إن المتأمل في واقع الوضع في تونس قبل واثناء وبعد الأحداث لا يمكن ان يقف فقط عند القول بأنها رد فعل طبيعي على ديكتاتورية ظالمة. بل يجب جمع جميع المعطيات من أجل تشكيل صورة واضحة تصلح لأن تعطينا دروسا وعبرا يستفيد منها كل فرد في موقعه. لطالما كانت علاقة الحاكم بالمحكوم علاقة جدلية يغلب عليها طابع التأثير والتأثر. أعني هنا هل صحيح انه كما يقال: كما تكونوا يولى عليكم؟ أم أنه على العكس كما يولى علينا نكون؟ من خلال هذا السؤال يمكن قراءة الوضع في تونس. المتابع لمجريات الأحداث هذه الأيام سيلاحظ اختلافا كبيرا في ردات فعل الشعب التونسي، وهذا في نظري ما يستحق التحليل. إذا اعتبرنا ان المدة التي قضاها الشعب التونسي وهو يرزح تحت وطأة نظام صارم أحكم قبضته عليه لمدة 23 سنة، فطبيعي أن نتسائل اليوم عما خلفته هته المدة (وقبلها مدة بورقيبة) على عقلية وثقافة الشعب. ربما سيكون صحيحا أن نعتبر ما نراه في شوارع تونس معبرا عن هته العقلية الجمعية، والتي لا ننسى أنها تبقى رهينة واقع التأثير والتأثر. السياسيون يعلمون جيدا ان علاقتهم بشعبهم يجب أن تحفظ التوازن بين تحقيق أكبر قدر من المصالح الشخصية لهم، و توفير الحاجيات الضرورية للمواطنين من أجل ألا ينتفضوا بعد أن يضيق بهم الأمر درعا. ما حدث في تونس هو أن الحكام أحكموا قبضتهم على محكوميهم جيدا، من خلال خلق شبكة عنكبوتية شمل جميع القطاعات الكبيرة والصغيرة، تضمن لهم عدم المساس بأي من مصالح الأوليكارشيا العظيمة، وذلك بآليات ووسائل فيها ترغيب وترهيب بطرق فنيه أكتر منها مباشرة (هذا ما يسمى بالقوة الناعمة). بعبارة أخرى، لقد أحكموا الخناق على الشعب المستضعف وحتى على حقه في أن يقول أنه مستضعف سواء بالإلهاء أو بالإرهاب. لكن عندما يبلغ السيل الزبى وتصبح هته الآليات مفضوحة لدى المتعطشين لحرية الرأي و المتعطشين للقمة العيش، أنذاك يصل الإنسان إلى الوضع الذي تصبح فيه حياته كموته. وهذا ما حصل حيث فضل محمد البوعزيزي أن يموت محترقا لكي يشعل فتيل النار التي انفجرت في وجه الطاغوت. الجدير بالذكر هنا هو أن هذا الإنسان الذي سبق أن كان مهدور الحق في التعبير ظل صامتا و صابرا على هذا الحرمان، لكن عندما تعدى الأمر إلى إهدار حقه في حياة توفر له ما ياكل ويشرب انذاك كان هذا هو الفارق. الفارق الذي سيجعل الإنسان التونسي الآن مطالبا بان يستعيد حقه في الإثنين معا _حق التعبير وحق العيش الكريم_ لكن هنا يكمن المشكل، كيف يمكن للشخص الذي لم يتعلم في حياته النطق بحقه أن ينطقه الآن بطريقة صحيحة؟. كيف؟ أغلب الشعب لم يرى في حياته سوى الظلم والديكتاتورية ابتداء من من هم أعلى شأنا منه حتى آخر شخص في هرم السلطة، (الأمر ينطبق على معظم الشعوب) فكيف ستنزل عليه الآن لغة الحوار والعقل والتفاهم، والحكمة لكي يحل مشاكله ومشاكل الدولة (الدليل على هذا هو ما رأيته في اليوتيوب من فيديوهات تبين أناسا يتسابقون من أجل الحصول على أكبر قدر من علب الوسكي بعد أن اقتحموا المعمل، وأناس آخرون انتهجوا سياسة الأرض المحروقة ليحرقوا ويدمروا كل شيء أمامهم تعبيرا عن الغضب.. و حتى عن الفرحة). إنها باختصار الحرية المباغثة التي لم يعرفوا استخدامها. إذا لاحظتم أنا لم أقل كل الشعب، بقية الشعب موزعة ومفرقة إلى أصناف كثيرة، منها من بقي خائفا على حياته ففضل البقاء في بيته صابرا وحامدا الله على كل حال، ومنهم من خرج يستطلع الأجواء لكي يجد له موطأ قدم مع فريق قد تكون له الغلبة مطبقا بذلك عقلية القطيع، ومنهم من لم ينجح القمع في تدجينه فحافظ على وعيه، ذلك الوعي الذي ربما لايعرف ما يفعل به، ومنهم من هو قادر من موقعه أن يخلق الحدث ويؤثر في مجريات الأحداث، لكن هو الآخر لا نعرف مدى انتمائه لأي فريق، المدجنين أم المقاومين وفي كلتا الحالتين لا نعرف كيف سيعبر عن هذا الانتماء. هذا التنوع والإختلاف في نوع وكم الإعتقاد والتطبيق هو ما سيحدد مصير تونس. نتمنى ان تكون كمية الواعيين اكبر، و نسبة ترجمته إلى تحركات حكيمة أعلى. هذا ما ستسفر عنه الأيام. وهذا ما أتمنى أن يصل إلى باقي شعوب العالم. أن يعرف كل واحد منا _حكاما ومحكومين في جميع المواقع_ أننا لسنا ببعيد من أحداث تونس. وأننا نحتاج إجراءات استباقية. أولها نشر ثقافة واعية بالسلطة الناعمة _سياسة الإلهاء_ التي تنتهجها الدول، ثم ثقافة تعرفنا بما لنا وما علينا من حقوق وواجبات، ثم إلى ثقافة تخرجنا من سلوكات غريزية لاواعية إلى سلوكاتنا لها طابع استبيان الحكمة من افعالنا وأفعال الناس.