2/2 كان النبي صلى الله عليه وسلم هاشميا، من أشرف العشائر القرشية، فكان بإمكانه أن يتزوج بكرا جميلة حسيبة نسيبة، لكنه كان إنسانا كاملا في عقله قبل نزول الوحي وبعده، يبحث عن المرأة العاقلة الحصيفة لا عن المتعة الجنسية، لذلك تزوج خديجة بنت خويلد الأكبر منه سنا، والأرملة بعد زوجين اثنين ماتا، وبإلحاح منها لا بطلب منه. عاش النبي خمسة وعشرين عاما مع خديجة رضي الله عنها، ولم يتخذ جارية أو سرية طوال حياتها، ولم يتزوج غيرها، رغم أنها تقدمت في السن وبلغت الخامسة والستين عند وفاتها. بعد موت أم أولاد النبي عليه السلام، كان عمره خمسين سنة، وكان بإمكانه أن يتزوج أجمل وأصغر بنات أصحابه، لكنه تزوج مولاتنا سودة بنت زمعة الأرملة العانس الناقصة من حيث الجمال، وترك سيدتنا عائشة الفتاة البكر. ظل متزوجا بسودة أكثر من ثلاثة أعوام، وبعد الهجرة، أراد أن يكافئ صاحبيه أبا بكر وعمر رضي الله عنهما على بلائهما الحسن، فتزوج السيدة عائشة البكر والسيدة حفصة الأرملة من غير عشق لهما ولا رغبة جنسية فيهما، فهو صلى الله عليه وسلم تجاوز الثالثة والخمسين عند الزواج بهما. ثم بعد حفصة رضي الله عنها، لم يتزوج الحبيب أي امرأة إلا لغرض تشريعي أو هدف سياسي اجتماعي. فتزوج مولاتنا زينب بنت جحش بأمر من الله حتى يبطل التبني ويرفع التخوف من الزواج بمطلقات وأرامل الأبناء بالتبني، حيث كانت زينب زوجة لزيد بن حارثة الذي تبناه الرسول قبل إكرامه بالنبوة فكان يدعى زيد بن محمد. وكان العرب يحرمون زوجة المتبنى وبناته، فكان لا بد من مثال مشهور بين الناس لإبطال هذا المعتقد، ولم يكن أفضل ولا أنسب من البدء بالرسول القدوة وابنه زيد بالتبني وزوجه زينب حتى يكون التنفيذ مدويا بين المسلمين. فشاء الله أن يحدث الشقاق بين زيد وزينب انتهى بالطلاق، فأنزل الله أمره لنبيه بالزواج من زينب ونسبة زيد إلى أبيه الحق. وقد وثق الله هذا الزواج النبوي في سورة الأحزاب فقال: (وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ) أي أن النبي كان يوصي زيد بن حارثة بالصبر على سوء خلق زينب التي لم تعد تطيقه، ثم قال: (وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَاهُ)، أي أن الله كان أوحى إلى نبيه أن يستعد نفسيا للزواج بزينب بعد أن يطلقها زيد، لكن النبي كان يخشى من قالة الناس وشائعاتهم واستقباحهم الزواج بمطلقة المتبنى، فكان عليه السلام يتردد فيما أوحاه الله إليه ويتمنى من الله أن يبطل إرادته ومشيئته، قال سبحانه: (فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِّنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا)، أي لما طلقها زيد لاستحالة العشرة بينهما، وانقضت عدتها، فرض الله عليك الزواج بها رغم تبرمك وتخوفك، ثم قال: (لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولاً)، لكي لا يتحرج المسلم من الزواج بأرملة أو مطلقة المتبنى، ثم قال تعالى: (مَّا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُ سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلُ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَّقْدُورًا، الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلاَّ اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا)، أكد الله هنا أن الزواج بزينب فرض إلهي على نبيه للحكمة المتقدمة ولأنه كما قال بعد: (مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ وَلَكِن رَّسُولَ اللَّهِ وَخَاتم النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا)، أي ليس في الرجال من أبوه سيدنا محمد، والمقصود إبطال بنوة زيد رضي الله عنه. وقد ذكر المفسرون أشياء يستحي المؤمن العاقل من نسبتها إلى رسول الله، فتأكد لدينا أنهم كانوا يصدقون روايات المنافقين والدجالين الوضاعين، وأنهم لم يكونوا أذكياء كما نتصور، بل كانوا مقلدين للسذج من مفسري التابعين الذين انطلت عليهم أكاذيب المرجفين، وهكذا زعموا