مباشرة بعد نشر الدكتور محمد عابد الجابري لكتابه "العقل الأخلاقي العربي" أرسلت له نصا نقديا قصد نشره بمجلة “فكر ونقد” التي كان يشرف على تحريرها. كان جوابه وجيزا جدا : “لم يحن بعد وقت نشره”. والآن وقد مر ما يناهز أربعة عشر سنة على نشر هذا الكتاب وخمس سنوات على وفاة الدكتور، أعتقد أنه قد حان نشر هذا النص. وأذكر أن مجلة “فكر ونقد” كانت قد نشرت لي قبل ذلك مقالا مطولا عنوانه “إحياء علوم الفلك - من السماوات إلى الفضاء”. وإليكم نص النقد كما حررته في شهر غشت من سنة 2001 إن قراءة كتب الأستاذ الجابري لمتعة من النوع الرفيع. فقضاء أسبوع من العطلة الصيفية رفقة كتابه "العقل الأخلاقي العربي" لهي بمثابة رحلة استكشاف لآفاق جديدة ومدن فاضلة ومكتبات شيقة رفقة مرشد من أفضل ما أثمرته ساحتنا الفكرية المعاصرة. لكم تتضح الرؤية بعد متابعة خطاه عبر الست مائة وثلاثين صفحة. نفهم أن لفضاءنا الأخلاقي المدون بالعربية نظام نجهله جهلا تاما. ونحن في طريقنا معه نتلقن درسا في التواضع (خلق طيب) بعد الإطلاع على النزعة العلمية لطب الأخلاق بتراثنا. نعي كل الوعي أن رؤانا الحديثة عريقة في القدم. إن نقده النافذ والمنظم لأخلاق الطاعة غير المشروطة المنتقلة مع ترجمة الموروث الفارسي إلى ساحة أدبنا العربي يقف بنا على مكامن ومعالم تاريخ الفكر التسلطي المتفشي بأسواقنا وأذهاننا العربية. والصفحات الوضاءة التي خصصها لتفكيك ونقد الموروث الإشراقي لا تدع مجالا للخلط بين أنوار الهدى وظلمات شيوخ لنا خططوا لفناء أخلاقنا. وعلما أن المدح وحده لا يفيد في التقدم بفكرنا، فإننا سنحاول تقديم مساهمة متواضعة في مساندة المشروع الجابري الرائد : نقد العقل العربي. كنا نعتقد بكل سذاجة أن مقومات نظرتنا الإسلامية إلى الإنسان هي عبارة عن نفس متأرجحة على الدوام بين ما يوسوس به الشيطان وما يحث عليه القرآن. إلا أننا لم نعثر على هذا النموذج البسيط بما قدمه لنا كتاب الأستاذ الجابري. فالمؤلفات العديدة التي حللها بكتابه لا تخصص للشيطان ذكرا. وهذا ما يدل، من دون شك، على أن جل مفكرينا تجاوزوا نظرتنا الساذجة هاته إذ غالبا ما كفاهم الإعتماد على قوات النفس البشرية. إن الأستاذ الجابري لا يشير إلى هاته الخاصية البسيطة ذات الدلالة العميقة. وهذا ليس بمضر في أغلب الأحيان. أما ما نعتبره مضرا لفكرنا فهو على الأقل ثلاث نقط سنتطرق إليها على التوالي : 1 . تحيز الأستاذ الجابري لفكر بن رشد (قد يعزى ذلك إلى طول معاشرته) 2 . عدم تعميق بحثه لموضوع القيم الكسروية 3 . كبح فكره النقدي لما يسميه "أسلمة الأخلاق الإغريقية " وكذا "أخلاق الإسلام" 1 - تحيز لفكر ابن رشد إنه لمن الغريب حقا أن يورد الأستاذ الجابري بنفسه جنبا إلى جنب وبشكل مكثف، كل المعطيات التي توضح لنا أن ابن رشد فقيه لا يختلف من بعض الأوجه عن خصمه الغزالي دون أن ينتبه إلى ذلك. ففي صفحة 385 نقرأ ما يلي على لسان ابن رشد المندد بخصومه المشتغلين بالفلسفة : "كما عرض ذلك لأهل زماننا : فإنا شاهدنا منهم أقواما ظنوا أنهم تفلسفوا، وأنهم أدركوا بحكمتهم العجيبة أشياء مخالفة للشرع"(1).