أم، استحالة تنفيذ مشروع الإصلاح..؟ 1- المعروف أن حكومة السيد بنكيران بتجربتها الأولى والثانية، جاءت في ظرفية سياسية واقتصادية واجتماعية استثنائية.فالسياق التاريخي الذي حلت فيه هذه الحكومة استوجب، أن تضع بتمعن اللبنات الأولى لبناء الدولة المدنية بكامل هياكلها المستلهمة من روح دستور جديد، قدم خيارات عميقة للتغيير والإصلاح . لذا كانت مسؤولية هذه الحكومة مرحليا، مسؤولية تأسيسية، تبنت من خلالها مشروعا كبيرا للإصلاح،إصلاح المؤسسات، إصلاح الإدارة، إصلاح القضاء، وبالتالي محاربة الفساد والرشوة والعادات السيئة التي طبعت الأجهزة العمومية والأشخاص خلال عقود. بعض الفرق السياسية التي شاركت في الحكومة الأولى لسنة 2012، كانت ترتب أولويات سياسية حزبية،لم يكن مشروع بنكيران الإصلاحي يشكل بالنسبة لها الخيار الأساسي الملائم للحكم .بل لم تخف تيارات حزبية داخل الحكومة في نسختها الأولى امتعاضها من الشعار الذي كان يلوح به السيد بنكيران وفريقه الحكومي من حزب العدالة والتنمية حول مشروع الإصلاح ومحاربة الفساد،وربط المسؤولية بالمحاسبة وأن محاسبة الوزراء والمسؤولين العموميين قانون دستوري لا يمكن التحلل منه.هذا الخطاب الإصلاحي انتشر من خلال الندوات الصحافية واللقاءات الحزبية والتجمعات السياسية والثقافية والمصالح العمومية والوزارات والمجالس النيابية المنتخبة والصحافة،حتى لكاد يتحول عند بعض وزراء بنكيران العدليين إلى خطاب إيديولوجي، يبحث عن متلق بعينه يصغي لمضمون هذا الخطاب ويتفاعل معه. هذا الحراك السياسي من داخل الحكومة قدم للشركاء الحكوميين الاخرين صورة نمطية عن الهدف السياسي لحزب العدالة والتنمية وأن أدلجة الخطاب السياسي الحكومي عن طريق تقديم مشروع سياسي يبنى الإصلاح ويقطع دابر الفساد، ليس من ورائه سوى كسب المزيد من المتعاطفين وتوسيع القاعدة الانتخابية للحزب. هذا حق أريد به باطل،لأن الائتلاف الحكومي الذي شارك في تكوين الحكومة المنبثقة عن انتفاضة الربيع العربي،لم ينجح في الاختبار الذي وضعه وجها لوجه مع إشكالية الفساد،وأن المعضلة أكبر من أن يوضع لها مشروع قانون أو مبادرة للتخليق والتطهير، سبق لحكومات من قبل أن بادرت بها وفشلت1. خصوصا أن جل المناصب الحكومية والترابية والأمنية بيد مسؤولين مخضرمين شاركوا في حكومات سابقة وعلى يد بعضهم كبر الفساد وترعرع ،علما أنه لا يوجد "قانون للعزل السياسي" الذي بواسطته يمكن إبعاد الفاسدين عن المناصب الكبرى2، كما أن المحاسبة الدستورية لا تحمل أحدا مسؤوليات الماضي وملفاته الشائكة في كل قطاع.وعلى هذا المنوال، كيف إذن يسمح لبنكيران وفريقه ذي الأقلية الحكومية بفرض خيار الإصلاح ومحاربة الفساد.؟ انتهت حكومة الربيع العربي سنة 2013 التي نتجت عن انتخابات تشريعية سليمة نسبيا وتستحق أن تنادى بأول حكومة تنتخب ديمقراطيا في تاريخ المغرب السياسي ، وكانت دواعي إسقاطها وجيهة، وقامت على أنقاضها حكومة التوافق السياسي وأعيد إنتاج الوضع السياسي لسنة 1998 في طبعة جديدة وغير منقحة وضرب صمت مريب على مشروع محاربة الفساد وتقدم زعماء الإصلاح من حزب العدالة والتنمية وعلى رأسهم أمينه العام ورئيس الحكومة بمقولة"عفا الله عن ما سلف" وتم تحييد برنامج الإصلاح