ما قام به وزير الداخلية المغربي محمد حصاد في مواجهته للوزير الأول الجزائري عبدالمالك سلال من دعوة وجهها إليه لزيارة المغرب، ينبغي فهمه على أنه بعيد كل البعد عن المزايدات السياسية. والغرض من دعوة المسؤول المغربي هو الكشف عن زيف الادعاءات وتمكين سيادة الوزير الأول الجزائري من الوقوف على النموذج التنموي الفعلي والحقيقي في الأقاليم الجنوبية للمملكة، حتى يتسنى له أن يجري مقارنة هذه الأقاليم مع ما يحلو له من مدن الجزائر. وهي مدن، كي لا ننسى، تابعة لدولة بترولية غنية بمواردها وفقيرة بشعبها حيث الآلة الحاسبة تتعب في عد الثروة الهائلة من الأوراق الخضراء التي تعرف طريقها إلى خزائن البنوك الأوروبية حيث هناك حسابات سلال وحسابات الرئيس عبدالعزيز وأخوه سعيد بوتفليقة وحسابات القائمين على فضائح "سونطراك" وعلى مشروع الطريق السيار، وغيرهم كثر إلا من أبناء الشعب المقهور. ومن هذا المنبر، ندعو الوزير الجزائري المحترم عبدالمالك سلال أن تتملكه الجرأة وأن يقبل التحدي الذي رفعه في وجهه السيد محمد حصاد بتلبية الدعوة، إن أراد أن تكون له مصداقية أمام شعبه وأمام ضميره إذا كان أصلا يتوفر على ضمير. فالرجل ادعى غير ما مرة أن المغرب يحتل الصحراء ويستغل خيراتها. وفي زعمه أن لا مجال للتعاطي مع هذه الأزمة إلا من خلال مبدإ أريد به باطل وهو مبدأ تصفية هذا الاستعمار. الاتجاه الذي يدفع به المسؤول الجزائري هو أولا تضليل الشعب الجزائري حتى يصرف اهتمامه عن همومه الداخلية وقضاياه المعيشية المتأزمة، وينشغل بأزمة مفتعلة مع المغرب والمغاربة، وثانيا تضليل الرأي العام الدولي باللعب على مبادئ تآكلت وأصبحت متجاوزة بعد أن كانت مبادئ مغرية في فترة موجة تحرير القارة الإفريقية من رقبة الاستعمار الحقيقي الذي كان ينخر القارة السمراء من شمالها إلى جنوبها ومن شرقها إلى غربها. كما أن ذلك الادعاء الذي حاول المسؤول الجزائري أن يجتره وحده في القمة الإفريقية الخامسة والعشرين بجوهانسبورغ، يتنافى كلية مع التاريخ ومع الواقع. 1 على مستوى تاريخ القارة الإفريقية، اجتاحت حركات التحرير مجموع القارة في حقبة الخمسينيات من القرن الماضي . وبرز زعماء تاريخيون، ليسوا كسماسرة اليوم من طينة سلال وأشكاله، وهم من العيار الثقيل أمثال جوليوس نيريري، جومو كينياتا، مودي بوكيتا، ونيلسون مانديلا والقائمة طويلة مع حفظ الألقاب. وكانت موجة التحرير على أشدها ضد الاستعمار الأوروبي الوافد من فرنسا، وانجلترا، واسبانيا ، والبرتغال وهولندا وألمانيا. وهو الاستعمار الأوروبي الذي غزا القارة بتنسيق مسبق وعرف كيف يوزع الكعكعة والموز الإفريقي بين قواه. وكان شعار هؤلاء الزعماء الكبار، الذين نفتقدهم في هذا الزمن الرديء، زمن ضباط الصغار للثكنات العسكرية، وهي "إفريقيا للأفارقة"، وفي ذلك إشارة قوية وواضحة لرفض العنصر الأوروبي الدخيل على القارة الإفريقية. أما المغرب الذي يعتبره النظام الجزائري قوة احتلال، فقد نسي هذا النظام أن المغرب بلد إفريقي وجذوره التاريخية ضاربة في القدم ووصل امتداده الجغرافي إلى حدود نهر السينغال، ووصل في عبقه الروحي إلى مختلف دول جنوب الصحراء والساحل بفضل تواجد زواياه الدينية التي ما زالت ولغاية الآن ترى في سلطان المغرب أميرا للمؤمنين ومرجعا روحيا لها. هذا هو الذي يؤرق النظام الجزائري ولا يريد أن يقبل به كواقع، ويستعيض عن ذلك بعملة بائدة تذكرنا بأهل الكهف لما استيقظوا فوجدوا العالم من حولهم قد تغير إلا هم. هذا هو حال القيادة الجزائرية كما هو حال كلبها. والاستعمار الأوروبي حينما بدأ يتغلغل، وجد المغرب نفسه على خلاف كل الدول الإفريقية في مواجهة ثلاث قوى استعمارية في آن واحد عملا بالمخطط الاستعماري الذي وضعت أسسه في مؤتمر الجزيرة الخضراء عام 1906 حيث كانت المؤامرة أقوى لتوزيع الأراضي المغربية فيما بين تلك