المتتبع لمسار مشروع قانون رقم 32.09 يتعلق بتنظيم مهنة التوثيق يستنبط أن هذا المشروع قانوني ليس مشروعا عاديا بل يسعى إلى تنظيم ثاني أقدم مهنة في البشرية، ذلك أن الله سبحانه وتعالى أكد في المصحف الكريم على كتابة عقود القروض عندما قال سبحانه «يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه، وليكتب بينكم كاتب بالعدل..» صدق الله العظيم. كما أن أهميته كذلك تكفي في أن هذا المشروع يسعى إلى سد ثغرة قانونية تتمثل في أنه ينسخ مقتضيات الظهير الشريف الصادر في 10 شوال 1343 الموافق ل 4 ماي 1925 المتعلق بتنظيم التوثيق باستثناء الفصل 39 فيما يتعلق منه بتنظيم صندوق التأمين للموثقين وتمويله. وتتمثل هذه الثغرة في أن هذا القانون يشترط في المترشح لمهنة التوثيق أن يكون فرنسيا؛ الشيء الذي يدفعنا إلى التساؤل متى تم تعديل هذا القانون ليسمح للمغاربة بممارسة هذه المهنة، والكل يعلم أن نسخ المقتضيات القانونية يأتي إما بنص صريح أو ضمني. فيكون صريحا عندما سيعمل المشرع مصطلح النسخ أو الإلغاء ، ويكون ضمنيا عندما يأتي المشرع بنص ينظم نفس الغرض ويضم مقتضيات يفهم منها أنه ألغى المقتضيات القانونية الجاري بها العمل؛ وهو الشيء الذي لم يحصل ولا يشفع لبعض المغالين في التأويل كون قانون المغربة والتعريب والتوحيد كفيل بهذه المهمة. لأن ذلك يتعلق بوظائف قضائية وإدارية وليس مهنا حرة. وبالتالي فإن ممارسة مهنة التوثيق تتنافى والقيام بهذه الوظائف مما يفيد ضمنيا أنه لا يمكن استعمال القياس لفساد العلة. إن أهم النقط التي أثارت جملة من التدافع وصلت إلى حد التشنج تكمن في النقط التالية: أولا: التعيين ثانيا: التأديب ثالثا: صندوق ضمان الموثقين وسنحاول الوقوف بكثير من الايجاز عند هذه النقط من خلال ثلاث فقرات. الفقرة الأولى: مسطرة تعيين الموثقين: نصت المادة الأولى من المشروع قانون 32.09 يتعلق بتنظيم مهنة التوثيق أن «التوثيق مهنة حرة تمارس وفق الشروط وحسب الاختصاصات المقررة في هذا القانون وفي النصوص الخاصة». يستشف من هذه المادة أن مهنة التوثيق مهنة حرة شأنها في ذلك شأن باقي المهن الحرة كمهنة المحاماة والمفوضين القضائيين والمهندسين الطبوغرافيين الخاصين وغيرهم. وبالتالي انطلاقا من هذه البديهية يتعين أن يكون تعيينهم بنفس الوسيلة أو ما يماثلها انسجاما مع ما تضمنه الفصل الخامس من الدستور بأن جميع المغاربة سواء أمام القانون، ومع ذلك نصت المادة 10 من مشروع قانون على أنه «يعين الموثق ويحدد مقر عمله بقرار للوزير الأول باقتراح من وزير العدل بعد إبداء اللجنة المنصوص عليها في المادة 11 بعده رأيها في الموضوع». وهذا يعني أن التعيين في مهنة التوثيق ليس آليا وإنما لابد من تحقق شروط أهمها التوفر على الشروط الواردة في المادة 3 وما يليها من قبيل شرط السن والمروءة وحسن الأخلاق والمستوى العلمي وعدم الوجود في حالات التنافي وتتألف اللجن المكلفة بابداء الرأي حول التعيين من: وزير العدل بصفته رئيسا أو من يمثله الوزير المكلف بقطاع المالية أو من يمثله الأمين العام للحكومة أو من يمثله الرئيس الأول لمحكمة استئناف أو نائبه الوكيل العام للملك أو نائبه قاضي بالادارة المركزية برتبة مستشار من الدرجة الأولى بصفته مقررا رئيس المجلس الوطني للموثقين أو من ينوب عنه رئيسي مجلسين جهويين ينتدبان من طرف رئيس