ونفهم كذلك من نفس الصفحة أن الغلبة كانت للتيار الرشدي بمساندة أولي الأمر (ولو لمدة) : "ولقد رفع الله كثيرا من هاته الشرور والجهالات والمسالك المضلات بهذا الأمر (الحكم) الغالب وطرق به إلى كثير من الخيرات على الصنف الذين سلكوا مسلك النظر ورغبوا في معرفة الحق". نفهم مما تقدم أن فلاسفة من جزيرة الأندلس أدركوا قبيل حكم الموحدين أو في بدايته، أنه يترتب عن العلم ماقد يخالف العقيدة. لقد وضح الأستاذ الجابري أن هاته الآراء التي وردت ب"فصل المقال" صدرت عن ابن رشد بإحدى عشر سنة –على أقل تقدير- قبل كتابه "الضروري في السياسة" والذي يحتوي، وإن اختلفت الأحوال، على آراء من نفس الطينة : "ولا يصدقون أيضا في أقوالهم التي يرهبون بها أهل المدينة فيما يأتون به من تلك الأمور، ويكونوا عارا على الفلسفة وسببا في إيذاء كثير ممن هم أولى منهم بها، كما عليه الحال في زماننا هذا". نلاحظ أن عبارة "أقوالهم التي يرهبون بها أهل المدينة" مبهمة جدا. والمرجح أنها تغطي آراء من العسير دحضها. ونحن نعرفه، في غير ما موضع، مقارعا جريئا وصريحا لابن سينا والفارابي والغزالي… بل أكثر من ذلك، منتقذا لأولي الأمر! يورد ابن رشد هاته الجملة المضببة بعد أن يحكم بقسوة على أخلاق هؤلاء المشتغلين بالفلسفة المخالفة لفلسفته. خلافا لطريقة المحاورة الإغريقية التي تفسح المجال لبسط أفكار المعارضة قبل مقارعتها بالحجة ودون اللجوء إلى سلاح الأخلاق(2)، لا يخبرنا ابن رشد هنا عن مقولات معارضيه الأندلسيين ويعتبر نفسه وكأنما يعيش بين "وحوش ضارية" بينما هو منخرط في خدمة أولي الأمر المتنورين ويحظى برخصة يحيى أخ المنصور لتأليف كتابه الثوري "الضروري في السياسة". ونحن نعلم اليوم أنه كلما سلب الإنسان كرامته ووصف بالوحش فغالبا ما يكون ذلك تهييئا لصرعه دون محاكمة تعرض خلالها حجة الإتهام وحجة الدفاع (حجة…حجا). هنا بالضبط يلتقي ابن رشد بأبي حامد الغزالي في حكمهما على الفلسفة التي لا تتفق مع آراءهما باسم الشريعة (=العقيدة). والغريب في الأمر هو ما يقرره الأستاذ الجابري بنفس الصفحة : "وهكذا يجد الفيلسوف الحق نفسه في مثل هذه الحال بين خصوم الفلسفة والمتفلسفين المسيئين إليها". لا أحد من مفكرينا يَسْلم إذن من عملية إقصاء الخصوم دون تبرير عقلاني منصف، اللهم باسم الأخلاق والشريعة. عسى أن يهتدي الأستاذ الجابري إلى رد الإعتبار لأجداد لنا سحقتهم الأيام والزمان وأولو الأمر والقضاء والتدوين. ولربما سيجازى في عملية بحثه عن هوية هؤلاء الأجداد بالعثور على ما يشرف فلسفتنا ولا يسيء لها البتة. إن كان بإمكاننا أن نفهم هذا الإبهام من ابن رشد بكتابه "الضروري في السياسة" وقت اضطراب الأمور، حيث كان لا يعلم هل