القوى، وكان للاستعمار الإسباني نصيبه من احتلال شمال المغرب وصحرائه، وللاستعمار الفرنسي وسط البلاد، وأعطي لمدينة طنجة ما اصطلح عليه بوضع مدينة دولية. وكذلك من الطبيعي أن يكون تحرير المغرب لأجزائه قد تم بشكل تدريجي لأن الاستعمار لم يكن في الأصل استعمارا واحدا حتى يتمكن المغرب من مواجهة جبهة واحدة، بل كانت هناك جبهات الأمر الذي جعل من التحرير مسألة معقدة وأن تتم على مراحل بحسب مدى قدرة المغرب على ذلك، ومدى الفرص التاريخية المتاحة له لاسترجاع أراضيه من الأطراف المختلفة في تواريخ متفاوتة وليس في تاريخ واحد أو بموجب وثيقة واحدة. وكانت بداية الغيث عام 1956 حينما تحرر وسط المغرب من الحماية الفرنسية، وفي عام 1957 حينما تم إلغاء النظام الدولي لمدينة طنجة، وفي عام 1969 تم استرجاع إقليمسيدي إفني طرفاية، وفي عام 1975 الساقية الحمراء، وفي عام 1978 وادي الذهب. وما زال المغرب ولغاية اليوم يبحث عن أسلم السبل في معركة استكمال وحدته الترابية باستعادة المدينتين المغربيتين السليبتين: سبتة ومليلية وبقية الجزر. إن ما قام به المغرب طوال هذه الحقبة التاريخية يندرج في سياق مسلسل تصفية الاستعمار واستكمال وحدته الترابية، انطلاقا من حقائق تاريخية وهي إعادة المغرب إلى الوضع الذي كان عليه قبل التكالب الاستعماري. وعلى النظام الجزائري أن يعلم أن تصفية الاستعمار قد تمت بالفعل من خلال سياسة تدريجية تمكن فيها المغرب أن يطرد المحتلين وأن يجدد شيوخ القبائل الصحراوية عهدهم بالبيعة لسلطان المغرب، كما فعل أجدادهم من قبل. 2 النظام الجزائري يروج اليوم لادعاءات كاذبة وهي أن المغرب بصفته قوة احتلال يستغل خيرات المنطقة. هذا الاتهام الذي ردده وما زال يردده الوزير الأول الجزائري عبدالمالك سلال مردود عليه و لا يجد له سندا أو ما يعززه على أرض الواقع. والحقائق تثبت عكس ما يدعيه السيد سلال. ومن هنا تاتي أهمية دعوته لزيارة المغرب ليقف على واقع يأبى بعناده أن يعترف به. ولهذا النظام ورجالاته، نجمل هذه الحقائق عبر المسؤول الجزائري كورقة تقنية يستأنس بها قبل أن يستقر رأيه على تلبية الدعوة ليرى تلك الحقائق بأم عينيه، وهي: إن مرحلة تصفية الاستعمار انتهت بعد رحيل المحتل الإسباني. وما ينبغي أن يعلمه حكام الجزائر أن مغرب اليوم دخل عهدا جديدا من البناء والتشييد وتمكين أقاليمه الصحراوية من تدارك التأخير الذي عانت منه طوال الحقبة الاستعمارية من ظواهر سلبية كالإبقاء على المجتمع الصحراوي مجتمع رحل والبحث عن الكلأ والماء، فيما كان المحتل لا يبحث إلا عن نهب لخيرات المنطقة، وقد ترك هذه الأقاليم في وضعية مزرية. فأين كان النظام الجزائري آنذاك؟ معدلات التنمية التي تحققت في الأقاليم الصحراوية تعد قياسية في تاريخ المنطقة وتفوق بكثير وضعية المناطق المماثلة في صحراء الجزائر المهمشة والمعزولة والمستغلة من طرف حكام النظام الجزائري. وبلغة الأرقام أن الدولة المغربية قد استثمرت في الأقاليم الجنوبية سبع مرات أكثر مما استفادت منها، مما جعل مؤشرات التنمية في هذه الأقاليم تتضاعف ست مرات قياسا بالوضعية التي كانت عليها قبل 1975 . والحديث عن استغلال خيراتها هو من قبيل الهراء واللغط انطلاقا من واقع مرير وهو أن طبيعة وأدوات الإنتاج في تلك الأقاليم كانت تقليدية ولم تكن تسمح حتى بسد الحاجيات الأساسية للساكنة. الصورة اليوم مغايرة وأعطت للمنطقة وجها مختلفا في مجال التنمية الشاملة التي غيرت من نمط العيش من خلال بنية تحتية وهيكلة جديدة للعمران وبناء اقتصاد قار وثابت وإدارة حديثة وشبكة طرقية وظهور مدن بأكملها في حركة عمرانية ذات وثيرة عالية وذات فضاءات تلائم طبيعة الشخصية الصحراوية. هذه التحولات المهمة في الحجم والنوع جعلت من هذا النموذج للتنمية فريدا من نوعه في المنطقة العربية والإفريقية، وفي زمن قياسي غير منتظر. تحفيز