أن الرسول كان يحب زينب ويعشقها ويخفي ذلك قبل أن يتزوجها زيد وبعد ذلك، ونسوا غفر الله لهم أنها بنت عمته، وكان بإمكانه أن يتزوجها بشطر كلمة قبل أن يتزوجها زيد، ونسوا أيضا أنه هو الذي خطبها لزيد وألح عليها رغم أنها كانت كارهة له. واستشهد عبد الله بن جحش ابن عمة الرسول يوم أحد، فتزوج رسول الله بأرملته زينب بنت خزيمة الهلالية من باب التكافل الاجتماعي، وهي سياسة كان المسلمون يتبعونها بعد الحرب، فيتزوج الرجال أرامل الشهداء لرعايتهن وكفالتهن. وفي السنة الرابعة توفي أبو سلمة رضي الله عنه أخ رسول الله من الرضاعة، وترك زوجه أم سلمة وأولادا يتامى، فتزوجها رسول الله وكفل أبناءها، فكان زواجا اجتماعيا تعبديا. وفي السنة الخامسة، وبعد تحقيق النصر على بني المصطلق، وعوض أن يتخذ جويرية بنت الحارث زعيم القوم جارية بحكم قانون الحرب، خيرها بين الزواج أو الحرية، فاختارت الزواج وبسببها أصدر عفوا عاما عن الأسرى من قومها، فكان الزواج لغرض سياسي ودعوي، فقد أسلم قومها بسببه وصارت بلادهم خاضعة للمسلمين طوعا، ولم تكن أم المؤمنين جويرية بكرا بل ثيبا. وتزوج رسول الله أم حبيبة رملة بنت أبي سفيان في السنة السادسة بعد الهجرة، بعد ارتداد وتنصر زوجها عبيد الله بن جحش ووفاته بالحبشة، وكانت عند زواجها بالمعصوم بنت بضع وثلاثين سنة، فكان زواجه بها اجتماعيا سياسيا، هدفه مواساتها ومكافأتها على ثباتها رغم ارتداد زوجها، ثم التأثير نفسيا على أبيها أبي سفيان قائد وزعيم قريش، وقد أدى ذلك الزواج وظيفته بامتياز، فكان أبو سفيان يميل إلى الصلح مع المسلمين إلى أن ساهم بدور عظيم في إسلام قريش. وتزوج السيدة صفية بنت حيي الإسرائيلية الأرملة من زوجين في السنة السابعة، وكان الغرض تأليف يهود المدينة والتخفيف من حدة حقدهم، وتأكيد مشروعية الزواج بالكتابية اليهودية، فإنها أسلمت بعد العقد بشهور طوعا وقناعة. ثم ترملت السيدة ميمونة بنت الحارث من زوجها أبي رهم، فوهبت نفسها لرسول الله محبة فيه وتبركا، فقبل بحسن خلقه طلبها لكنه أكرمها فتزوجها وأمهرها، وهي المرأة الوحيدة التي وهبت نفسها لرسول الله. وفي السنة السابعة بعث المقوقس ملك الإسكندرية جملة من الهدايا إلى رسول الله، من ضمنها السيدة مارية القبطية وأختها سيرين على عادة الملوك والزعماء قديما، فتزوج رسول الله مارية وأهدى سيرين الأجمل والأصغر لشاعر الإسلام حسان بن ثابت. خلاصات واستنتاجات: أولا: لم يتزوج رسول الله في فترة شبابه إلا امرأة وحيدة هي خديجة رضي الله عنها، وكانت تكبره سنا بخمسة عشر عاما، والشهواني لا يفعل ذلك. ثانيا: لم يتزوج امرأة بعد خديجة باختياره إلا السيدة سودة لترعى بناته، وكان عمره خمسين عاما. ثالثا: كل النساء اللائي تزوجهن بعد سودة كان الزواج بهن لأغراض سياسية أو اجتماعية. رابعا: لم يتزوج بكرا إلا السيدة عائشة، وكان بإمكانه أن يتزوج الأبكار الجميلات. والنتيجة المنطقية أنه لم يكن صاحب شهوة في النساء، ولا ذا قوة خارقة في الجماع، ولا مدفوعا بالغريزة الجنسية إلى التعدد، وإلا فعل ذلك أيام الشباب، وانتقى الصغيرات الحسناوات. وتتأكد هذه النتيجة باستحضار هذه الأمور: أولا: كان النبي يقطع نهاره في الصوم والصلاة بالناس إماما، والنظر في مصالح مجتمعه، ويقضي معظم ليله في القيام والتهجد، والرجل الشهواني لا يغادر أفخاذ أزواجه، وهو ما سبب سقوط ممالك ودول بخلاف الرسول الذي حقق انتصارات ضخمة على جبهات كثيرة في ثمانية أعوام. ثانيا: كان يخرج إلى الغزو بنفسه، فيقود الجيش ويضع الخطط ويخوض غمار الحرب، ولم يكن يأخذ معه إلا امرأة واحدة لتقوم بشئونه، وتساعد نساء أصحابه في سقي المجاهدين ومداواة الجرحى، فلا يقال إن محمدا يحجب نساءه ويغامر بنساء أصحابه، ولو كان شهوانيا لاصطحب معه معظم أزواجه أو بقي معهن في عاصمة الحكم. ثالثا: كثيرات من أزواجه كن قادرات على الإنجاب، لكنه لم ينجب مع أي منهن باستثناء مارية أم إبراهيم، وهذا يعني أنه لم يكن يجامعهن كثيرا