عرف الدَّين العمومي للمغرب، منذ منتصف السنوات 2000، تدهورا مستمرا تحت تأثير وطأة عجز الميزانية. إزاء العجز القياسي المسجل سنة 2012 (-61 مليار درهم أو -7.4٪ من الناتج الداخلي الخام)، وأمام انتقادات صندوق النقد الدولي والتهديدات بتدهور التصنيف الائتماني السيادي، قررت الحكومة خفض العجز بشكل قسري : تجميد الاستثمارات العامة وإلغاء نظام المقاصة الخاص بأسعار المنتجات البترولية. أما العجز، فبعد أن تم تخفيضه إلى - 4.9٪ من الناتج الداخلي الخام سنة 2014، من المتوقع أن يبلغ - 3.5٪ سنة 2016. ورغم هذه الحميَّة في التقشف، لا زال معدل الدَّين العمومي يتدهور، في سياق يتسم بتباطؤ الاستهلاك، وضعف الاستثمار والنمو. إذ تمثل سندات الخزينة اليوم أزيد من ثُلثيْ الثروة الوطنية، في حين أن الدين العمومي (باستثناء احتياجات إعادة رسملة صناديق التقاعد)، الذي يشمل أيضا الضمانات الممنوحة من قبل الدولة على الاقتراضات الخارجية للمؤسسات العمومية، يتجاوز عتبة 80٪. فعجز سياسة التقشف يطرح مشكلة "القدرة على تحمل" الدّين ويكشف عجز دعاة إدارة محاسباتية للاقتصاد. تم تطوير مفهوم "الدين القابل للتحمل" سنة 2010 في أوج أزمة منطقة اليورو، من قبل خبيرين اقتصاديين بارزين من جامعة هارفارد، كارمن راينهارت وكينيث روكوف. فحسب هذين الخبيرين، يعرف النمو الاقتصادي لبلد ما إعاقة كلما تجاوزت نسبة الدين العمومي ال 90٪. وقد تم الطعن في نظريتهما سنة 2013 من قِبل جامعة مساشوسيت التي لاحظت وجود أخطاء في نماذجهما، مجبرة إياهما على إعادة النظر في استنتاجاتهما. وقد أقرا بأن تجاوز نسبة الدين العمومي العتبة المذكورة أعلاه، لا يؤدي بالضرورة إلى الركود ولكن إلى فقدان للنمو بمعدل 1٪. فلتحديد مستوى قدرة تحمل الدين، يتم استخدام عدة طرق رياضية أو تجريبية تعادل من الناحية النظرية الحالة التي يكون فيها مبلغ الدين العمومي مساويا للمبلغ المحيّن لفوائض الميزانيات المقبلة دون احتساب فوائد الدين. بحيث تُقر طريقة رياضية أولى بأن حصة الدين من الناتج الداخلي الخام، ستظل مستقرة إذا كان العجز، تناسبا مع الناتج الداخلي الخام، يطابق حصة الدين إلى الناتج الداخلي الخام مضروبا في معدل نمو الاقتصاد. بينما معادلة رياضية أخرى أكثر تعقيدا، تُدخل متوسط سعر الفائدة للدين والرصيد الأولي (رصيد الميزانية، دون احتساب فائدة الديون). وإذا عادل الرصيد الأولي الصفر، تنخفض نسبة الدين العمومي عندما يكون معدل النمو الاسمي للناتج الداخلي الخام أعلى من متوسط سعر فائدة للدين. أما إذا كان الرصيد الأولي سلبيا ب 3٪ على سبيل المثال، لن ينخفض الدين، تناسبا مع الناتج الداخلي الخام، إلا إذا كان النمو الإسمي للناتج الداخلي الخام أعلى ب 3 نقط من معدل الفائدة الفعلي على الدين. وبما أن الرصيد الأولي لميزانية المغرب سلبي منذ سنة 2010، مما يفاقم معدل الدين العمومي ب 18 نقطة، فإن الفرق بين معدل النمو الإسمي للناتج الداخلي الخام ومعدل الفائدة يفاقم الدين : -1.8٪ في 2014. ذلكم أن الأساليب التجريبية تعتمد على توقعات لدَين عمومي على المدى المتوسط والبعيد، دون أي تغيير لبنية المداخيل والنفقات العمومية، ولكن من خلال صياغة سيناريو لتطور المتغيرات الاقتصادية في كليتها (التقدم التقني، النمو الديموغرافي، ومعدل الفائدة ...). لقد أظهرت إستراتيجية خفض عبء الدين العمومي عن طريقِ التقشف حدودَها. وقد أدرك ذلك كل الاقتصاديين في العالم ، بمن فيهم نجوم هارفارد. وكذلك الأمر بالنسبة لكل الحكومات، في الولاياتالمتحدة، اليابان، بريطانيا، منطقة اليورو وحتى في اليونان، ما عدا في المغرب ربما ! هناك سياسات بديلة ممكنة بالتأكيد. إذ يكمن الحل الأول في تحويل الدين العمومي إلى قيمة نقدية. لقد قامت البنوك المركزية (البنك الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي، بنك إنجلترا، بنك اليابان، بنك كندا والبنك المركزي الأوروبي منذ يناير 2015) بشراء الدين العمومي من المستثمرين، عبر تمويل هذه الاقتناءات من خلال خلق قيم نقدية. فبحفظها سندات الدولة في حصيلتها، مكنت من تجنب أزمات السيولة وتيسير توظيف الإصدارات الأولية للديون السيادية. فبإمكان بنك المغرب شراء جاري سندات الخزينة المسجلة في الحصائل البنكية، لإعادة توجيه عدة عشرات المليارات من الدرهم نحو تمويل المقاولات والأسر. هكذا، ستنخفض أسعار الفائدة على المدى القصير، مما سيحفز الاستثمار، الإنتاج، الدخل والطلب الكلي. إلا أن تحويل الديون إلى قيمة نقدية قد يخلق تضخما مضرا بالفئات الاجتماعية ذات الدخل المحدود كالمتقاعدين أو المدخرين. كما تشكل إعادة هيكلة الديون حلا ثانيا يُمكن دولة ما من إعادة التفاوض حول شروط سداد ديونها بالاتفاق مع دائنيها : تخفيض السعر للتخفيف من قسيمة الفائدة، إعادة جدولة الديون عبر تمديد فترة السداد ومنح فترة سماح، استمهال " هركوت" (haicut) (تطبيق نسبة للتخفيض على مخزون أصل الدين). كما توجد حلول أخرى، لكن غالبا ما يتبين أنها غير فعالة على المدى القصير أو المتوسط : معدل الفائدة الحقيقية سلبي، زيادة الضغط الجبائي من خلال عملية بسيطة للمعدلات الضريبية أو قواعد الوعاء (إعفاءات، خصومات، استثناءات ...) بدون نشاط اقتصادي إضافي، "إعادة تأميم" الدين بالاحتفاظ به حصريا للمستثمرين المحليين ... لا يكمن حل معضلة الدين العمومي بالزيادة في التقشف. بالعكس، ينبغي إعطاء الأفضلية لسياسة اقتصادية إرادية للنمو وسياسة مالية تجمع بين الإصلاحات وبين التحويل إلى قيم نقدية وإعادة الهيكلة. وإلا فإن أي إستراتيجية أخرى ستقود الاقتصاد المغربي للانهيار.