المجلس الوطني. ان أول ملاحظة يمكن إثارتها بخصوص التعيين أن اللجنة المكلفة بهذه العملة تهيمن عليها الدولة بنسبة 6 أعضاء فيما يمثل المهنة 3 أعضاء، وفي هذا إخلال جلي بمبدأ أن المهنة حرة، يضاف إلى أن التعيين يتم بقرار للوزير الاول وليس بظهير كما كان في ظل ظهير 1925 الساري المفعول. ولا شك أن ممتهني مهنة التوثيق لم يستسيغوا هذا المقتضى على اعتبار أنه من الناحية المعنوية كانوا مرتبطين بجلالة الملك من حيث التعيين ولن يرضوا أن يتم التعيين بمقتضى قرار إداري وليس حتى مرسوم. لكن عمليا قانون 1925 وجد ليطبق على الموثقين الفرنسيين وليس المغاربة ومن ثم فإن جلالة الملك كان يمثل السيادة المغربية من مقابل ما يمثله المقيم العام من حماية، ثم ان الفصل 30 من الدستور يخول للملك حق التعيين في الوظائف المدنية والعسكرية كما أن له أن يفوض لغيره ممارسة هذا الحق. والمقصود بالوظائف المدنية تلك الوظائف المنصوص عليها في قانون الوظيفة العمومية ولا يدخل من ضمنها المهن الحرة. وإلا وجب أن يتم تعيين المحامين والمفوضين القضائيين والعدول وغيرهم بنفس الوسيلة القانونية أي الظهير الشريف وهو طلب يتنافى مع الدستور، ومن تم كان ينبغي تعديل المادة 10 أعلاه، بالتنصيص على أن تعيين الموثق يتم بقرار لوزير العدل باقتراح من رئيس المجلس الوطني للموثقين. الفقرة الثانية: تأديب الموثقين: تنص المادة 65 من مشروع قانون رقم 32.09 السالف الذكر على أنه يخضع الموثقون سواء فيما يخص عملياتهم الحسابية أو الأموال والقيم المودعة لديهم أو التي يتولون حساباتها أو فيما يخص صحة عقودهم وعملياتهم واحترامهم للقانون المنظم للمهنة لمراقبة مزدوجة يتولاها الوكيل العام للملك لدى محكمة الاستئناف أو من ينوب عنه التي يوجد بدائرة نفوذها مكتب الموثق والوزارة المكلفة بالمالية طبقا للنصوص التشريعية والتنظيمية الجاري بها العمل وتتم هذه المراقبة بحضور رئيس المجلس الجهوي للموثقين أو من ينوب عنه. والتساؤل المطروح هل المقصود بالمراقبة الواردة في الفصل أعلاه المراقبة المحاسبية أو المراقبة على الأعمال كيفما كانت؟ ومن تم فإن هناك سلطة تسلسلية على شخص وعمل الموثق. ثم هل اختصاص الوكيل العام للملك يتمثل في مراقبة صحة العقود واحترام القانون المنظم للمهنة أم يتجاوزها إلى المراقبة المالية والمحاسبية، ونفس الأمر ينطبق على وزير الاقتصاد والمالية؟. إن طريقة صياغة المادة 65 توحي بأن لكل من وزير الاقتصاد والمالية والوكيل العام لدى محكمة الاستئناف الصلاحية لتتبع نشاط الموثق على قدم المساواة سواء تعلق الأمر بالجانب القانوني المتمثل في صياغة العقود وغيرها وكذا المراقبة المحاسبية وكيفية تسيير وتدبير الودائع، وهنا تبدو رغبة وزارة العدل في المراقبة اللصيقة لمهنة التوثيق ذلك أنه إذا كان من حق القاضي المكلف بالتوثيق مراقبة العقود التي يحررها العدول عن طريق المخاطبة عليها، فإن هناك مخاطبة عصرية يمثلها الوكيل العام للملك عن طريق اجازة للعقد أو هدفه من أساسه تحت ستار النظام العام. أما بخصوص وزارة الاقتصاد والمالية، فإن مراقبتها تتم عن طريق الإدارة العامة للضرائب. والغريب في الأمر أن المادة 8 من المشروع قانون تعفي مفتشي إدارة الضرائب المكلفون بالتسجيل وكذا قضاة الدرجة الأولى من المبارة لولوج مهنة التوثيق دون غيرهم من أطر وزارة العدل