لقد مكثت ولازالت تربيتنا خطابية شفاهية يمارس من خلالها الوعظ والنصح وضرب الأمثال وإصدار الأحكام، عند حصول مآس وفي النكبات لا غير، مما يعاني منه مجتمعنا، وكذا من أجل اجترارالعبر والتظاهر بالفهم وحسن التوجيه والإرشاد، فقط ..أي أنه لا يكون هذا إلا عند وقوع ذاك..إنه نزوع مطنب في الشفاهية لدينا.. وهذه "الشفاهية" امتدت إلى كل شيء حتى إلى الثقافة والكتابة والسياسة والإعلام وتسيير الشأن العام و تدبير الأحوال ، حيث أصبح الجميع "فقهاء" و"حكماء" و"بلغاء"، كل بطريقته يعظ و يرشد ويعلق ويستنكر لاغير.. فنحن مغموسين في الثرثرة عشوائيا واستعراضيا...والمثال على ذلك ما يصدر من فوق المنصات وعبر البرامج السمعية/البصرية والمناهج والحوارات والبيانات والندوات والمذكرات الإدارية و الحملات الانتخابية والجدالات المؤسساتية، من هيئات ومنظمات وجمعيات... وكذا ما يصدر عن أصناف"التنظيرات" الطوباوية و"الفتاوي" الدعواتية، وما يتبع ذلك من لغو في كل مكان وكل مناسبة وكل حدث، وهلم جرا...كلام في كلام... ولم نمهد السبل أبدا للتجاوز حتى نفعل العمل في الذات الفردية والجماعية والمؤسساتية... لكن نقطة الضعف، تكمن في كوننا لا نملك تراكما معرفيا، على مستوى تربوي/تنشيئي، مؤطرا وممنهجا يعتمد دراسات عن إنساننا تساير التحولات، وبالتالي لم نرصد بالبحث العلمي خانات للشخصية وللمزاجية والنفسية لهذا الإنسان، سواء كان فردا أو جماعة، حتى نتعامل معه إجرائيا، بكفايات بيداغوجية بنائية وتكوينية، تتناسب مع طبيعته و طبعه، بعيدا عما هو دغمائي أو نمطي مستورد،وذلك لتحقيق التواصل الاندماجي مع هذا الإنسان في جميع المجالات الهادفة، انطلاقا من بناء مفهوم تربوي تنهض به جميع النخب والفئات دون استثناء، دعما لتأسيس علم اجتماع تربوي مغربي متطور، ينظر لتربية مغربية كحقل تتضافر فيه الجهود فيتكون، ترتبا عن ذلك، النموذج الأساس لانطلاق الصيرورة التربوية نحو ما هو أنجع..ولنا المثال في نهضة الفكر التربوي الغربي وأقطار آسيا المتقدمة .. ومن هنا نضمن رصيدا مستداما من الموارد البشرية ومقوماتها، تكون له مردوديته ونجاعته وأمنه المستقبلي ، ليتم تأهيل الإنسان في مجتمعنا وتمكينه من إعداد وقيادة نفسه بواسطة التسيير الذاتي المحرك لمواهبه الفاعلة والفعالة، فتنتهي بذلك "الكلامية"الجوفاء.. لكن ومن فرط الإهمال في هذا الجانب الاستراتيجي التربوي وعدم الاكتراث به، يترك في هذا التغييب كل شيء للصدفة والعارض والطارئ والمفاجئ، فتتخلف "تربيتنا" وتصير متجاوزة لتتفاقم سلبياتها مع هذا الفراغ، ولا نجد في آخر الأمر، مرة أخرى، سوى الوعظ والإرشاد والأمثال والحكم والخطب، جاهدين أنفسنا، دون جدوى وبعد فوات الأوان، من أجل محاولة فاشلة وعقيمة لإعادة تربية وإصلاح "الكهول" بنفس الأسلوب الشفاهي، بدل التركيز على تكوين وتأهيل الناشئين... وبغياب هذا الفعل التربوي، لا تطرح في الساحة إلا آراء متنافرة ذات اتجاهات متضاربة، أكثر ما يبرز فيها طرحات طوباوية دغمائية تحيلنا على أشكال ونماذج غريبة، فتخضعنا جزافا للسلوك الانقيادي أو التقليداني، نستهلك دون أن ننتج .. وهكذا تحدث قطيعة مع الفعل التربوي المتحرك والفعال..إن هذا الإرتباك وهذا الاضطراب يعزل"الدور التربوي"لدينا في صناديق "العجائب" منغلقة على نفسها، تدعي كلها القدرة السحرية على لعب دور خارق يحمل الحل"الأمثل"، كل حسب تخمينه وقناعته الانفرادية المتعصبة، عبر خطاب في عموميته انتقادي يلقي اللوم على الطرف الآخر ويمدح نفسه، في حين لو كان في موقعه لقام بما يستنكره في الموقع الآخر..وبذلك نصبح جميعا مخطئين عند حصول النتائج .. ووسط هذا اللغو واللوم والادعاء لا أحد يتحمل المسؤولية التربوية لينهض بفعلها.. فليس هناك سوى إعادة إنتاج ما هو كائن من أخطاء وهفوات وأزمات... وعندما نتفحص النتائج الموعودة نستنتج عدم حصول أي شيء يذكر مما يوعد به ..والدليل على ذلك أن الجميع، من شرائح المجتمع ونخبه،لا يتفقون إلا على شيء واحد، وهو أن الأمور لا تسير بالكيفية التي يجب.. وتكون الحصيلة في نهاية الأمر أن هناك أخطاء جسيمة ارتكبت وأهدرت كل شيء، فلا تقابل مرة أخرى إلا بالتأسف والاستنكار وإلقاء اللوم، كل بعيدا نفسه، وكأن ذلك قضاء وقدر..وتستمر سلسلة الأخطاء في تفريخ الانتكاسات دون انقطاع لينتعش، مرة أخرى، الخطاب الوعظي وتراث الحكم والبراعة الكلامية، فيضيع في غمرة هذا الضجبج، الفعل التربوي المنظم والممنهج...