سيفوز يحيى بالسلطة أم لا(3)، فإنه لا يمكننا أن نقبله منه في "فصل المقال"، زمن السراء. وإذ نعود إلى سياق نصه نفهم أن خصومه الأندلسيين صرحوا بآراء برهانية للجمهور بينما اختار ابن رشد تخصيصها لأهل التأويل اليقيني (يقين أرسطو طبعا). نظن أننا إزاء مثقف منخرط بسلك الدولة (مع "تقدمية" آرائه) ومثقفين يخاطبون الجمهور. ومخاطبة الجمهور هي إحدى مقومات المثقف الأساسية كما حدد ذلك الأستاذ الجابري ببراعة في كتابه "المثقفون في الحضارة العربية" (4). وما يقلقنا حقا هو أن ابن رشد عندما يعطي مثالا على ما لا يجب التصريح به للجمهور مخافة ألا يفهمه حق فهمه وابتداء من أسسه، فإنه يذكر إشعار العامة بأن الشمس أعظم من الأرض بقدر مائة وستين ضعفا مع أنها تظهر في قدر قدم (تهافت التهافت، المسألة الثالثة، فقرة 22ر). ولا يسعنا إلا أن نندهش لهذا : يفهم كل من أوتي حس النظر أن الأجسام الطبيعية، مهما كانت عظيمة فإنها تبدو صغيرة كلما ابتعدت عن أبصارنا. فمن شأن هذا التصريح أن يأكد عظمة الخالق ويقوي إيمان المسلم الذي يعلم أن الله على كل شيء قدير. نظن أن ابن رشد لم يصرح للجمهور بما يفهمه أهل البرهان من مثاله هذا : كان علماء الفلك يعلمون منذ القرن التاسع، منذ تفتح العباسيين على علوم الإغريق الفلكية، أن أرسطرخس فهم دوران الأرض حول الشمس عندما قام بحسابه الذي تبين منه أن الشمس أعظم من الأرض ثم استنتج منه أنه لا يليق بالأجسام العظيمة أن تدور حول الأجسام الضئيلة (5). نظن إذن (وهذا مجرد تخمين إذ الإبهام مطوق للقضية) أن الفلاسفة الذين يسخر ابن رشد من "حكمتهم العجيبة" ربما كانوا علماء ومثقفين بكل معنى الكلمة : لا شيء يخالف العقيدة أو البداهة في مقولة كبر حجم الشمس، أما القول بدوران الأرض ف"حكمة عجيبة" من شأنها أن "ترهب أهل المدينة". وهاته النظرية مرعبة حقا، ليس لأهل المدينة فحسب، بل لابن رشد كذلك إذ تقدم علوم أرسطرخس الرياضية كبديل ل"فيزياء" أرسطو التي لا تعرف للعدد تقديرا. فمهما كان السبب الحقيقي لموقف ابن رشد من الجمهور والخاصة، فإنه بات من حقنا أن نتساءل : ألم يكن ابن رشد عالما وفقيها سخره الموحدون لخدمتهم عندما ظهرت الحاجة السياسة إلى ذلك، بما فيهم أخ المنصور؟ أما الخليفة، فلقد فضل تقديم الطلبة على "أهل البرهان" عندما أجبرته الظروف الحرجة إلى تجنيدهم. ولقد أعاد الإعتبار لابن رشد عندما استتب له النصر وأصبح الجند الجدد خطرا على أمن الدولة. هذا هو فهمنا لمحنة علماءنا، ابن رشد وخصومه، لانفرق بين أحد منهم. 2 – تعميق الأخلاق الكسروية إن تحليل ونقد أخلاق الطاعة غير المشروطة لكسرى والمبنية على مجتمع جامد لا يسمح بأي رقي، لتحليل رائع. إننا نتوقع له صدى ونجاحا يستحقه كل الإستحقاق. بين لنا الأستاذ الجابري أن المؤلفات المروجة لتلك الأخلاق نظرت لمجتمع تستقطبه خدمة السلطان إبتداء من الجنود والدين وأهله وهبوطا إلى أسفل سافلين، إلى