحات، هي موضوعات من صميم الواقع المعيش، وأصحاب هذه الاطروحة يقولون؛ إن أحلام هؤلاء الشباب تبقى حبيسة الافتراضي، و هذا ليس صحيحا، إنه بتجربتي الميدانية من خلال مساهمتي في تأسيس جمعية المدونين المغاربة ، تأكد لي أن التواصل الافتراضي يتبعه اللقاء الواقعي المباشر، فمدونو المغرب كانوا يتواصلون باستمرار حول قضايا كثيرة، و قرروا اللقاء لتأسيس إطار قانوني وطني، وفعلا تم ذلك عبر لقاءات متواصلة، فكان المؤتمر الأول سنة2009 و كان المؤتمر الثاني سنة 2010، و ما نشاهده اليوم في ثورتي مصر وتونس دليل أقوى، فلو كان الشباب يجتمعون في فضاء وهمي، لما أقدمت السلطات المصرية على حجب الفايس بوك و قطع خدمات الإنترنت!، لأنها تعلم، أن هذا الفضاء هو الحقيقة عينها، و لذلك فالشباب العربي انتقل من الواقع ، و حمل معه همومه ليناقشها في واقع افتراضي، ليعود إلى واقعه مرة أخرى مغيرا مؤثرا. شباب الفايس بوك أكثر الناس عزلة و ابتعادا عن الناس: هذه أطروحة تتسلح ببعض أبجديات علم النفس، فتناقش الموضوع في بعده المرضي، بمعنى أن هؤلاء الشباب يعانون من أمراض نفسية معينة، ويستعملون الإنترنت للبوح، فيسقطون في العزلة، و هذه الفكرة تبدو ساذجة أكثر من اللازم، إن الواقع العيني يثبت أن شباب الفايس بوك ينحو منحى " المحلية الافتراضية"، أعني إذا كان الإنترنت يقدم العالم للفرد، فهو ينحو أكثر مع مرور الوقت إلى المحلية و الخصوصية، حيث تصبح المعادلة معكوسة، ينقل الفرد المعيش المحلي إلى العالم، و يمكن الإشارة إلى أن المستعمل يندهش لإمكانيات الفايس بوك في جلب الأصدقاء، فتجد في صفحته 5 آلاف صديق، و مع مرور الوقت، يجد هذا الرقم أبكما لا يتحدث؛ لكن يسمع و يراقب أي حركة له، إلا أن التواصل اليومي الحميمي و الحوار المستمر، يكون مع عدد قليل، وفي الأغلب يكون مع من يعرفهم ويعرفونه، هذا بالنسبة للصفحات الشخصية، أما الصفحات المطلبية النضالية فتكون المناسبة أكبر للتعارف و الاحتكاك، حول قضية معينة، و بهذا؛ فلا عزلة يعيشها مستعمل الفايس بوك، وهنا نسجل التطور الذي حصل؛ هو أن شباب الفايس بوك المناضل تمركز حول قضية مجتمعية، عكس ما كان فيما قبل، أن هذا الشباب منغمس في ذاتيته و نرجسيته يعبر عن شهواته و مكبوتاته، و هذا لا زال عند البعض، لكن ما نراه هو أنه أصبح لشباب الفايس بوك قضية يناضلون من أجلها هي الإطاحة بالاستبداد. على سبيل الختم؛ إن المأزق الذي عانى منه هؤلاء الشباب الذين استعملوا وسائل جديدة للنضال و التعبير عن مطالبه، أن النخبة المفكرة و العالمة بعيدة عن فضاءاته، لأنها في برجها العاجي و تنظر إلى ما يفعله هؤلاء الشباب مجرد خربشات و نزوات عابرة، مع العلم أن هؤلاء الشباب في حاجة إلى النخبة الشريفة المثقفة، و أعتقد أن ثورتي مصر وتونس غيرت الصورة الذهنية التي يعتقدها المفكرون و المثقفون عن هؤلاء الشباب، و أبلغ كلمة في هذا السياق هو ما قاله المفكر سيف الدين عبد الفتاح أستاذ العلوم السياسية بالقاهرة في تحليل للجزيرة:" إن شباب الفايس بوك هم الأبطال و نحن كومبارس " ، لكن يبقى السؤال قائما: هل ستحمل النخبة في تونس و مصر مطالب الشباب و النضال من أجل تحقيقها على أرض الواقع دون مزايدات حزبية ضيقة ؟ Fr.foshaton@hotmail www.bougarne.blogspot.com