تأملات في سيرة فتاة في شهادة نشرت مؤخرا تروي سهام مسار حياتها القاسي منذ لحطة ولادتها بدوار يقع نواحي مدينة ميدلت، مرورا بسنواتها المزرية داخل دور الطالبات بنفس المدينة ثم بالحي الجامعي بمدينة مكناس حتى سنتها الأخيرة لنيل شهادة الإجازة في الدراسات العربية ( لتفاصيل أكثر رابط المقال رفقته). وإذا كان المغرب يعرف في الآونة الأخيرة تناسل عدد من الأحداث التي استرعت اهتمام الرأي العام، و حركت نقاشات تتفاوت من حيث درجة أهيمتها وفائدتها وراهنتيها، يبدو من خلال التأمل فيما أنها شهادة صادمة لطالبة جامعية. حيث مظاهر المعاناة الصامتة و العبثية في كثير من الأحيان، بيد أن النقاش حول ظروف تمدرس الفتيات بالعالم القروي والآفاق و المستقبلية المتاحة أمام هذه الفئة المنسية يستحق من الوقت و الجهد أكثر بكثير مما استأثرت به بعض الأحداث التي نجحت مؤخرا لسبب أو لآخر في هز شرائح عريضة من الرأي العام داخل المجتمع المغربي. ونقصد بذلك قضية التنورة. على سبيل التذكير فقط، ففي مغرب القرن 21، لا زال معدل الولوج للتعليم الثانوي لا يتجاوز نسبة 30% في حين لا تتعدى النسبة 12% فيما يخص التعليم الجامعي. هذه الأرقام وإن كانت تعبر بجلاء عن الوضعية المزرية للتعليم وللتنمية البشرية في بلادنا، فإنها تخفي في ثناياها فوارق صارخة بين العالم الحضري والعالم القروي، الذي تبقى نسبة المحظوظين به (أي بالوسط القروي) لتجاوز عتبة الجامعة جد مخجلة خاصة في صفوف الإناث0 طبعا مقارنة هذه النسب مع البلدان الأخرى وحتى مع المجاورة منها كالجزائر وتونس ومصر تسفر عن أرقام صادمة. نعود إلى سهام ذات الواحد والعشرون ربيعا ، فتاة نحيلة الجسم ضامرة العضلات، ولدت وسط أسرة قروية مكونة من تسعة أفراد كان يعولها أب بناء سافر طيلة سنوات إلى أبعد المدن المغربية بحثا عن ورشات البناء لسد الحاجيات الأساسية لأسرته الكبيرة، قبل أن يقعده المرض عن العمل بعد أن جاوز ستينيات العمر، وينزوي داخل مسجد القرية حيث يؤذن للصلاة بين الفينة و الأخرى. أم سهام الأربعينية تعتبر "محظوظة" لكونها لازالت بصحة تسمح لها بالعمل داخل الحقول الفلاحية لمدينة ميدلت مقابل مبالغ هزيلة لا تكفي لسد جوع أفواه أفراد الأسرة الممتدة المكونة من أبنائها الأربعة، بمن فيهم فتاتها التي تعاني من مرض مزمن منذ الطفولة و كذلك خالتي زوجها. إن كان سد الرمق، يتم بالكاد فإن حالات المرض وحاجيات الكسوة في البرد القارس و مواجهة صروف الدهر لا تجد في أغلب الأوقات وسط هذه العائلة البئيسة غير عيون مغرورقة تنظر إلى السماء بحثا عن رحمة الرحمان... هذه الوضعية الاجتماعية القاسية لم تمنع سهام من الحلم و من التدرج في مشوارها الدراسي رغما عن كل العقبات و الحواجز. الفقر المدقع و معارضة الأب و أهالي القرية الذين لا يحلمون لبناتهم إلا بزوج يريحهم من تكاليفهن، و غياب أدنى الشروط اللازمة للتعليم بالوسط القروي ليست أهون ما جابهته سهام من مصاعب. فهناك أيضا البنى الإجتماعية المتكلسة و ضغط العادات و التقاليد البالية التي تنتقص من إنسانية