النساء اللائي تنحسر مهمتهن في إشباع شهوتي البطن والفرج وإنجاب عبيد لكسرى. ويتساءل الأستاذ الجابري عن سبب النجاح العارم الذي حققته تلك المؤلفات وأخلاقها بالساحة العربية الإسلامية. وهو يجيب على ذلك جوابا مقنعا : كان التراث الفارسي بأكمله (أرضه وأهله) قد أصبح جزءا لا يتجزء من ذاتنا. ويشير كذلك إلى عدم الفائدة من رد ذلك النجاح إلى الطغيان المشرقي. إلا أننا نميل إلى الإعتقاد أن التحليل بهذا الإتجاه من شأنه أن يؤدي بنا إلى فهم أفضل لتراثنا ولأنفسنا. إن الدولة الأموية (ثم العباسية ومن خلفهما) كانت مكونة ليس من عرب الجزيرة فحسب بل من شعوب لها تاريخ عريق إن لم يكن أعرق تاريخ مدون. إن الفرس لم يأتوا لتلك الشعوب بأي جديد وإن كان جديدا باللسان العربي : فملوك الشرق وفراعنة مصر تألهوا وركع لهم الشعب وأهل الدين قبل كسرى وأردشير. فمن أخلاق تلك البلدان مثلا، أمر سردنبال الآشوري بإعدام حرمه عند موته كي لا يرفثهن أحد بعده وبخنق خيله كي لا يركبها أحد غيره. فجداتنا إذن هنا في مرتبة الذواب وأكباش الجنازة. ولم يسلم عرب الجزيرة من إذلال وتصفية أخواتنا. كلنا نعلم تحريم القرآن لوأد البنات. لقد جاء الإسلام لتهذيب تلك الأخلاق الهمجية. والأستاذ الجابري لا يفوته طبعا أن يندد بالرؤية التي تنظر للمرأة بوصفها كبضاعة في الموروث الفارسي ثم العربي وليس بوصفها إنسانا. فهو يُآخذ مثلا ابن قتيبة على تناسيه لأخبار عربية وأحاديث نبوية تأسس لنظرة بديلة للمرأة : "الجنة تحت أقدام الأمهات"، "النساء شقائق الرجال" … (ص 208-209). إلا أنه من الإنصاف لضميرنا وتاريخنا القديم والحديث ألا نغض الطرف عن كون الثورة الإسلامية لم يتأتى لها تجاوز كل الأخلاق المترسخة والمتعارف عليها عند العرب وأهل الشرق. فما زالت، كما كانت، أمهات لنا يحكم عليهن ب"موت" فيه تفنن : يترملن باقي حياتهن بعد موت أزواجهن. وهذا العرف العربي أصلا، ما زال سائرا عند ملوك شرقيين من أهل زماننا هذا. فالحط من كرامة جداتنا وأمهاتنا وأخواتنا لم يأسسه الإسلام ولم يتمكن من تنحيته بأكمله. لذا، ليس غريبا أن نواجه اليوم في نضالنا من أجل العدل والمساوات، نضالنا الأعزل من سلطان النبوة وسلاحها، أن نواجه مقاومة من أشد المقاومات : إن عروقها متجذرة بتاريخنا العميق جدا. من هذا نخلص إلى مصارحة الأستاذ الجابري بأن تخدير ضمائرنا بمقولة أن تلك الأخلاق مستوردة إجراء ضروري لا محالة ولكنه لا مفر لنا بعده من عملية استئصال جريئة يقوم بها أطباءنا للأخلاق. 