بعدما رحل الديكتاتور الذي أذاق شعبه كل أنواع القهر والذل هاربا تحت جنح الظلام، يبقى السؤال الأساسي والمركزي هو: كيف يمكن أن يحافظ التونسيون على ثورتهم ويوصلوها إلى بر الأمان؟ فأولى بوادر الالتفاف على هذه الثورة المباركة تمثل في إعلان محمد الغنوشي نفسه مكلفا بالقيام بمهام الرئاسة باعتباره كان وزيرا أولا في حكومة النظام البائد، رغم أن أحدا لم يكلفه بذلك. إن إعلان محمد الغنوشي نفسه مكلفا بمهام الرئاسة جاء حسب رأيه بناء على الفصل 56 من الدستور الذي يسمح للوزير الأول القيام بمهام الرئاسة في حال تعذر على الرئيس القيام بتلك المهام، وذلك إلى حين الإعداد لانتخابات رئاسية في غضون 60 يوما. إلا أن تسارع الأحداث والمظاهرات الشعبية أرغمت محمد الغنوشي التراجع عن هذا الأمر، وهكذا انتقلت مقاليد الأمور إلى رئيس مجلس النواب بناء على الفصل 57 من الدستور ليقوم بمهام الرئاسة وهو الذي كلف محمد الغنوشي هذه المرة بتشكيل ما سمي بحكومة الوحدة الوطنية. من الواضح إذن أن الأمر لا يعدو أن يكون عبارة عن تبادل أدوار بين أركان النظام البائد، حتى وإن تم تطعيم هذه الحكومة ببعض الوزراء المحسوبين على المعارضة من قبيل أولئك الوزراء التابعين للإتحاد العام التونسي للشغل وحزب التكتل الديمقراطي. إن محاولات الالتفاف على الثورة بادية للعيان فالحكومة التي تم الإعلان عنها أبقت على ستة من وزراء من الحكومة السابقة على رأسهم وزيرا الداخلية والخارجية، وهي كما يعلم الجميع وزارات سيادية ومعروف أهميتها في كل دول العالم. لذلك نتسائل: من أعطى الحق لمحمد الغنوشي بتشكيل الحكومة ؟ ومن أعطى له الحق في تحديد المشاركين فيها ؟ ولماذا تم استثناء المعارضين الحقيقيين لنظام بن علي من إسلاميين ويساريين من الحكومة ؟ ثم أية انتخابات هاته التي يشرف عليها أجهزة النظام السابق والمتمثلة في الوزراء الذين كانوا في حكومة بن علي ؟ ثم إن الدستور في فصله 56 والذي ينصص على أن الوزير الأول يتولى مهام الرئاسة في حال تعذر قيام الرئيس بمهامه، يتحدث عن الظروف العادية التي يتعذر على الرئيس فيها القيان بمهامه من قبيل المرض أو ما شابه ذلك، لكن الأمر هنا مختلف، فالأمر يتعلق هنا بثورة ضد النظام ككل، أي النظام بكل رموزه القديمة سواء تعلق الأمر بالأشخاص، أو السياسات التي كانت متبعة آنذاك، أو الدستور والقوانين التي بواسطتها جثم هذا الدكتاتور على صدور التونسيين لما يزيد على عقدين من الزمن، وكان يرغب في المزيد لولا أن قام الشعب بخلعه. لذلك، فالاحتكام إلى الدستور لإدارة مرحلة ما بعد الثورة هو ضرب من الجنون. ثم كيف لنا أن نحتكم إلى دستور فصل على مقاس بن علي إذا كنا نريد فعلا القطع من المرحلة السابقة؟ إن الوضع الصحيح والطبيعي هو أن تسلم مقاليد الأمور في البلاد إلى المعارضين الحقيقيين الذين هجروا وقضوا زهرة شبابهم مطاردين في المنافي والى أولئك الذين أذاقهم النظام البائد الويلات على مدى 23 من حكمه. وأن يصار إلى تأسيس جمعية وطنية تتمثل فيها جميع الأطياف السياسية في تونس وبخاصة المعارضة الحقيقية التي يعرفها الشعب التونسي جيدا، تتوافق على رئيس وزراء جديد وقادر على التأسيس لمرحلة جديدة في تاريخ تونس تقطع مع كل الممارسات التي طبعت نظام بن علي الإجرامي. إن معظم وزراء ما سمي بحكومة الوحدة الوطنية هم من بقايا النظام البائد ولا يمكن لهم بطبيعة الأشياء أن يغيروا من معتقداتهم وأفكارهم- إن كانت لديهم معتقدات وأفكار- ليصبحوا ثوريين بين عشية وضحاها، فهؤلاء تربوا في حضن النظام التونسي وتتلمذوا علي يدي الحزب الحاكم وبالتالي هم غير مؤهلين لتنفيذ والسهر على المطالب المشروعة التي على أساسها قامت الثورة التونسية. إن هؤلاء الوزراء هم غير قادرين على التحضير لانتخابات رئاسية حرة وديمقراطية تقطع مع أساليب التزوير التي انتهجها الحزب الحاكم سابقا. فهؤلاء تفننوا في التزوير الذي بدونه ما كان الرئيس التونسي لينجح في الانتخابات بمعدل 99.99 في المائة، رغم كل هذا الكره الذي أبان عنه الشعب التونسي للرئيس بن علي. إن قول الوزير الأول محمد الغنوشي بأنه كان على عهد بن علي مهتما بالشؤون الاقتصادية ولم يكن على علم بما كان يقوم به الرئيس تجاه الشعب التونسي لهو ضحك على الذقون لا أقل ولا أكثر. فكيف يمكن لوزير أن لا يكون على علم بما يدور