الدولة لفرص الاستثمار في الأقاليم الجنوبية من خلال تشريعات مشجعة وتسهيلات على مستوى الضرائب والإعفاءات الجمركية وامتيازات إضافية ذات الصلة بالوقود والطاقة من أجل الحث على استثمار فاعل لتنمية وتطوير المنطقة. انخراط القطاع الخاص في مسلسل تنمية الأقاليم الصحراوية. وقد كان الاتحاد العام للمقاولات قاطرة للتنمية في هذه المناطق. ففي شهر مارس 2015 أعلن هذا الاتحاد من مدينة العيون عن إطلاق 60 مشروعا استثماريا بالأقاليم الجنوبية بغلاف مالي يتجاوز 4 مليار درهم مغربي تشترك فيها كبريات المقاولات المغربية المعنية بالاستثمار وتطوير الرأسمال البشري من أبناء المناطق الصحراوية. كما تحقق على يد هذا الاتحاد إنجاز "مونوغرافيا" للنسيج الاقتصادي والاجتماعي للجهات الجنوبية الثلاث. مختلف المشاريع التي سينجزها هذا الاتحاد ستمكن من خلق 10 ألف منصب شغل قار وبشكل مباشر في كل من جهة العيون بوجدور الساقية الحمراء، وجهة كلميمالسمارة، وجهة وادي الذهب لكويرة. وتشمل هذه المشاريع مختلف الصناعات الغذائية والبناء والأشغال العمومية والخدمات والصيد البحري والنقل والصحة. إلى جانب المشاريع التنموية المخصصة لهذه المنطقة وخصوصية الأقاليم الجنوبية، هناك حرص شديد على مواكبة هذه المشاريع بإيجاد بيئة سياسية وإدارية من خلال إعادة النظر في نمط الحكامة المتبع في الأقاليم الصحراوية، وذلك بتنزيل الجهوية المتقدمة لتفعيل النموذج التنموي لهذه الأقاليم. هذه الجهوية الموسعة التي تشكل إحدى استحقاقات عام 2015 تندرج في سياق شمولي من الإصلاحات السياسية والتشريعية والإدارية المحتفظ بها لتهيئة الأقاليم وساكنتها إلى الهدف السامي وهو الحل السياسي والنهائي المتمثل في حكم ذاتي تحت السيادة المغربية. وهذا الحل ليس بجديد على تاريخ ونمط تفكير وعيش ساكنة المنطقة. فمن خلال قراءة عميقة في التاريخ السياسي يتبين أن الأقاليم الجنوبية كانت دائما تتولى تدبير شؤونها المحلية في إطار مجالس شيوخ القبائل بالتنسيق والتناغم مع المرجعية السياسية للسلطة المركزية في عواصم السلالات المتعاقبة على المملكة سواء في مراكش أو فاس أو الرباط، وكان نظام البيعة هو الحبل السري الرابط بين شيوخ هذه القبائل وسلاطين المغرب. هذه هي الحقائق التي يرفض عبدالمالك سلال وولي نعمته الرئيس بوتفليقة الاعتراف بها. وهي حقائق تظهر بالملموس وبلغة الأرقام ان المغرب ليس بلدا محتلا ولم تكن عودته لربوع الصحراء بنية الاستغلال بل من أجل مشروع حضاري هو تطوير أقاليمه التي طالها الحيف في الحقبة الاستعمارية وإعادة الاعتبار إليها وللمواطن الصحراوي. وإذا كان هناك من نظام تتملكه الرغبة في الاستغلال فهو النظام الجزائري الذي يخطط لإنشاء كيان ضعيف عن طريق ما يسميه بالاستفتاء لكي يجعل منه في المستقبل كيانا ملحقا بدولة الثكنات العسكرية. والممارسة على أرض الواقع تكشف عن هذا المخطط الجهنمي للنظام الجزائري. وهو النظام الذي أبدع وما زال في استغلال ثروات الشعب الجزائري، و يحاول أن يبعد التهمة عنه بإسقاطها على المغرب. ولذلك، يجب على الشعب الجزائري الشقيق أن يسائل حكامه أين هي ثروة عائدات البترول والغاز، وأن يطرح هذا السؤال على العلن وفي الشارع وأن يتزامن ذلك مع الفضائح التي تهز اليوم المجتمع الجزائري. وإذا كان هناك من استغلال آخر فيجب التعريف به واستنكاره كذلك في سياق فضيحة المساعدات الإنسانية المخصصة لمخيمات الذل والعار في تيندوف والتي تورط فيها العسكر الجزائري بالمتاجرة في تلك المساعدات وتبخيس مصائر الناس في الأسواق الجزائرية وغيرها. هذه حقائق ندرجها في أجندة زيارة الوزير الأول الجزائري عبدالمالك سلال للمغرب، متمنين له قدوما طيبا في رحاب مملكة ليس لها بترول، ولكن لها إرادة قوية في تجاوز التحديات وفي ضرب مواعيد مع التاريخ ومع المستقبل. [email protected]