3 – نقد مكبوح مع أن اختيار عنوان "محاولات في أسلمة الأخلاق" يدل على أن المؤلف ليس واثقا من نجاح تلك العملية، فإن عدم الإشارة إلى نقط الضعف في مواضعها ليأسف حقا. وهذا ليس معناه أن الأستاذ الجابري ترك مجالا للشك في عدم قبوله لذلك التلفيق بمواضع أخرى. كقارئ عربي عادي أفهم الذريعة بمعنى المعذرة المختلقة أو إسما مؤنثا مصغرا للذرع، ولا أرى أي حاجة إلى اختلاق المعاذر أو وقاية الذرع "لاقتناص مكارم الشريعة" كما كتب الإصفهاني. فابتداء من عنوان كتابه "الذريعة إلى مكارم الشريعة" نلمس بوادر تمطيط الكلمات واختيار معانيها المشتبهة (ص 571). إنه من حق كل مؤلف أن يحدد مصطلحات جديدة لأسباب عملية وعلمية. إلا أن الإصفهاني لا ينتج مصطلحات جديدة بل يتلاعب بالكلمات كما سنرى. فهو يسخر الآية السابعة والسبعين من سورة الحج لخدمة مفهومه "مكارم الشريعة" التي يضفي عليها معنى ما فاض على الواجب. "يأيها الذين آمنوا اركعوا واسجدوا واعبدوا ربكم وافعلوا الخير لعلكم تفلحون". ففعل الخير عنده هو الزيادة على العبادة، وبه يستحق الإنسان خلافة الله في الأرض. إن العبادة، حسب فهمنا، هو ما يلزمنا تجاه الخالق وفعل الخير هو ما يلزمنا تجاه أنفسنا وتجاه أخواتنا وإخواننا. فليس فعل الخير من الفضل والزيادة بل أساسي لا يستقيم من دونه أي إيمان. والأستاذ الجابري لا يوافق طبعا على هذا التمييز عند الإصفهاني، إلا أنه لا يرمز إلى ذلك إلا من خلال عبارة وجيزة جدا : "ليكن ذلك" (ص 573). إننا لا نفهم من مشروع الإصفهاني أنه تبن لأخلاق إغريقية وإلباسها لباسا إسلاميا كما يقول الأستاذ الجابري، بل نعتبره تضييقا لمفاهيم الإسلام محاولة منه لإقحام مقوماتها داخل لباس إغريقي. و لضيق اللباس يتأتى له ذلك بالبتر. نرى من حق القارئ على الأستاذ الجابري أن ينبهه إلى أن "أسلمة الأخلاق" تستدعي تلاعبا سافرا بمعاني القرآن. ونحن هنا لا ندافع عن القرآن انطلاقا من تدين مفتعل وإنما انطلاقا من احترام النصوص، خاصة عندما تكون مقدسة. إننا لا نفهم تحرز الأستاذ الجابري تجاه معاصرينا وتسامحه مع القدامى. فأجدادنا يفهمون معاني القرآن كما نفهمها ولا حق لهم ولا لمعاصرينا أن يتلاعبوا بمعانيها في ردود فعلهم تجاه الآخر أو في محاولة احتضانه : الغرب حاليا والإغريق قديما. من جملة الإصفهاني الواصفة لطريق الإنسان نحو الآخرة بأنها "مضلة مظلمة قد استولى عليها أشرار ظلمة…" نفهم أن المقصود هم الشياطين. من توطئته هاته نرى الشيطان غائبا بالإسم حاضرا بالظل. وهذا كما سبق أن قلنا وجه مفيد من فكر أجدادنا سكت الأستاذ الجابري عنه. ولا يضر هذا السكوت لو وقف أمر الإصفهاني عند هذا الحد. فبعد تغييبه الجزئي للشيطان، يُقْدِم على تغييبه بشكل تام، مما يجره إلى القول : "الإنسان لما ركب تركيبا بين بهيمة وملك، فشبه للبهائم بما فيه من الشهوات البدنية من المأكل والمنكح، وشبه للملك بما فيه من القوى الروحانية من الحكمة والعدالة والجود، صار واسطة بين جوهرين ولهذا قال تعالى : "وهديناه النجدين". فالنجدان من وجه العقل والهوى، ومن وجه الآخرة والدنيا، ومن وجه الإيمان والكفر". وكأنما يمكن أن نقبل بفكرة "الهداية للإيمان والكفر" أو بأبشع منها ب"هداية من الله إلى الكفر"! تناقضات ما كانت لتزهق من شبكة الأستاذ الجابري النقدية. فبتمطيطه