ومحاربة الفساد من أجندة السيد رئيس الحكومة، ووضع أمامه برنامج بديل لسد الخصاص وتعويضه بنبرة إصلاحية جد مهذبة ومقبولة ، تجسدت في مطالبته الفاعلين الاقتصاديين ورجال الأعمال باسترجاع ودائعهم المالية في البنوك الأجنبية وخصوصا في أوروبا ،فاستعاد حوالي 15 مليار سنتيم صارت بالنسبة للمشروع الإصلاحي إنجازا باهرا ونقطة إضافية لرئيس الحكومة وفريقه. لقد مر على هذا الوضع حوالي سنتين تقريبا،قبل أن يعلن مجددا رئيس الحكومة السيد عبد الإله بنكيران في غضون الأسبوع ما قبل الأخير من شهر يناير 2015 في مجلس حكومي، العودة إلى فتح ملف الفساد من جديد، ولم يكن هناك من داع للاستفسار عن الأسباب التي حركت رئيس الحكومة للعودة إلى موضوع محاربة الفساد، بعد أن تم السكوت عن هذا الملف وطيه بالمرة ؛ سوى أن تكون هناك حاجة إلى تعبئة الشارع لحملة انتخابية تلوح في الأفق.ومما لا شك فيه أن توجه التيار المناهض للفساد من داخل حزب العدالة والتنمية ، يضاعف عبء المسؤولية الملقاة على رئيس الحكومة، علما أن لرئيس الحكومة دعامات أساسية قانونية وسياسية ومدنية لمواجهة عفاريت الفساد المنتشرين في تفاصيل المؤسسات العمومية والشبه عمومية والأجهزة التابعة للدولة وبعض التشكيلات الحزبية والنقابية وحتى بعض جمعيات المجتمع المدني.وهذه الدعامات كفيلة بخلق العديد من المتاعب لهؤلاء العفاريت والأشباح،في حين يتمتع الرجل بعدة امتيازات، في مقدمتها كونه رئيس حكومة بصلاحيات دستورية واسعة النطاق وذات قاعدة قانونية فعالة، وثانيا له خلفية سياسية حزبية حليفة وجادة تؤازره وتعضد موقفه،وثالثا تحت إمرته مؤسسات دستورية رقابية وقضائية تنفيذية يمكن له توظيفها قانونيا في حربه على الفاسدين، ورابعا عنده في المجتمع المدني قوة وجيهة وصامدة تسانده عند الاقتضاء. فبإمكانه أن يوظف هذه العوامل القتالية الأربعة بذكاء ومرونة ويحرر الإدارة المغربية من قيود الماضي التي ما تزال تكبلها، ويطهرها من الأشباح والعفاريت والتماسيح المتمركزة في تفاصيل العتمات الضيقة وفي كل مكان . الأكيد أن رئيس الحكومة وفريقه العدلي في الحكومة الائتلافية ولا حتى حزبه في المنظومة السياسية المغربية، لن يستطيعا فعل ذلك ، لأنهما ليسا وحدهما المعنيين بمشروع الإصلاح ومحاربة الفساد في هذا البلد، ليتحملا بمفردهما وزر هذه الجريرة التاريخية ذات الجذور العميقة في مجتمعنا ،فهذا ثقل لن يطيق حمله رجل واحد ولا حزب واحد، نذر نفسه للإصلاح. فالجميع يعرف أن رئيس الحكومة بدافع المسؤولية الملقاة عليه وأحكام الضمير المهني،هو معني أولا وأخيرا بمحاربة الفساد،غير أن المفارقة تكمن، في كونه يوجد بين خيارات صعبة، لذا فهو بين إقبال وإدبار في كيفية التعامل مع هذا الملف الشائك، أيأخذه على مضض أم يدسه في النسيان، والموضوع يهم كل الأطراف وكل الجهات وكل المؤسسات وكل المجتمع بجميع مكوناته وشرائحه الاجتماعية ،فمحاربة الظاهرة تستوجب حربا ضروسا تتعبئ فيها كل الطاقات الاجتماعية وكل الفاعلين في سائر القطاعات. 1 مشروع تخليق الشأن العام لحكومة التناوب سنة 2000. 2 قرر المجلس الدستوري مؤخرا (شهر يوليوز 2015) تفويض الحق في عزل رؤساء المجالس المنتخبة وحل المجالس الجماعية، للمحاكم الإدارية بالمملكة.