بالطبع لا يمكن لحدث بحجم ثورة الياسمين أن يمر دون أن يثير كثيرا من الإعجاب والانشداد إلى هذه الثورة الشعبية العظيمة، ودون أن يثير كثيرا من الأسئلة والهواجس عن سر نجاح هذه الثورة وسقوط نظام عربي بائد لم يكن أحد يتوقع ولو في الأحلام بسقوطه في رمشة عين لما يتميز به من شراسة في قمع الحريات العامة وأيضا من سطوة وسيطرة أمنية ومخابراتية شبه كاملة على دواليب الدولة وجعلها رهينة في يد طغمة فاسدة تفننت في امتصاص خيرات تونس وارتهانها للمونوبول الاستعماري الداخلي والخارجي. وإذا كانت تونس لا تختلف عن باقي الدول العربية في كونها رسخت في حياة شعوبها جمودا فضيعا في الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية بعد مايسمى بالاستقلال الذي لم يكن سوى خروج من استعمار غاشم إلى استغلال فضيع تفننت الأنظمة من خلال أجهزتها القهرية وأساليبها القمعية في الاستئثار به و وضع اليد على مختلف القطاعات الحيوية التي تشكل عصب المواطنين و عوضا عنها حذقت في توزيع الفقر بسخاء وبعدل ومساواة، وبرعت في زرع الخوف والترهيب في نفوس الآمنين، بحيث تحول تخويف الشعوب إلى عقيدة و الترهيب المادي والمعنوي إلى منهاج حياة لا يمكن لأي نظام يسعى لتأبيد نفسه أن يتخلى عنهما ماداما يشكلان الديماغوجيا الرسمية والمفضلة لتكريس واقع جامد ومجتمع محنط يتوزعه الهلع والرعب، ويتحرك في سياق غير طبيعي ومرضي يستشري فيه خوف كامن وغير منطقي عنوانه فوبيا الجماهير الشعبية من الحاكم ويأسها من التغيير أو الثورة، وبالتالي استسلامها ورضوخها لواقعها المرضي الذي هو في الأصل واقع مفروض و مصطنع هو المجتمع ذاته راض عنه لقناعته المرضية بأن كل شروط التغيير منعدمة، أو لم يعد لديه أي اهتمام بواقعه مادامت الآلة الجهنمية للحاكم من خلال إرهابها المنظم وخدامها الأوفياء من الانتهازيين والوصوليين هم الكل في الكل... لكن السؤال الذي يبقى مطروحا وملحا وهو لماذا تخاف الشعوب ويتموقع المجتمع على نفسه عوض المطالبة بحقوقه وهو يعيش تجويعا وتفقيرا منظما، وهو يرى أحلامه تسرق و إرادته تغتصب! وأيضا كيف يموت المجتمع ويتوقف نبضه وتبرد حرارته وبالتالي يعلن شهادة استسلامه للفناء! لكن في المقابل ماذا عندما يتحرر المجتمع من عقدة الخوف ومن فوبياه الشديدة ويبرهن على وعي متقدم وأن ينظم نفسه ليخوض غمار المطالبة بالتغيير عن طريق الاحتجاج السلمي، خاصة وأن موجات من الاحتجاجات الشعبية عبر العالم قد استطاعت الإطاحة بكثير من الأنظمة والحكومات انطلاقا من أوكرانيا إلى جورجيا إلى قيرغيزيا إلى تونس وأصبحت بالتالي الأنموذج الأمثل الذي يستلهم الكثير من الحالمين بالتغيير عبر العالم وينعش الآمال في صدور الكثير من المتشائمين الذي يئسوا من إمكانية تحقيق التغيير وانسحبوا في صمت مريب من الواقع، وهكذا يتبدى لنا أن الخوف كما هو كامن وغير منطقي فإن الشجاعة هي ذاتها كامنة وغير منطقية وأن الأمور لا تحتاج إلا لمن يعرف كيف يستنفرها، وهذا ما بدا واضحا وجليا في ثورة الياسمين بتونس فمن صورة مجتمع مستسلم ومنبطح وراض بواقعه البئيس انقلبت الصورة رأسا على عقب إلى مجتمع مقدام وجسور لا يهاب الموت أو يبالي بالحياة، وهنا أعود للتأكيد على أن مسألة الكمون هي جزء من وعي شقي وإرادة مقموعة ظلت لزمن طويل تتأجج وتشتعل وتتوقد وأنها كانت فقط تنتظر الشرارة الأولى لتنفجر دفعة واحدة ، فالمجتمع نفسه يقوم بعملية كبت نوازعه وقمع رغباته لكن لابد له من وسيلة لتصريف هذا المخزون الفائض من الغضب، وهذا الكم الهائل من الاحتقان، وأنه ينتظر فقط الفرصة المواتية لإسماع كلمته وإيصال رسائله، هذه الرسائل التي طالما تجاهلها الحاكم وألقى بها عرض الحائط بل ومزقها دون أن يلقي إليها ولو نظرة عابرة، بل و ستصبح قراءة هذه الرسائل من لدن الحاكم المستبد في اللحظات الأخيرة غير ذات قيمة كما في الحالة التونسية لأن الشعب أصبح على قناعة تامة بأن عصر المناورات والحلول الترقيعية التي التجأ إليها نظام بن علي لإسكات صوت الشارع قد ولى و أن الشعب لم تعد تنطلي عليه الحيل التي طالما لعبها النظام البائد طيلة ثلاثة وعشرين سنة بل ومنذ استقلال تونس، وأنه قد عزم على انتزاع حقوقه المغتصبة كاملة بشجاعة نادرة وبطريقة حضارية و مسؤولة عنوانها الاحتجاج السلمي وبشعارات مطلبية معقولة ترتكز على الحرية والكرامة والشغل، بل وأن يخرج الشعب التونسي بكافة شرائحه الاجتماعية للمطالبة بحقوقه المهدورة، ويزداد الاستغراب بانضمام الشرطة للثورة الشعبية ومباركتها لثورة الشعب العفوية الذي تيقن أنه لا سبيل له لكي ينتزع حقوقه لابد له من تنظيم نفسه وترصيص صفوفه حتى يشكل عامل قوة من شأنها أن تحرره من عقدة الخوف وبالتالي تحرك في دواخله كل أشكال النضال ضد الظلم والاستبداد.... [email protected]