الحكومة تُشعل النار بين العُدول والموثّقين العصريين (Notaires).. وها هي قد نجحت في تعميق الخلافات بين المهنتيْن.. وإشكالٌ قانوني يقفزُ إلى الواجهة، ويتمثلُ في تنافي الجمع بين صفة العدل وصفة الموثق العصري (Notaire).. الإشكالُ قد بدأ إثر تصريح فئة من العدول أنها اتفقت مع وزارة العدل على تمكين العدول من صفة الموثق، أي السماح لكل عدل بوضع لوحته الإشهارية بباب مكتبه، وفيها التعبير التالي: عدل موثّق (أي Notaire).. إن ما تفعله الحكومة بالمهنتيْن، يُحدث تغليطا على حساب حقوق المواطنين والأمن التعاقُدي.. فالخلطُ بين المهنتين يُحدث بلبلةً في الأذهان، بحيث يكون الضحية في البداية والنهاية هو المواطنُ الذي اعتاد التفريق بين دور العدول ودور الموثق العصري (Notaire).. الحكومة خلطت الأوراق، وتعملُ على تضليل المواطن الذي سيجد في باب العدول لوحة مكتوبا عليها: عدلٌ موثّق (Notaire).. عندها لن يعرف المواطن، الذي على الحكومة أن تحميه، إن كان داخلا عند الموثق العصري ( أي Notaire) أم عند مكتب العدول.. فالناس يلجأون إلى مكتب العدول من أجل إشهاد عدليْن اثنيْن في قضايا الأحوال الشخصية كالإرث، وقضايا الأسرة من تزويج وتطليق، والبيع والشراء وغيرهما.. وعلى هذه الوثائق المنجزة من طرف العدليْن، يصادق قاضي محكمة التوثيق في إطار المراقبة القضائية التي تُعطي نوعا من الطمأنينة للمتعاقدين.. كما يلجأون إلى الموثق العصري ( أي Notaire) لتحرير العقود العقارية وعقود الشركات والأصول التجارية وغيرها، مع إلزام الموثق بإتمام إجراءات التحفيظ والضريبة وتصفية الملف العقاري أو التجاري وغيرهما، وفق مسطرة مضبوطة معتادة، باعتبارهم يعلمون مدى كفاءة الموثق، ويستمدُّها من تكوينه الأكاديمي القانوني، ومن التداريب المعمّقة التي تصل أحيانا إلى عشر سنوات، لتحقيق الأمن التعاقُدي، وحرصًا على حقوق المواطنين.. بينما العدول حاصلون على شهادة من كُليات الشريعة أو اللغة العربية أو أصول الدين أو الآداب (فرع الدراسات الإسلامية).. وطبعا توجد في العدول كفاءاتٌ عالية.. ولا يمكن وضعُ الجميع في مستوى واحد.. والواضح أن الأمر يتعلق بمسلكيْن مختلفين من حيث التوجّهُ والكفاءة ونوعُ التكوين.. وهنا يتضخم التنافي بين المهنتين: العدول والتوثيق العصري.. ومسودةُ مشروع القانون الجديد، كما تقدمه هيأةُ العدول، تُريد العدول مستقلّين عن مراقبة المحكمة.. وهذا يعني أن العدول لن يحتاجوا إلى الدور المعتاد لقاضي التوثيق الذي يطمئن المواطن.. وما دام النقاش القانوني مستمرا، فإن إشكالياتٍ يجب حلُّها قبل المغامرة بقانون يغالط المواطنين بمهنتيْن مختلفتين: مهنة تنبني على اجتهادات فقهية، وأخرى على تعاملات قانونية داخلية وخارجية.. وماذا عن مسألة الشهود؟ فالمعروف أن العدول يعتمدون الشهود.. وعدلان يتلقّيان شهادة يؤشر عليها قاضي التوثيق، ومع ذلك فإن شهادات الزور كثيرة في المحاكم، والترامي على أراضي الغير هي أيضا كثيرة.. ونهبُ أراضي الدولة والغابات مستفحلةٌ متفشّية.. ولنتصور ما سيحدث إذا تحقق التوجهُ الجديد الذي تطالب به هيأةُ العدول، وهو الاقتصار على عدل واحد بدل اثنيْن لتلقّي الشهادات، مع إلغاء الضمانة القضائية المتمثلة في قاضي التوثيق.. مسألةٌ يجب عدم التسرع فيها.. فالكلُّ يعرف أن العقار مجالٌ خصبٌ لفُرص توليد شهود الزور والنصب والاحتيال وانتحال الصفة وخيانة الأمانة وغيرها.. وتساؤلاتٌ أخرى كثيرة بخصوص مهنتين أشعلت الحكومةُ بينهما صراعا ظاهريا وخفيا.. فهل تسعى الحكومةُ لسلم اجتماعي في بلدنا؟ أم هي تجنح إلى إلهاء الناس بصراعات؟ هل تريد بالفعل خيرا للمواطن؟ أم تريد المواطن منشغلا بمشاكل قانونية وغير قانونية؟ مع الالتجاء إلى المحاكم في قضايا اقتناء عقار.. هل فكرت الحكومةُ في القضايا التي ستنجم عن التصوُّرات الجديدة؟ ألا ترى أن ما هي مُقْدمةٌ عليه سيُخرج ملفاتٍ اجتماعية قديمة وجديدة لإثقال كاهل المحاكم؟ وبتعبير آخر: هل تريد الحكومةُ حلَّ مشاكل المواطنين؟ وجلبَ الاستثمارات؟ أم هي تُفضّل إلهاءَ الناس بمشاكل مصطنعة؟ هل فكرت الحكومة فعلا في الأمن التعاقُدي؟ أم فقط في تغليب كفة على أخرى على حساب حقوق المواطنين، بتضليلهم وإرغامهم على أداء ثمن الخطأ الجسيم الذي تنزلق إليه الحكومة؟ أم هي الحكومةُ تخدمُ ببساطة أجندةً انتخابية؟ وهل فكرت نفسُ الحكومة في انعكاس كل ذلك على الاستثمارات الخارجية؟ أم تُراها تجهل أن الاستثمارات الخارجية لا ثقة لها إلا في التوثيق العالمي؟ هل تجهلُ فعلاً أن الموثقين العصرين (Notaires)، بكل ما لهذه المهنة أو عليها، هي عضوٌ في التوثيق العالمي، وأنّ أعضاءَها هم أعضاء في لجنة الأممالمتحدة للتوثيق العالمي؟ فأيةُ نظرة ستكون للاستمثار العالمي بهذا السلوك الذي يُحاولُ الخلطَ بين مهنتيْن، لكلٍّ منهما خصوصيتُها؟ والحكومة، ماذا هي فاعلةٌ إذا عاد الطرفان إلى شوارع الاحتجاجات؟ هل ستعتبر هذه الاحتجاجات مُجردَ مُمارسةٍ لحقّ دستوري؟ أم حاملةً لخطابات دستورية، منها حقُّ الملكية؟ وماذا هي قائلةٌ إذا سمعت من الشارع أن ما تُخططُ له سيجعل الناسَ لا يُفرقون بين العدول والموثقين العصريين (Notaires)؟ ماذا سيكون موقف الحكومة؟ ألن يفسر المتضررون هذا الخلط بأنه نوعٌ من التضليل، وبالتالي لونٌ من ألوان النصب والاحتيال وانتحال الصفة؟ وفي النهاية، من المستفيدُ من كل هذا الخلط؟ لا نعرف المستفيد.. نعرف المتضرر.. وهو المواطن.. فهل حكومتُنا تفكّر في المواطن؟ [email protected]