الفتاة بالقرية و تستصغر طموحها وتصادر أحلامها في مصير أفضل من باقي نساء القبيلة، بالإضافة إلى قهر السلطة الأبوية و مخلفات العقلية الذكورية التي ترى في الفتاة جسدا مكانه الفراش و ليس عقلا يستحق مدرجات الجامعة. تبدو الحياة بقرية سهام عصية على التغير، وتقاوم عوامل الزمن و التطور بقوة، وكأنها تعيش في سياق خارج السياق. أم سهام وإن كانت أمية فلم ترضخ لكل هذه المثبطات، إذ حرصت دعما لابنتها التي تفوقت بشكل يثير الإعجاب في دراستها الابتدائية بالقرية، على إرسالها إلى المدينة حيث سيأخذ عذاب البحث عن الشهادة الدراسية صورا وأشكالا جديدة : ظلم الزبونية ووأدها لمبدأ الاستحقاق، حال دون الحصول على سرير بدار الطالبات ليفتح الباب أمام عائلة، من أقارب الأب تملك منزلا بالمدينة ، كي تتخذ من فتاة بريئة عهد إليهم بها حتى تستطيع المواظبة على دروسها بالإعدادية خادمة بالمجان تغسل الأطباق و تكنس الغبار. هذا دون أن نتغافل عن كثافة الترسبات التي لا زالت تعتمل في مخيال ووجدان المجتمع القروي، الذي ينظر لكل فتاة بالقرية، تغادر صوب المدينة للتمدرس، خطرا محتملا على شرف القبيلة المصون: لأن الفتاة بالقرية لا يخرج دورها عن انتظار الزوج المنقذ، الذي لن يفعل أكثر من أخذهها لفراشه بالليل، ولمطبخ عائلته بالنهار. وهكذا بين الضياع طيلة السنة الدراسية بفضاءات المدينة الحاضنة لمقر الجامعة، وبين الكد خلال العطل الصيفية في الحقول القروية المشمسة حيث يعتبر حمل صناديق التفاح على الأكتاف الهزيلة من شروق الشمس إلى غروبها حظا لا تحصل عليه كل البنات بدون الاستسلام لنزوات العمال الذكور ورئيسهم، تنزف الكلمات من فم سهام لترسم صورة قاتمة عن واقع مرير تنجح للأسف أن تغطي عليه " التنورة" بدل أن تعريه الضمائر الحية. في ردها على سؤال حول ما يمكن عمله لتحسين ظروف تمدرس الفتيات بالعالم القروي، لم تطلب سهام أكثر من نقل مدرسي يضمن للتلميذات المبيت وسط أسرهن مراعاة لبعض التقاليد المحلية و توفير تغذية لائقة ومعاملة أكثر إنسانية بالداخليات. شهادة مثل هذه لا تتوقف عند حد التعبير عن معاناة فتاة من القرية فحسب، بل تطرح إشكالات أخرى مرتبطة بأسباب تحجر الثقافة التقليدية التي تفرض على المرأة إعادة إنتاج الدور التقليدي المرسوم لها منذ قرون وتحول دون تمدرسها الذي يعتبر شرطا أساسيا و لا محيد عنه لتحديث وتنمية المجتمعات. في الختام و من فرط التمعن في شهادة الطالبة سهام، يتبادر إلى الذهن سؤال حول السبب في بقاء الأسطورة اليونانية التي تحكي عن معاناة سيزيف حية رغم أن أساطير لا تعد ولا تحصى لمعاناة أكثر عمقا وأكثر بؤسا تعيش بيننا و تئن في صمت. ألم يحن الوقت ليصبح سيزيف أنثى ؟ المقال الكامل باللغة العربية يوجد على الموقع التالي: http://alternatives-rurales.org/wp-content/uploads/HSJeunes/AltRurHSJeunesSihamVersionArabe.pdf المقال الكامل باللغة الفرنسية يوجد على الموقع التالي: http://alternatives-rurales.org/wp-content/uploads/HSJeunes/AltRurHSJeunesSihamPourImp.pdf