حينما خرجت تلك الجموع الشابة الغفيرة في مشهد مؤثر تبكي ملكا لم تعرف غيره كان الأمر أبعد من أن يفسر بسيكولوجية الجماهير ،بل اعترافا بقدرة الملك الراحل على قيادة سفينة المغرب وسط تحديات الايديولوجيات بأقنعتها المختلفة القومية العربية والاشتراكية والدينية والعسكرية الانقلابية في عالم اقليمي ودولي غير مريح ،ورغبة جامحة لاكتشاف عهد جديد بقيادة ملك شاب يدرك جيدا حجم التحديات الاجتماعية والصعوبات الاقتصادية التي تركها عهد والده . صحيح أن مسار حكم الحسن الثاني كان شاقا وطويلا ومكلفا سواء في التعليم والصحة والخدمات الاجتماعية حيث ظلت الأمية تغشى نصف الشعب ،أو الاقتصاد حيث جعلت سياسات البنك الدولي من الثمانينات سنوات عجاف لا تطاق لولا سيقان عويطة ورفاق الزاكي الذين زرعوا الأمل بين أشواك الاحباط وفتحوا أبواب أروبا للحالمين بالهجرة شمالا .لكن الملك الراحل أوصل السفينة في النهاية لبر الآمان وبثقة كبيرة واحترام دولي تجلى في يوم جنازته وذاك الاجماع الدولي حول نعشه ، وفتح بابا لتوافقات سياسية أفضل لأغلب ألوان الطيف السياسي تحت مسمى الاصلاح المتدرج انتهت بتلك النقلة الذكية التي جعلت من اليوسفي وزيرا أول ... لقد كان الملك الراحل يسبق عمره بعقدين أو أزيد ،وكان يملك رؤية بعدية للأحداث ويضع حلولا مستقبلية لكل الاحتمالات الممكنة فاتحا نوافذ تبدو جد مستعصية، حتى أنه اقترح حل الدولتين للقضية الفلسطينية منذ الستينات وبشروط افضل وأوسع مما هو مطروح الان على الطاولة ،ويروي محمد حسنين هيكل في إحدى مقالاته عن الحسن أن الملك الراحل استشعر تحول ميزان القوى لصالح الولاياتالمتحدةالأمريكية مبكرا وهو لا زال في مدغشقر مع والده السلطان محمد بن يوسف ،ما أهله فيما بعد أن يجعل عقل المغرب أمريكيا وقلبه فرنسيا ،وكان طبيعيا كباقي البشر أن يلدغ من أقرب الناس إليه ممن وضع فيهم ثقته ،من سينسى صور حفل استقباله من طرف جون كيندي سنة 1963 وخطبه الأنيقة المسترسلة وقدرته العجيبة على محاورة أعتى الصحافيين ،ويحضرني هنا كمثال جوابه عن سؤال عن أيام حكم الملك الليبي ادريس السنوسي بعد انقلاب القذافي ،كان رده مفحما ودرسا بليغا لمن سيخلفه : الملك ادريس لم يقم بأي شيء ذي قيمة للحفاظ على ملكه .فالأساس في الحكم عنده كان امتلاك استراتيجية طويلة للحكم بأفراحها وأتراحها ومتغيراتها صعودا وهبوطا ،فالملك لا يحكم لمدة محدودة ،بل كتب عليه أن يظل في الحكم الى أن يتوفاه الله،وها هي اليزابيث الثانية تكمل عامها الستين أو يزيد على مملكة انجلترا بنفس الحضور والتألق مع ثلاثة عشر وزيرا أولا ،وواهم من يعتقد أن شيئا يمر دون احترام الأعراف البريطانية غير المكتوبة في علاقة الملكة بالسلط الثلاث ،ولهذا فنجاح ملك في مهمته الطويلة لا يتحدد فقط بيوميات حكمه ،بل بقدرته على انقاص وتخفيف عدد