ولا صاحب نشاط جنسي. رابعا: وجد النبي نفسه غير قادر على الاستمرار في معاشرة بعض نسائه جنسيا، كسودة بنت زمعة، فبدأ يفكر في تطليقها حتى لا يظلمها بسبب ضعف رغبته الجنسية فيها، لكنها التمست أن يبقيها زوجة على أن تتنازل عن حقها في الفراش. وهذا أقوى برهان على أن طاقته الجنسية كانت عادية كسائر الرجال الأسوياء، وعلى أنها عرفت ضمورا كبيرا قبل موته صلى الله عليه وسلم، ولا عيب في ذلك ولا خلل، بل ذلك نتيجة طبيعية في حق إنسان زاهد عابد وقائد سياسي كبير. وإذا كانت السيرة النبوية سجلت لنا خبر سودة رضي الله عنها، فالقرائن تشير إلى أن علاقته ببعض أزواجه كانت مجردة عن المباشرة الجنسية، فكن يكتفين بأن يسمين أمهات المؤمنين، خاصة وأنهن كن أرامل أشبعن غرائزهن قبل زواجهن بالنبي عليه السلام، وهذا وجه آخر يفسر لنا عدم إنجاب بعضهن رغم قدرتهن بدليل إنجابهن من أزواجهن السابقين. خامسا: صح عن رسول الله أنه كان يقبل نساءه رحمة وحنانا وهو صائم، ويقبل ثم لا يجدد الوضوء فيخرج للصلاة بالناس، وكان أملك الناس لإربه كما قالت أمنا عائشة، ولو سألت أي خبير بالطاقة الجنسية لقال لك إن الرجل الذي يقبل ثم لا تتحرك شهوته قيد أنملة، هو شخص هادئ الشهوة جدا جدا، ومثله لا يمكن أن يكون صاحب فوران جنسي بحال. سادسا: نظرا لتفرغ النبي صلى الله عليه وسلم لبناء دولته ومعالجة مشاكل مجتمعه من جهة، ولاجتهاده في العبادة وزهده في لذائذ الدنيا من جهة ثانية، وبسبب تعدد أزواجه من ناحية ثالثة، فإنه لم يكن قادرا على تلبية مطالبهن النفسية والغريزية رغم حرصه على العدل بينهن، لذلك كله شعرن بنوع من الضرر والضيق، فبدأن يتضجرن ويشتكين إلى درجة عقدهن اجتماعا طارئا معه، فتفهم شكواهن وعذرهن، وحار في الجواب عليهن، فتولى الله جل جلاله الإجابة نيابة عنه في نفس السورة التي تحدثت عن قصة زواجه بزينب بنت جحش مطلقة زيد بن حارثة، فقال سبحانه: ( يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّأَزْوَاجِكَ إِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلاً، وَإِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا). أي أن الله خيرهن بين طلب الطلاق إذا لم يستطعن تحمل الحياة الزوجية مع النبي العابد القائد السياسي العسكري، وبين الصبر والتحمل مقابل الأجر العظيم، فاخترن كلهن الله ورسوله والدار الآخرة، فلم يطلق النبي أيا منهن. والمفسرون يضيقون كلام الله فيزعمون أنهن اشتكين شظف العيش فقط، وتجاهلوا أن المرأة العربية تربت على الجوع والعطش وبساطة الأثاث بفعل البيئة الصحراوية القاحلة، ونسوا أن سائر أصحاب النبي كانوا فقراء أو قريبين من الفقر دون شكوى من أزواجهن، فهل يعقل ويقبل أن تشكو أمهات المؤمنين الفقر دون غيرهن من النساء. إن الأمر أعمق من قلة الطعام والثياب والأثاث، إنه المعاناة من غياب الزوج بفعل مهامه العظيمة نفسيا وجنسيا. ومن تصور هذا الكلام الواقعي المستند إلى القرآن والسنة المتواترة والمنطق التاريخي سوء أدب مع رسول الله أو أمهات المؤمنين، فهو حالم واهم، وبإمكاننا أن نضيف حقيقة مرة على العاطفيين، وهي أن القرآن أشار بصريح العبارة إلى أن في النساء المعاصرات للنبي عليه السلام من كن أتقى وأعبد وأجمل من بعض أمهات المؤمنين، فقال تعالى في سورة التحريم لأمنا عائشة وأمنا حفصة رضي الله عنهما محذرا ومربيا بعد صدور تجاوز منهما: ( إِن تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا، وَإِن تَظاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ، عَسَى رَبُّهُ إِن طَلَّقَكُنَّ أَن يُبدلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِّنكُنَّ مُسْلِمَاتٍ مُّؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَارًا ). ولا كلام بعد التصريح الإلهي الصارم. ولا حجة لغلاة الشيعة في هذه الآية على ما يقولونه في حق أمّينا الطاهرتين من قبائح قد توجب النار، بل الآية حجة على أنهما تابتا وأحسنتا بعد ذلك