والمالية في الوقت الذي لم تعر أهمية لأطر مديرية أملاك الدولة رغم أنه طبقا للمادة 13 من المرسوم المنظم لاختصاصات وزارة الاقتصاد والمالية يحررون العقود المتعلقة بتسيير أملاك الدولة الخاصة وتدبيرها، والسر بالطبع يكمن في أن المشرع لم يعط هؤلاء حق المراقبة على أعمال الموثقين بينما أولئك يراقبون وبالتالي لابأس من أن يلجوا المهنة من الباب الواسع. لذلك نرى كيف يمكن أن تكون المراقبة شفافة ونزيهة من طرف شخص قد يصبح زميلا محتملا في المهنة!!؟ لذلك نرى أن المراقبة يجب ان تكون من طرف مكتب المجلس الجهوي للموثيقن ويطعن في قراراته أمام المجلس الوطني للموثقين ثم أمام غرفة المشورة بمحكمة الإستئناف التابع لنفوذها الموثق كمرجع نهائي. ويبقى بالطبع من حق الوكيل العام للملك المتابعة إذا ما اقترف الموثق عملا جرميا شأنه في ذلك شأن وكيل الملك تبعا للتكييف الذي سيعطه للفعل المقترف. الفقرة الثالثة: اختصاص صندوق ضمان الموثقين: أحدث صندوق ضمان الموثقين بمقتضى الفصل 39 من ظهير 4 ماي 1925 المتعلق بتنظيم مهنة التوثيق، وكان هذا الصندوق يؤدي التعويضات المحكوم بها من طرف المحاكم لفائدة الأطراف المتضررة من سلوك الموثق غير المشروعة. وحسب منطوق المادة 94 من المشروع قانون 32.09 يتعلق بمهنة التوثيق فإن هذا الصندوق يهدف إلى ضمان أداء المبالغ المحكوم بها لفائدة الأطراف المتضررة في حالة غير الموثق أو نائبه وعدم كفاية المبلغ المؤدى من طرف شركة التأمين للتعويض عن الضرر أو عند انعدام التأمين. ان خطورة هذه الفقرة تكمن في أن الصندوق يحل محل الموثق وكذا شركة التأمين في حالة غير الموثق أو عدم كفاية المبلغ المؤدى من طرف الشركة، أو بمعنى أدق في الحالة التي يكون الموثق غير مؤمن عن بعض التصرفات، كما هوالشأن في حالة الاختلاس وخيانة الأمانة وغيرها من الأفعال المشينة. ولاشك أن الكل يتتبع ماتنقله الصحف بصفة دورية عن الاختلاسات والجرائم التي يرتكبها بعض المندسين في المهنة وهي جرائم في تصاعد مستمر وبمبالغ خيالية والحاصل أنه من خلال موارد الصندوق المتمثلة في الفوائد القانونية المتأتية من الحسابات الخاصة المفتوحة من قبل الموثقين بصندوق الإيداع والتدبير والمساهمات المدفوعة من قبل كل موثق عن كل عقد تسلمه لايمكن بتاتا تغطية التكاليف المتعلقة بتغطية الأحكام والمصاريف القضائية ومما يطرح التساؤل ماتضمنته الفقرة الثانية من المادة 96 من هذا المشروع والتي تنص على أنه «لاتؤدى التعويضات المقررة من طرف المحكمة إلا في حدود المبالغ المتوفرة لدى صندوق ضمان الموثقين، على أن تواصل الإجراءات لاستخلاص ما تبقى». إن هذه الفقرة تكرس قاعدة عدم تنفيذ الأحكام القضائية وعدم حصانتها، فهل نطلب من القاضي أن يحكم في حدود المبالغ المتوفرة لدى صندوق ضمان الموثقين؟ إن مضمون المشروع قانون الذي نحن بصدده يوحي بأن هناك تداخلا في الاختصاصات وكذا تقريبها لدور مؤسسة العدول في المغرب مما يتطلب توحيد الأنظمة المتعلقة بالتوثيق في المغرب ذلك أن كلا من العدل والموثق يبقى موثقا كل حسب اختصاصاه لذا وجب وضع مدونة عامة تنظم المهن القضائية مع رد الاعتبار لمؤسسة العدول حتى تتمكن من التمازج بين مؤسسة التوثيق، ويبقى من حق المواطن اللجوء إلى أي منهما دون توجيه ضمني من المشرع نحو الموثق على حساب العدل، لأن في ذلك خرقا صريحا للدستور.