في البلاد بينما كان هو ركن أساسي من أركان النظام التونسي البائد. ثم إن الشعب التونسي يتهمه بتفويت القطاع العام إلى زوجة الرئيس وعائلتها التي اغتنت على حساب الشعب التونسي. من ثم فانه بالأحرى، يجب تقديمه للمحاكمة بدل تركه يشكل الحكومة التونسية التي من المفروض أن تؤسس لمرحلة جديدة تنبني على أساس الديمقراطية والحرية لجميع التونسيين على اختلاف مذاهبهم السياسية والفكرية. يضاف إلى ذلك أن السيد محمد الغنوشي اعترف في تصريح أدلى به لقناة فرانس 24 بأنه اتصل بالرئيس المخلوع وأطلعه على الأوضاع في تونس وكأن الرئيس بن علي ما يزال على هرم السلطة في تونس. إن الغنوشي وأمثاله جزء من النظام السابق ويجب أن يقدموا إلى المحاكمة، فهم مسئولون أيضا على الجرائم التي ارتكبت في حق الشعب لتونسي إن بشكل أو بأخر. إن هذه كلها إشارات تدلل مرة أخرى على إمكانية ضياع الفرصة كما ضاعت فرص أخرى سابقة على اثر الاستقلال مثلا ليس في تونس فقط وإنما في جميع الأقطار العربية آنذاك، حيث أن الحركات الوطنية التي قدمت الغالي والنفيس من اجل استقلال أوطانها منحت هذا الاستقلال على طبق من فضة للحكام الذين استبدوا وتجبروا في بعض الأحيان أكثر حتى مما فعل المستعمر. فالحركات الوطنية في معظم الدول العربية لم تضع الأسس اللازمة للأنظمة السياسية الجديدة التي ناضلت الشعوب من أجل تحقيقها والتي كان من المفروض أن تدير تلك البلدان في المرحلة اللاحقة لخروج المستعمر. لذلك، فوتت الشعوب العربية على نفسها فرصة ثمينة للعيش بحرية وكرامة على غرار باقي شعوب العالم، فحكامها الجدد حكموا بالحديد والنار وباعوا الأوطان بمن فيها ومن عليها لنفس الغرب الذي حاربته الحركات الوطنية بالأمس. من أجل هذا كله، نرجو من الشعب التونسي أن يكون متيقظا للمؤامرات التي تحاك ضده سواء في الداخل أو الخارج، وأن يصار إلى تكوين حكومة وحدة وطنية تتألف من المعارضين الحقيقيين لعهد بن علي وتؤسس لمرحلة جديدة قوامها الديمقراطية والحرية للجميع. إن التحاق بعض أولئك المحسوبين على المعارضة بالحكومة لا يمكن أن يغير من الأمر شيئا، فتلك الأحزاب التي هادنت النظام التونسي لما يزيد على العقدين من الزمن لا يمكن في أي حال من الأحوال أن تحسب على المعارضة الحقيقية التي عانت من السجون والمنافي على زمن حكم الرئيس بن علي، وهذه المعارضة يعرفها الشعب التونسي جيدا ولا يحتاج لمن يعرفه بها. إن هرولة هذه الأحزاب إلى تشكيل ما سمي بحكومة الوحدة الوطنية جاء في الواقع بهدف قطع الطريق على الإسلاميين الممثلين في حركة النهضة التي عانت الأمرين على عهد الرئيس بن على والتي من الواضح أن عليها فيتو من بعض الأحزاب التونسية وكذا الغرب الذي ترتعد فرائسه الآن مخافة وصول الإسلاميين إلى السلطة. لذلك، ليس من المستبعد أن تعمل التدخلات الخارجية وبخاصة من قبل فرنسا والولايات المتحدة والغرب عموما للحؤول دون وصول الإسلاميين إلى السلطة. وما استقالة الوزراء التابعين لنقابة الاتحاد العام التونسي للشغل وحزب التكتل الديموقراطي من حكومة الغنوشي إلا نتيجة للمظاهرات الشعبية التي طالبت بكل وضوح بضرورة حل الحزب الحاكم والتي لم تنطل عليها حيلة محمد الغنوشي بضرورة تشكيل الحكومة بأسرع ما يمكن بهدف وقف أعمال العنف وتوفير الأمن للمواطنين. إن محاولات الالتفاف هاته تضرب في العمق أمال وأحلام الشعب التونسي في نظام حر وديمقراطي يعمل على خدمة مصالحه بدل خدمة الغرب كما هو الحال بالنسبة لمعظم البلدان العربية. يبدو إذن أن مخاطر الالتفاف على الثورة الشعبية للتونسيين كبيرة، وبخاصة إذا ما أخذنا بعين الاعتبار تردد أو تأخر المعارضة الحقيقية الممثلة في الإسلاميين واليساريين المبادرة إلى أخذ زمام المبادرة وكأنهم لم يستفيقوا بعد من هول المفاجأة التي أحدثها الشعب التونسي ليس بالنسبة للعالم فحسب ولكن حتى للمعارضة التونسية التي من المفروض أنها كانت تتابع باستمرار الأوضاع في تونس سواء على المستوى السياسي أو الاجتماعي. إن تخلف هذه المعارضة عن الإمساك بزمام المبادرة هو الذي فسح المجال أمام بعض الشخصيات المحسوبة على المعارضة وبقايا النظام السابق للإسراع بتشكيل الحكومة في محاولة منهم لسرقة ثورة الشعب مرة أخرى، كما حصل في الماضي القريب مع معظم الشعوب العربية التي كافحت من اجل نيل استقلالها.