المتدرج للكلمات يتمكن الإصفهاني من إخراجها من نطاق معناها غير المتكلف. وبما أنه لم يفهم أنه كان يكفي وضع الشيطان كمحرك للإفراط في الشهوات والتفريط في المستحبات، فإنه لا يجيد تغطية الجهاد بالقميص الإغريقي الذي أراد للأخلاق الإسلامية أن تتقمصه رغم ضيقه (ص 577). فهو يفسر قوله تعالى : "إنما المومنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله، أولئك هم الصادقون" (الحجرات 15) تفسيرا أفلاطونيا فيقول : "وذلك أنه بالإيمان (الذين آمنوا) يحصل العلم والحكمة، وذلك بإصلاح الفكرة. وبالمجاهدة في الأموال والأنفس تحصل العفة والجود اللذان هما تابعان لإصلاح الشهوة، وإصلاح الشجاعة والحلم اللذان هما تابعان لإصلاح الحمية". إن العبور المقنع والمتدرج من عبارة واضحة كل الوضوح "الجهاد بالأموال والأنفس في سبيل الله" إلى عبارة الإصفهاني المعقدة ليقتضي منه تمويها بينا وإنه كان ليستدعي من الأستاذ الجابري تحليلا أوفى، هو الذي علمنا أن الغنيمة من مقومات العقلية السياسية العربية الأساسية. فكيف به يغض الطرف عن هذا التعطير بماء الورد الأفلاطوني؟ إننا نفهم من هذا أن الإصفهاني ضاق ذرعا بالجهاد ولا نتفهم من الأستاذ الجابري عدم ربطه لهذا الكتاب بما جاء بالكتاب الثالث من نقد للعقل العربي(6). نوافق الأستاذ الجابري على أن العرب والمسلمين لم ينظروا بما فيه الكفاية لتدبير المدينة (السياسة، أو أخلاق المعاملات للجماعات الكبرى) الذي هو تكملة طبيعية لتدبير النفس (الأخلاق الفردية والسلوك في إطار الجماعات الصغرى). نوافقه طالما تعلق الأمر بالتشريع للسياسة الداخلية (دستور الأمة). أما ميدان السياسة الخارجية فلقد أتى التاريخ بالدليل القاطع على نجاعة تشريع الجهاد بالأموال والأنفس والحث على طاعة أولي الأمر (أمراء الحرب). لقد مكن هذا التنظيم المعمم والأصيل للجهاد من نشر الإسلام وتوسيع رقعته في مدة وجيزة جدا. ونتمنى ألا يكون الأستاذ الجابري، كالإصفهاني، قد ضاق ذرعا بهاته المنظمة السياسية التي تتحول، والحق يقال، إلى سلاح الفتنة عندما تستغل في السياسة الداخلية لحسم الخلافات وتعارض المصالح بين أبناء الأمة. أما فيما يخص كتب الأخلاق التي يصنفها الأستاذ الجابري ك"موروث إسلامي" فلنا بشأنها نظر وإن كنا نتفق معه في الصميم. إن أول ما يجذب الإنتباه هو كيفية إضفاء السلطة على العزيز بن عبد السلام (ص 595-596). نجد أنفسنا أمام قاض ومفت ومدرس له من السلطة ما يقهر السلطان : فقبل تقديم البيعة للظاهر بيبرس يُجبره فقيهُنا على إحضار رجال شهدوا على عتقه. لكنه يتجاوز ذلك بالجرأة على تنظيم "إذلال" جماعي وعلني لأمراء المماليك المتهمين ب"المبالغة في التعسف". فقاضينا يبيع هؤلاء الأمراء (العبيد) وكأنما هو موكل من أسيادهم أو كأن الشرع يسمح لهم ب"تقديم أنفسهم للبيع" كما تقول الرواية. وهو يعتقهم وكأنما أصبح سيدهم بعد بيعهم!؟ إنها رواية غريبة تحز النفس ولا يمكن أن يستسيغها غير أقوام مثلنا هيأتهم ثقافتهم لتذوق شعر من قبيل : لا تشتري العبد إلا والعصا معه إن العبيد لأنجاس مناكير. والمهزلة لم تنته بعد : فابن عبد السلام يصرف قيمة البيع في "المصالح العامة" ولا يردها للمسلمين الذين تزايدوا لشراء هؤلاء العبيد بعدما عانوا من "تعسفهم". فموضوع الهزل ليس العبيد كما قد نظن لأول وهلة بل أولئك الواثقون من صفقة فريدة تحولت إلى صفعة تفرقوا بعدها خاسئين وقد شاركوا بأموالهم في عتق أمراء المماليك. إن كان لهاته الروايات من معنى فإنها ولاشك تدلنا على تورط فقيهنا وقاضينا في قضية مشتبهة وعدل صوري : أقدم المستحوذون بالسيف على الخلافة وبيت المال من شراء إخوانهم أمام قاض يمكنه أن يتباهى بالسهر على احترام الشريعة التي لا تسمح للعبد أن يصبح حرا وأميرا للمومنين دون أداء الدية للمصالح العامة. فهاته حيلة من حيل فقهنا المخففة، والحق يقال، من جور أخلاق الرق الذي لم تسلم منه أمتنا ككل الأمم. وإننا بهذا القول لا نروم حطا من قيمة هذا المفكر المسلم (سلطان العلماء كما يسميه الأستاذ الجابري) الذي تخلص من قيود المباهات والمنافسات وعاد إلى قراءة لا تكلف ولا تصرف فيها لمفاهيم القرآن. ومن الممكن أن نعذره في هاته القضية ونعزو ذلك إلى دهاء المماليك ونلاحظ أن ناقدا فذا مثل الأستاذ الجابري سقط في نفس الفخ. ومع هذا نظن أن القراء المسلمين لن يقبلوا ما يورده الأستاذ الجابري على لسان العز دون أي تعليق بصفحة 614 مثلا : "والقاعدة في ترتيب المصالح والمفاسد هي المرجع : فالكذب إذا كانت فيه مصلحة زال وزره، والصدق إذا كانت فيه مضرة كان فيه إثم الإضرار وهكذا…". لا يطرح العز (حسب ما سرده الجابري على الأقل) مشكلة المصلحة لمن على حساب من. تبعا لما نعلمه، يلجأ الناس عادة إلى الكذب جلبا لمصلحتهم على حساب من يودون معرفة الحقيقة. فالتحدث باسم المصلحة المرجحة أو المصلحة العامة مع اقتراف آثام غليضة، رياضة يرتاضها كثير من أولي الأمر في أزماننا وبلداننا العربية هاته. ولا يدلنا الأستاذ الجابري على كيفية عملية للفصل في قضية أساسية : المصلحة. وكذا الحال مع بعض آراء ابن تيمية الذي يورد الأستاذ الجابري على لسانه دون أي تعليق (ص 617) : "والأصلح في الولاية من تجتمع فيه القوة والكفاية. فإذا لم يوجد مثل هذا الشخص نراعي الحاجة : فإن كانت الحاجة الظرفية إلى القوة ولي القوي وإن كان فاجرا، وإن كانت الحاجة إلى الأمانة ولي الأمين ولو كان ضعيفا…". إن مثل هذا التفكير (باسم المصلحة والظرف) ينطلق، حسب فهمنا، من مبدإ انحسار الولاية بفئة قليلة العدد ولا يمكن البحث عن أهل القوة والكفاية خارج تلك الفئة رغم كثرة الأمة العربية الإسلامية. ونحن نتساءل : ألا يفتح مثل هذا التفكير أبوابا شاسعة لتبرير كل التعسفات بحجة أن الظروف تحتاج إلى القوة، خاصة إذا ما هيئت الساحة للقلاقل وأخليت بنفس المناسبة من أهل الكفاية؟ نرى أنه بإمكان مكيافيلي تبني فكرنا هذا ل"أمير"ه. ملاحظات ومراجع: (1) نظن أنه كان من الأليق أن يتحدث هنا ابن رشد عن العقيدة عوض الشريعة. لكنه من االممكن أن يكون اختياره لهاته الكلمة مصيبا ومعبرا على إصداره (كقاض) حكما موافقا للشريعة ولرأي أولي الأمر على فلاسفة تعدوا الحدود المرسومة للفكر ومخاطبة الجمهور. وبهذا يكون تقريره غير مقتصر على اصدار فتوى في قضية شرقية مضى عليها الزمان (خلاف الغزالي مع الفلاسفة) كما يعتبر ذلك الأستاذ الجابري بل، في نفس الآن، حسما لخلاف مع أهل زمانه و"مسالكهم المضلة وشرورها". (2) وبما أننا نخوض في موضوع الأخلاق، بات من المفيد ملاحظة أنها استعملت وتستعمل كسلاح لإقصاء الخصوم في ثقافتنا. إذا أردت التخلص من خصمك بأوطاننا فما عليك إلا تصويب ضربات كلامية لأعضائه التناسلية مثلا. وهذا ما يمكن تسميته "قلة الحياء بجلابيب بيضاء". (3) وفهمنا هنا لمعنى "اضطراب الوقت" فهم لا تكلف فيه، وهو مختلف عما قدمه الأستاذ الجابري من نظرية بمقدمة كتاب "الضروري في السياسة". نظن أن ابن رشد "قامر" على موت الخليفة المنصور وتولي صاحبِه يحيى للخلافة. لكن شفاء المنصور غير المرتقب قلب الوضعية. لقد كان إخوة الخليفة (وحاشيتهم) على حذر وفي رعب بعدما أقدم على تصفية واحد منهم. فلا غرابة أن تكون الأحوال مضطربة بقرطبة. ونظن أن المثل الفرنسي "لا تبع فراء الدب قبل قتله" يصدق في هذا المقام. (4) المثقفون في الحضارة العربية. محنة إبن حنبل ونكبة إبن رشد. الدكتور محمد الجابري. الطبعة الأولى. مركز دراسات الوحدة العربية. بيروت نوفمبر 1995. نظن أن ابن رشد عرف مرحلتين : مرحلة القاضي الحامي للحدود التي لا يمكن تجاوزها في مخاطبة الجمهور ومرحلة ثانية دخل فيها معمعة السياسة بعدما نظر لمشروعية تسلط الحكيم (يحيى) ثم أصبح في حاجة لمخاطبة الجمهور ضد الفقهاء والطلبة الذين جندتهم الدولة في جبهاتها الأوروبية والإفريقية. (5) لقد ذكرت أعمال أرسطرخس من قبل الفلكيين العرب منذ القرن التاسع الميلادي. ولقد كان كتابه "الجرمين النيرين –الشمس والقمر- وبعديهما" من الكتب الأساسية لدراستهم هذا العلم. راجع موسوعة تاريخ العلوم العربية، إشراف رشدي راشد بمعاونة ريجيس مورلون. الجزء الأول : علم الفلك النظري والتطبيقي. مركز دراسات الوحدة العربية. بيروت 1997. ص 22 و 23. (6) عقل يعقل = ربط يربط. من المفيد ملاحظة أن تطور الذهن فيزيولوجيا ترافقه نشأة وصلات بين خلايا عصبية (سينابسات). وقد يكون من المهم التذكير بأن نيوتن تنبه إلى قانون الجاذبية عندما ربط بين ظاهرتين كنا نعتقد أن لا علاقة بينهما : سقوط التفاحة وتساقط القمر في دورانه حول الشمس. فلولا تساقطه لكان قد غادرنا منذ أمد بعيد في رحلة لا توقفها غير مصادفة جرم أكثر ثقلا من الأرض. فبرفع سرعة الأقمار الإصطناعية يمكننا أن نرغمها على مغادرة أجوائنا والتحويم حول كواكب أخرى.