فغفر الله لهما ورضي رسوله عنهما، بدليل أنه لم يطلقهما بعدما خيرهما الله بين التوبة والطلاق، فاختارتا التوبة وطول الندم فصارتا من الصديقين، وقبل موته صلى الله عليه وسلم استأمن أمنا حفصة على نسخ القرآن ولزم حجرة أمنا عائشة وحجرها حتى مات، فكفى ذلك برهانا على رضاه عنهما، فقبح الله من آذاه فيهما أو هداه من الضلالة. ومن يصر على لومهما لخطئهما الذي تابتا منه، فليلم إخوة يوسف بل وأبوينا آدم وحواء على ما بدر منهم قبل التوبة، فإن فعل فهو مجرم من الطراز الرفيع. النتيجة: انطلاقا من كل ما تقدم، فسنة الرسول الثابتة المتواترة، هي أن رغبته الجنسية كانت عادية كالمألوف عند سائر الرجال أو أضعف، أما الأخبار المناقضة لذلك فروايات آحادية منكرة المتون معلولة الأسانيد، فمعاذ الله أن نترك السنة العملية الثابتة بالقطع، ونصدق أخبارا هدفها تشويه مقام النبوة، أو مصدرها مبالغات الأتباع في شخص المتبوع. وبين أيدينا حديث آخر يصور النبي صلى الله عليه وسلم خلافا لما ثبت بالأدلة والقرائن المتقدمة، فيجعله إنسانا متوحشا جنسيا، فلنذكره وننقضه متنا وسندا. قال سيدنا أنس بن مالك رضي الله عنه: كان النبي صلى الله عليه وسلم يدور على نسائه في الساعة الواحدة من الليل والنهار وهن إحدى عشرة. قال: قلت لأنس: أو كان يطيقه؟ قال: كنا نتحدث أنه أعطي قوة ثلاثين. رواه البخاري تحت عنوان: (باب إذا جامع ثم عاد ومن دار على نسائه في غسل واحد). ورواه مسلم في صحيحه بلفظ: أَنَّ النَّبِىَّ -صلى الله عليه وسلم- كَانَ يَطُوفُ عَلَى نِسَائِهِ بِغُسْلٍ وَاحِدٍ. موقف السادة العلماء من الحديث: صح هذا الكلام إلى سيدنا أنس بن مالك، فاغتر العلماء بصحة السند إليه ولم ينقدوا المتن، بل تلقوه بالقبول المطلق، وجعلوه من خصائص النبي ومعجزاته الدالة على نبوته، ونسوا رحمهم الله أن في الرجال من يستطيع أن يجامع أكثر من عشر نسوة في الليلة الواحدة، وبالتالي لا يكون ما قاله سيدنا أنس معجزة خارقة للعادة، ولا صفة خاصة بالنبي عليه السلام. ونسوا أيضا أن صحة الخبر إلى الصحابي لا تستلزم الثبوت القطعي إلى النبي، لأن الصحابي بشر ينسى ويخطئ فهمه للأحداث. ولم يكلف السادة العلماء أنفسهم طرح هذا السؤال: من أين عرف صحابي أن النبي كان يجامع أزواجه كلهن في ساعة أو ليلة واحدة؟ إن الجماع سلوك مقدس وسر بين الزوج وزوجه، ومثل رسول الله لا يمكن أن يجهر بمباشرة إحدى أزواجه، وأنس بن مالك لم يكن بإمكانه أن يتتبع النبي عليه السلام أو يتجسس عليه حتى يعرف أنه في حال جماع، ولكل زوجة من أزواج النبي حجرتها الخاصة بها يدخل عليها ويخرج دون أن يعرف أحد ماذا دار فيها، والنبي لم يكن سفيها حتى يخبر أنسا أو غيره بأنه باشر أزواجه. إن الذي يستطيع أن يعرف أسرار النبي الزوجية والدقيقة كالجماع هن أزواجه رضي الله عنهن، فأنس بن مالك سمع شيئا من إحدى أمهات المؤمنين حتما، ففهم كلامها فهما محرفا لحياء أو عدم تركيز، ثم صار يحدث بما فهم لا بما سمع، أو أنه سمع الخبر على الصواب من إحدى أمهاتنا، ثم طال به الأمد فنسي وأخطأ. وقد وجدنا أم المؤمنين عائشة تروي القصة على الوجه المقبول شرعا وعقلا، فتأكدنا أن سيدنا أنسا سمع الخبر منها، وأنه لم يفهم كلامها أو نسي واختلط الأمر عليه فحرف الخبر على وجه النسيان وخيانة الذاكرة. قَالَتْ عَائِشَةُ رضي الله عنها لعروة بن الزبير: «يَا ابْنَ أُخْتِي، كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يُفَضِّلُ بَعْضَنَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْقَسْمِ، مِنْ مُكْثِهِ عِنْدَنَا، وَكَانَ قَلَّ يَوْمٌ إِلَّا وَهُوَ يَطُوفُ عَلَيْنَا جَمِيعًا، فَيَدْنُو مِنْ كُلِّ امْرَأَةٍ مِنْ غَيْرِ مَسِيسٍ، حَتَّى يَبْلُغَ إِلَى الَّتِي هُوَ يَوْمُهَا فَيَبِيتَ عِنْدَهَا» وَلَقَدْ قَالَتْ سَوْدَةُ بِنْتُ زَمْعَةَ: حِينَ أَسَنَّتْ وَفَرِقَتْ أَنْ يُفَارِقَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، يَوْمِي