الحقيقة شيء ثابت وليس له ذاتان' ديكارت لا يزال الشعب التونسي صامدا في وجه أذناب النظام البائد، ولا يقبل بأي مساومة على إيمانه العميق بضرورة التغيير الكلي، وعزيمته في النضال من أجل الإصلاح الجذري والقطيعة التامة مع الماضي، في الوقت الذي لا تزال أنظمة الحكم الاستبدادية في الدول المجاورة، التي على ما يبدو لم تستوعب الدرس التونسي، تراهن على المقاربة الأمنية في التعامل مع الحراك الاجتماعي بكل أشكاله، وبلغت بها الوقاحة حد إجهاض المبادرات الهادفة الى التضامن الشعبي، خوفا على كراسيها المهددة بانتقال الثورة الى بلدانها.. لكن، الى متى؟ الأنظمة الاستبدادية التي تستمد استمراريتها أساسا من تكريس ثقافة العبودية واستغباء الشعوب، لم يفتها أن تجند أقلامها وأبواقها من المحيط الى البحر الاحمر للمغالطة والتضليل بهدف حجب الحقيقة بعد أن أشهرت أسلحتها الثقيلة، للاغتيال المادي والمعنوي، في وجوه الأصوات الشريفة .. لكن هيهات.. لا يصح إلا الصحيح ورغم محاولات التضليل الممنهج، فإن معظم التحليلات التي تناولت موضوع الثورة التونسية وإمكانية انتقالها الى دول أخرى مغاربية وغيرها، أجمعت على التقارب الواضح بين الأوضاع السياسية والإجتماعية في «تونس بن علي» والمغرب والجزائر وليبيا ومصر. ورغم المداخيل الهائلة للبترول والنفط بالجزائر وليبيا، فإن الشعوب الخمس، من المغرب الى مصر، تعاني من تسلط الاستبداد وفساد القضاء والفقر والبطالة ونهب ثرواتها وفساد حكامها والاغتناء الفاحش لمحيطهم وطغيانه وجبروته. ولعل ما يزكي فكرة انتقال الثورة، هي الأنماط السلوكية المشتركة التي تميز الطبيعة الانسانية موضوع هذه الورقة للشعوب المذكورة بما فيها الشعب التونسي صانع الثورة بدون منازع.. لقد باتت مدارس التحليل السياسي حول العالم، والمهتمة بشؤون العالم العربي الإسلامي على وجه الخصوص، منذ خروج الإحتلال العسكري من شمال افريقيا إلى حدود الأسابيع الماضية، في تعاليقها على الطبيعة الانسانية لشعوب شمال إفريقيا، تعتبرنا شعوبا نناضل حتى الموت ضد المحتلين الأجانب في حين أننا اليوم نقبل بنفس الدرجة من القمع والقهر والإضطهاد من قبل حكام ليسوا إلا مواطنينا.. لكن الشعب التونسي العظيم، منذ أن طور شكل الإحتجاجات من طابعها الإجتماعي المحض إلى المطالبة برحيل زين العابدين بن علي، وإصراره واستماتته أمام الآلة البوليسية الشرسة رغم تساقط الأرواح إلى أن سقط الديكتاتور، بعثر أوراق المحللين ليفتح صفحة جديدة من تاريخ شعوب شمال افريقيا. وأعاد للاذهان صورة أمجاد المقاومة ضد الإحتلال العسكري الفرنسي والإسباني والإيطالي والإنجليزي، و هذه المرة ضد ديكتاتورية محلية طالما سدت الآفاق أمام شعب أصابه الإحباط لدرجة كان يسفه كل المبادرات الداعية الى التغيير الجذري إن ما حدث في تونس مؤشر إيجابي لتطور نوعي، في الوعي الانساني والسياسي لدى شعوب المنطقة، أفرز نمطا سلوكيا لم نالفه من قبل، يستحيل أن تهزمه الديكتاتوريات المحلية رغم خبرتها المشهودة في القمع مهما استقوت بأي كان، ولها في التاريخ عبر في غياب الاصلاحات السياسية والإقتصادية والإجتماعية..الجذرية. إن الثورة آتية الى مصر والجزائر والمغرب وليبيا، لا ريب فيها.. ويبقي السؤال المطروح : هل سترضى «الشعوب الجديدة» بخطوات الإصلاح التي ستقدم عليها الأنظمة البائدة ام أنها ستطالب بأنظمة جديدة؟