الملفات الشائكة والصعبة التي سيسلمها لولي عهده بعده . نباهته وفطنته لم تخنه حتى آخر يوم في حياته ،وحينما شاع مصطلح اللعبة السياسية بين الصحافيين كترجمة لكلمة le jeu politique لم يتوان في التدخل لإعادة الهيبة للفعل السياسي وتصحيح الترجمة بأننا لا نلعب في السياسة ،فمن هذه التفاصيل الصغيرة يتسرب العبث الاخلاقي للمنظومة السياسية ،ويحكي الرئيس اليمني السابق علي عبد الله صالح الذي كان آخر من التقاه من الحكام العرب وبكثير من الإعجاب أنه ناقشه بعمق في احداث المظاهرات الطلابية العنيفة التي عرفتها شوارع ايران حينها وأبعادها ،الى درجة ان صالح تفاجأ ليلتها بتركيز الحسن الثاني على معرفة بعض جوانب الحراك الشبابي منه بحكم قربه جغرافيا وثقافيا من الذهنية الايرانية ، وكأنه رحمه الله كان يقرأ في كتاب مفتوح لما سيحدث في المستقبل القريب ، فما هي الا عشرية واحدة حتى اجتاح ربيع الشباب دول الشرق والمغرب العربي قبل أن يتحول الى خريف مزمجر ،وإذا كان لنا أن نغامر بتصور وصية للملك الراحل فلن تكون سوى توصيته بالاهتمام بشباب المغرب وامالهم ،والسعي لصنع وحماية طبقة متوسطة تحفظ التوازن المجتمعي وتخفف من الفوارق الاجتماعية الفاقعة الألوان . وبالنسبة لجيلي : جيل نهاية السبعينات ومن اتى بعدهم لم نعرف سوى الوجه الحسن للملك الراحل أب كل المغاربة وفخرهم بين الأمم حكيما ومؤثرا في المسرح الوطني والدولي ،يدعو ولا يستدعى ،يؤثر في الفعل ولا يتأثر برد الفعل ،بل وكانت تبدو لنا تسميات من قبيل سنوات الرصاص مجرد أحداث بعيدة جدا في المكان والتاريخ ،وهل كان ممكنا أحسن مما كان بين الذئاب اليسارية غير المروضة حينها وموضة أطماع العسكر ،حتى أن سنوات حكمه الاخيرة عرفت انفراجا اعلاميا كبيرا وزخما سياسيا محمودا سمح خلالها لتيارات اسلامية بالعمل ،وأنضج في المقابل نخبة سياسية مؤثرة وفاعلة سرعان ما ذابت تحت كراسي المسؤولية وسرعة العهد الجديد الذي فتح المجال بجرأة لنبش اغلب ملفات حقوق الانسان والانتهاكات الجسيمة لسنوات الستينات والسبعينات برئاسة لجنة بنزكري لطي ما يمكن أن يخلق متاعب فيما بعد ،وبادر الى اعفاء أهم رجالات الحسن الثاني يتقدمهم البصري الذي لم يخجل يوما من اظهار أوساخ يديه زمن أم الوزارات ، ما جعل إرث الملك الراحل يتراجع ويتوارى بشدة في السنوات الاولى للعهد الجديد . حقا وكما قال الراحل الحسن الثاني لأحد مستشاريه عندما وصله نشر جريدة يومية حينها تحليلا غير دقيق مرفوقا بصورة سيئة الاخراج اسابيع قبل وفاته :لا بأس اتركوهم بدون تنبيه ، فالتاريخ وحده يصحح نفسه في النهاية ،وها هي الاجيال الجديدة التي لم تعش ايام حكمه تنجذب يوما بعد يوم لتقاسم خطبه واللحظات القوية في حكمه ،ففهم الماضي يساعد كثيرا في عدم تكرار أخطائه نحو الأحسن ويخلق ذاكرة سياسية صلبة للمستقبل .