لِعَائِشَةَ، فَقَبِلَ ذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْهَا. قالت عائشة رضي الله عنها: في ذاك أنزل الله عز وجل فيها وفي أشباهها: { وإن امرأة خافت من بعلها نشوزا } في رواية: مَا كَانَ أَوْ قَلَّ يَوْمٌ إِلَّا وَرَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَطُوفُ عَلَيْنَا جَمِيعًا، فَيُقَبِّلُ وَيَلْمَسُ مَا دُونَ الْوِقَاعِ، فَإِذَا جَاءَ إِلَى الَّتِي هُوَ يَوْمُهَا يَبِيتُ عِنْدَهَا. رواه أحمد في المسند، وأبو داود في السنن، والحاكم في المستدرك، والطبراني في الكبير والأوسط، والدارقطني في السنن، والبيهقي في السنن والمعرفة. وقال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه. ووافقه الذهبي في التلخيص، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود. قلت: هو من صحيح حديث هشام بن عروة عن أبيه لأنه غير منكر المتن، ولأنه من رواية ابن أبي الزناد المدني، فهو مما رواه قبل الاختلاط، وللجزء المتعلق بقصة سودة رضي الله عنها شواهد. فثبت بحديث أم المؤمنين أن النبي كان يطوف على جميع نسائه في الساعة الواحدة من اليوم متفقدا أحوالهن، فيداعب ويقبل من باب الرحمة والحنان، ثم يبيت عند صاحبة النوبة، فإذا جامعها اغتسل، وهذا هو المقبول عقلا والمعروف خلقا، فظن سيدنا أنس أنه كان يطوف عليهن ويجامعهن واحدة تلو أخرى، ثم يغتسل غسلا واحدا. ومن عجائب الأمور أن العلماء لم يستحضروا حديث أم المؤمنين الواضح الصريح عند شرح حديث أنس المحرف، رغم اعترافهم بصحته، فهل هو النسيان أم العمد؟ ثم ظهر لي احتمال ثان: خرج أحمد والبخاري ومسلم وغيرهم من طرق عن أَنَسٍ بن مالك قال: شَهِدْتُ وَلِيمَةَ زَيْنَبَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا، فَأُشْبِعَ النَّاسُ خُبْزًا وَلَحْمًا، وَكَانَ يَبْعَثُنِي فَأَدْعُو النَّاسَ، فَلَمَّا فَرَغَ قَامَ وَتَبِعْتُهُ وَتَخَلَّفَ رَجُلَانِ، اسْتَأْنَسَ بِهِمَا الْحَدِيث لَمْ يَخْرُجَا، فَجَعَلَ يَمُرُّ بِنِسَائِهِ فَيُسَلِّمُ عَلَى كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ: سَلَامٌ عَلَيْكُنَّ أَهْلَ الْبَيْتِ كَيْفَ أَنْتُنَّ؟ فَيَقُلْنَ: بِخَيْرٍ يَا رَسُولَ اللهِ، كَيْفَ وَجَدْتَ أَهْلَكَ؟ فَيَقُولُ: بِخَيْرٍ، فَلَمَّا فَرَغَ رَجَعَ فَرَجَعْتُ مَعَهُ، فَلَمَّا بَلَغَ الْبَابَ إِذَا هُوَ بِالرَّجُلَيْنِ اسْتَأْنَسَ بِهِمَا الْحَدِيث، فَلَمَّا رَأَيَاهُ قَدْ رَجَعَ قَامَا فَخَرَجَا، فَوَ اللهِ مَا أَدْرِي أَنَا أَخْبَرْتُهُ أَوْ نَزَلَ عَلَيْهِ الْوَحْيُ بِأَنَّهُمَا قَدْ خَرَجَا فَرَجَعَ وَرَجَعْتُ مَعَهُ، فَلَمَّا وَضَعَ رِجْلَيْهِ فِي أُسْكُفَّةِ الْبَابِ، أَرْخَى الْحِجَابَ بَيْنِي وَبَيْنَهُ، وَأُنْزِلَتْ عَلَيْهِ هَذِهِ الْآيَةُ: {لا تدخلوا بيوت النبي إلا أن يؤذن لكم إلى طعام غير ناظرين إناه} حتى فرغ منها. دلّ هذا الحديث على أن سيدنا أنسا خدم رسول الله ليلة بنائه بأمنا زينب بنت جحش، وأن النبي مر على نسائه تلك الليلة مسلما إلى أن دخل حجرة العروس، والظاهر من الرواية أن أنسا بقي قريبا من النبي يخدمه حتى أحضر له ماء الغسل، فيبدو أن سيدنا أنسا نسي بسبب طول عمره الذي جاوز المئة عام، فصار يتخيل أن النبي جامع نساءه كلهن ليلة بنائه بزينب ثم اغتسل غسلا واحدا. ولدينا قرينة دالة على أن سيدنا أنسا ضعفت ذاكرته آخر حياته فصار ينسى ويضطرب، حيث اضطرب في حديثه موضوع النقاش اضطرابا كثيرا: قال في الرواية المتقدمة: كان النبي صلى الله عليه وسلم يدور على نسائه في الساعة الواحدة من الليل والنهار وهن إحدى عشرة. ثم قال: كنا نتحدث أنه أعطي قوة ثلاثين. وهذه تعني أنه أعطي قوة ثلاثين، فكان يطوف على نسائه الإحدى عشرة أحيانا في ساعة من الليل وأحيانا في ساعة من النهار. وفي رواية عند أبي يعلى في المسند بإسناد صحيح أن رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَدُورُ عَلَى نِسَائِهِ فِي السَّاعَةِ مِنَ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُنَّ إِحْدَى عَشْرَةَ»، قَالَ: قُلْتُ لِأَنَسِ بْنِ مَالِكٍ: فَهَلْ كَانَ يُطِيقُ ذَلِكَ؟ قَالَ: كُنَّا نَتَحَدَّثُ أَنَّهُ أُعْطِي قُوَّةَ أَرْبَعِينَ. وهنا قدر قوة رسول الله بأربعين لا بثلاثين. وفي رواية عند البخاري وغيره: أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ «يَطُوفُ عَلَى نِسَائِهِ، فِي اللَّيْلَةِ الوَاحِدَةِ، وَلَهُ يَوْمَئِذٍ تِسْعُ نِسْوَةٍ» وهنا جعل نساء النبي تسعا لا إحدى عشرة، وأن الطواف عليهن كان يتم في الليلة الواحدة دون النهار. وفي رواية عند ابن أبي شيبة وأحمد والنسائي وأبي يعلى وابن حبان والبيهقي بإسناد صحيح أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طَافَ عَلَى نِسَائِهِ فِي لَيْلَةٍ بِغُسْلٍ وَاحِدٍ. وهذه تعني أن الطواف تم مرة واحدة خلال ليلة ولم يتكرر خلافا لعبارة "كان يطوف" الدالة على التجدد والاستمرار. فثبت أن سيدنا أنسا لم يضبط الخبر، وهذا الاضطراب يقضي برد حديثه وتضعيفه، وقد تكلف العلماء وتمحلوا في محاولة الجمع والتوفيق بين هذه الأوجه من التناقض والاضطراب، لأنهم مهمومون بإثبات صحة كل خبر وارد عند الشيخين، ولأنهم يتهيبون تخطئة صحابي جليل متناسين أنهم حكموا عليه بالخطأ والنسيان في بعض الأحاديث، كحديث قراءة البسملة عند تلاوة الفاتحة في الصلاة. وإذا جاز لهم أن يخطئوه في ذلك، فقرينة الاضطراب حجتنا الشرعية والعقلية على نسيانه هنا. ثم إن حديثه الأخير يؤكد أنه أصيب بنسيانه في شيخوخته، فإنه قال: (فَوَ اللهِ مَا أَدْرِي أَنَا أَخْبَرْتُهُ أَوْ نَزَلَ عَلَيْهِ الْوَحْيُ بِأَنَّهُمَا قَدْ خَرَجَا)، فإذا حصل منه مثل هذا النسيان، حيث لم يعد يدري من أخبر النبي بخروج الرجلين من بيته أهو الوحي أم هو نفسه، كيف لا ينسى بعد ذلك هل اغتسل النبي من جماع زوجة واحدة أم كل نسائه؟ وبالجملة، فحديث أنس مضطرب، ومناقض لحديث السيدة عائشة الأعلم بأسرار زوجها، ومخالف لسنة النبي المتواترة وهي المبيت كل ليلة عند إحدى نسائه من غير جماع غيرها، ومجاف للخلق النبوي الكريم، فالطواف على إحدى عشرة أو تسع أزواج للاستمتاع بجماعهن ليس من أخلاق العظماء فضلا عن الأنبياء، فلا يصح بحال من الأحوال. أما قول أنس رضي الله عنه: (كُنَّا نَتَحَدَّثُ أَنَّهُ أُعْطِي قُوَّةَ ثلاثين أو أَرْبَعِينَ)، فلم يقله رسول الله عن نفسه، ولا يليق به أن يقوله، ولم يصح هذا التقدير عن صحابي غير أنس، فهو يقصد بقوله: "كنا نقول" نفسه لا غير، وهو مبالغة منه رضي الله عنه على عادة غلو التابع في المتبوع والمحب في المحبوب. وقد تقدم أن النبي عليه السلام كان رجلا كسائر الرجال من حيث القوة الجنسية، فلا نقبل ما قاله الصحابي بمزاجه وعاطفته، مع محبتنا واحترامنا لشخصه، وقد أسقط مسلم تلك الزيادة، فلعله استنكرها. نعم، صح مثل ذلك التقدير عن بعض التابعين، أخذوه عن أنس بن مالك بلا شك، ثم إنهم تناقضوا وتنافسوا، فقال بعضهم: إن النبي أعطي قوة ثلاثين، وزعم آخرون أنه أعطي قوة أربعين، وادعى غيرهم أنه منح قوة خمسة وأربعين، فلا حول ولا قوة إلا بالله. وأما ما أخرجه عَبْدُ الرَّزَّاقِ في مصنفه قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ قَالَ: أُخْبِرْتُ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أُعْطِيتُ الْكَفِيت» قِيلَ: وَمَا الْكَفِيتُ؟ قَالَ: «قُوَّةُ ثَلَاثِينَ رَجُلًا فِي الْبُضَاعِ»، وَكَانَ لَهُ تِسْعُ نِسْوَةٍ، وَكَانَ يَطُوفُ عَلَيْهِنَّ جَمِيعًا فِي لَيْلَةٍ". فموضوع على أنس بن مالك، وابن جريج مشهور بالتدليس، وقد أبهم من أخبره عن أنس، ونقسم بالله أن الذي أخبره كذاب دجال يعرفه جيدا لذلك لم يسمّه حتى يبقى للخرافة مجال للتصديق بها ظنا منه أن ذلك يؤكد نبوة المصطفى عليه السلام، فالله يغفر له ولعبد الرزاق. ومن علامات وضعه مخالفته لحديث أنس في الصحيحين، فإنه لم ينسب ذلك التقدير لرسول الله، وما كان ضعيفا سندا وخالف الصحيح سمي منكرا عند العلماء قاطبة. وكل خبر يتضمن خرافة "الكفيت" موضوع مكذوب عند المحدثين، يوردونه في كتب الموضوعات، فلا نطيل بذكرها. وما أخرجه ابن أبي شيبة وأحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجه وغيرهم عن حماد بن سلمة قال: حدثنا عبد الرحمن بن فلان بن أبي رافع عن عمته سلمى عن أبي رافع أن رسول الله صلى الله عليه وسلم طاف على نسائه ذات يوم، فجعل يغتسل عند هذه وعند هذه، قلت: يا رسول الله، لو جعلته غسلا واحدا، قال: "هذا أزكى وأطيب وأطهر وأنظف". قال الحافظ ابن حجر عنه في تلخيص الحبير: هذا الحديث طعن فيه أبو داود فقال: حديث أنس أصح منه. ه وضعفه الحافظ ابن القطان في "بيان الوهم والإيهام" بجهالة عبد الرحمن وعمته سلمى. وقال الحافظ ابن رجب في فتح الباري(1/303): وفي إسناده بعض من لا يعرف حاله. ه وقال شعيب الأرنؤوط في التعليق على المسند: إسناده ضعيف على نكارة في متنه. ه وصححه آخرون من غير تحقيق في حاله سندا ومتنا، وتعسفوا في الجمع بينه وبين حديث أنس الذي ثبت ضعفه. والتحقيق أن حديث أبي رافع ضعيف جدا من جهة السند، منكر من جهة المتن، لأنه يناقض حديث السيدة عائشة والسنة النبوية العملية المتواترة، ويفيد أن أبا رافع كان ينتقل مع النبي من حجرة إلى حجرة، ينتظره حتى يجامع ويغتسل كل مرة، وهذا كذب وتجديف ورب المجرة. أما سنده فمثخن بهذه العلل القادحة: العلة الأولى: حماد بن سلمة إمام كبير، تكلم في حفظه بعض النقاد لأنه تغير في شيخوخته، فكان ينفرد بالمنكرات أحيانا، وحديثه هذا منها لزاما، وقوله: عبد الرحمن بن فلان يعني أنه نسي اسم أب شيخه، فجعل كلمة "فلان" مكانه، وهو أقوى قرينة على تحديثه بالخبر بعد تغير حفظه ونقصان ضبطه، يؤكده اضطرابه في اسم شيخه على ثلاثة أوجه ستأتي. العلة الثانية: عبد الرحمن لا يعرف إلا برواية حماد بن سلمة عنه، وقد ثبت أنه حدث عنه بعد تناقص حفظه لذلك اختلف في اسمه، فكان يسميه عبد الرحمن بن فلان بن أبي رافع حينا، وعبد الرحمن بن أبي رافع حينا، وعبد الرحمن بن عبد الله بن أبي رافع أحيانا كما عند أحمد، والرجل لم يوثقه أحد، وقول ابن معين عنه: "صالح" صيغة تضعيف لا توثيق عند ابن معين، وقد حكم عليه ابن القطان بالجهالة، وفي تقريب التهذيب لابن حجر: عبد الرحمن ابن أبي رافع، ويقال ابن فلان ابن أبي رافع، شيخ لحماد ابن سلمة، مقبول من الرابعة. ه قلت: عبارة "مقبول" تعني عند الحافظ أنه ضعيف يعتبر به، أي يقبل في المتابعات والشواهد، ولم يتابعه أحد في خبره ولا يوجد له شاهد يقويه، بل يوجد ما ينقضه، فحقه أن يوصف بمنكر الحديث. والخلاصة أنه ضعيف جدا، فلا يقبل في المتابعات والشواهد، ولعله أحد الكذابين المجاهيل لذلك لم يرو عنه غير حماد. العلة الثالثة: قال ابن حجر في تقريب التهذيب: سلمى عمة عبد الرحمن ابن أبي رافع مقبولة.ه أي مقبولة في المتابعات والشواهد المعدومة، وهي أفضل حالا من عبد الرحمن، فقد روى عنها غير واحد، وأوردها ابن حبان في ثقاته من غير توثيق صريح، ومنهجه أن يورد فيه كل من روي عنه شيء من العلم ولم يجرحه أحد، لكن حكم عليها ابن القطان بالجهالة. فالحديث ضعيف جدا من جهة السند، منكر من جهة المتن لمناقضته المتواتر والصحيح من فعل رسول الله، ولتضمنه المعاني المستقبحة كعلم أبي رافع بمباشرة رسول الله لنسائه زوجة زوجة. وأما ما أخرجه الطبراني في الأوسط، والدينوري في المجالسة، والإسماعيلي في المعجم، والخطيب في تاريخ بغداد، وابن عساكر في تاريخ دمشق عن مروان بن محمد الأسدي الطاطري قال: حدثنا سعيد بن بشير عن قتادة عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فضلت على الناس بأربع: بالسخاء والشجاعة وكثرة الجماع وشدة البطش. فضعفه ابن الجوزي في العلل المتناهية، والسيوطي في الجامع الصغير، وحكم عليه الذهبي في الميزان بأنه منكر وباطل، وقال عنه الألباني في سلسلته الضعيفة: "باطل"، ولم يصححه أحد من المحدثين، والحق أنه موضوع وهو معنى "الباطل"، فمتنه ينسب إلى رسول الله كثرة الجماع وكثرة القتل في الأعداء، وكلاهما كذب مناقض للقرآن والمتواتر من سيرته، ثم لا فضل في ذلك ولا شرف حتى يفخر به من بعثه الله رحمة للعالمين. ومن حيث السند، فسعيد بن بشير ضعيف عند الجمهور، وقال الحافظ الناقد ابن نمير: سعيد بن بشير منكر الحديث، ليس بشيء، ليس بقوي الحديث، يروي عن قتادة المنكرات. وقال ابن حبان في المجروحين: كان رديئ الحفظ فاحش الخطأ، يروي عن قتادة مالا يتابع عليه، وعن عمرو بن دينار ما ليس يعرف من حديثه، وهو الذي يروي عن هشيم عن أبي عبد الرحمن عن قتادة، يكني عنه ولا يسميه. وقال أبو مسهر: لم يكن في جندنا أحفظ منه، وهو ضعيف منكر الحديث. وقال سعيد بن عبد العزيز: كان حاطب ليل. قلت: تحصل مما تقدم أن الرجل ضعيف جدا، وأنه صاحب مناكير خصوصا عن قتادة، وهذا مما تفرد به عنه، فهو من تلك المنكرات. ويدل كلام ابن حبان على أنه كان مدلسا عن قتادة، فيسقط الواسطة بينهما أحيانا ويخفي هويتها حينا، وهذا مما رواه عنه بالعنعنة، فتحمل على الانقطاع. وقد انفرد بأحاديث منكرة جدا تفوح منها رائحة الوضع، أوردها ابن حبان وابن عدي وغيرهما في ترجمته، وهي دالة على أنه كان يقبل التلقين من الوضاعين، فكانوا يستغلون غفلته وضعف عقله، فيلقنونه المكذوبات ثم يدلسها عن شيوخه كقتادة. ولا نشك أن حديثه هذا من جملة الموضوعات التي مررت عليه، وربما كان يعرف أنها مكذوبة لكن الشره العلمي وحب الظهور يمليان عليه روايتها مدلسة، ومثل هذا السلوك صدر عن كبار الحفاظ الموثقين، فكيف لا يفعله "حاطب ليل" كما قال سعيد بن عبد العزيز. وأما ما روى سلام بن سليمان أبو منذر القارئ وسلام بن أبي خبزة وجعفر بن سليمان الضبعي، عن ثابت ، عن أنس بن مالك، قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم : حبب إلي من الدنيا الطيب والنساء ، وجعل قرة عيني في الصلاة. أخرجه أحمد، وابن سعد، والنسائي، وابن أبي عاصم في الزهد، والحاكم، وابن أبي حاتم في التفسير، والأصبهاني في أخلاق النبي، وصححه الحاكم ووافقه الذهبي، وحسنه ابن حجر وغيره. فالصواب أنه ضعيف منكر، فسلام بن سليمان أبو المنذر هو سلام بن أبي الصهباء عند البخاري وابن عدي وغيرهما، وأخطأ من فرق بينهما، قال عنه البخاري: منكر الحديث. وضعفه العقيلي مع حديثه هذا، وسلام بن أبي خبزة ضعيف أيضا، والظاهر أن الرواة توهموا فجعلوه مكان سلام بن سليمان، وجعفر الضبعي مضعف أيضا. والثلاثة لا يقوي أحدهم الآخر لأنهم خالفوا الإمام الحافظ حماد بن زيد الأزدي المقدم عند بعض النقاد على الإمام مالك بن أنس في الحفظ والعلم. قال الدارقطني في العلل (12/ 40): حدث به سلام بن سليمان أبو المنذر، وسلام بن أبي الصهباء، وجعفر بن سليمان الضبعي، عن ثابت، عن أنس. وخالفهم حماد بن زيد، فرواه عن ثابت مرسلا. وكذلك رواه محمد بن عثمان، عن ثابت البصري مرسلا. والمرسل أشبه بالصواب. ه فثبت أن ثابت البناني البصري التابعي رواه مرسلا، أي أنه لم يسنده إلى أحد من الصحابة، لا إلى أنس ولا إلى غيره، فيكون الساقط كذابا أو مغفلا أو غيرهما من الاحتمالات، ثم جاء هؤلاء الضعفاء فزادوا أنس بن مالك في السند. والعجيب أن العلماء الذين صححوه لم يذكروا قول الدارقطني، ومحال أن يغيب عن جميعهم، فالله يرحمهم ويعفو. هذا، ولو صح عن رسول الله أنه قاله، فمعناه أنه يحب نساءه ويودهن من غير أن يستلزم كثرة الجماع والمباشرة، فسيرته العملية تأبى ذلك، وجملة: "وجعلت قرة عيني في الصلاة" صحيحة ثابتة بأسانيد أخرى، وهي ناقضة لحب كثرة التلذذ بالنساء، وتؤكد زهده واجتهاده في العبادة، فقد كان يقوم الليل نصفه أو أكثر أو أقل، ويؤم المسلمين كل صلاة، فيتعذر عليه أن يستمتع بنسائه جنسيا. صلى الله على رسوله المصطفى، ورحم الأئمة والمحدثين وغفر لهم ما نسبوه إليه وظنوه فضلا وشرفا، وهكذا يفعل الغلو بالمحبين أهل الصفا. -خريج دار الحديث الحسنية [email protected]