واشنطن تبدأ تفعيل الرسوم الجديدة    ديكلان رايس نجم أرسنال ضد الريال    البايرن ميونخ والهزيمة الغير المتوقعة أمام الانتر    تيرازاس: الأزياء في المشاهد السينمائية ليست ترفا.. وعمل المصممين معقد    معرض الطاهر بنجلون بالرباط.. عالمٌ جميلٌ "مسكّن" لآلام الواقع    حادث اصطدام عنيف بين ثلاث سيارات يُخلف مصابين باكزناية        دينامية شبابية متجددة.. شبيبة الأحرار بأكادير تطلق برنامج أنشطتها بروح المبادرة والتغيير    الجيش يغادر دوري أبطال إفريقيا    الشعباني: "التأهل لم يُحسم بعد"    مارك روبيو: واشنطن ما تزال تؤمن بأن حكما ذاتيا حقيقيا تحت السيادة المغربية هو الحل الوحيد لقضية الصحراء    توقيف شابة لتورطها في تسجيل ونشر محتويات رقمية تحرض على العنف والتشهير    توقيف شابة لتورطها في نشر محتويات رقمية تتضمن تحريضاً وإشادة بأفعال إجرامية ضد فتاة    النفط يهبط لأدنى مستوى منذ 4 سنوات.. تراجع سعر البرميل إلى أقل من 60 دولارًا    الهجرة الجديدة من "بلاد كانط".. خوف من المستقبل أم يأس من التغيير؟    انتخاب المغرب في مكتب لجنة الديمقراطية وحقوق الإنسان داخل الاتحاد البرلماني الدولي    الولايات المتحدة الأمريكية تجدد اعترافها بسيادة المغرب على الصحراء    تساؤلات حول مصير سفير الجزائر بواشنطن بعد تجديد الدعم الأمريكي لسيادة المغرب على صحرائه الغربية    الراية المغربية ترفرف في باماكو وسط احتجاجات ضد دعم تبون للإرهابيين    دوري أبطال أوروبا.. أرسنال يصعّب مهمة الريال وإنتر يهزم بايرن في ميونيخ    توقيع اتفاقية شراكة بين مؤسسة محمد السادس للأعمال الاجتماعية لموظفي الأمن الوطني ووكالة إنعاش وتنمية الشمال    قرعة بطولة العالم لكرة اليد للناشئين أقل من 19 سنة (مصر 2025) .. المنتخب المغربي في المجموعة الثانية    الترويج لوجهة المغرب: لONMT يطلق جولة ترويجية كبرى بتورنتو وبوسطن وشيكاغو    لشكر يُشهر ملتمس الرقابة.. وأوزين يُحرج نواب الاستقلال أمام "الفراقشية"    المغرب وكوريا الجنوبية يسرعان مفاوضات الشراكة الاقتصادية    تتويج وكالة "الاستثمارات والصادرات"    وزارة التشغيل تخرج عن صمتها وتوضح بشأن عملية الاختراق    الرباط.. وزير الداخلية يستقبل نظيره الغامبي    الوزير قيوح: المغرب يعزز أمنه الجوي ويقود جهود التعاون الدولي لمواجهة التحديات في مناطق النزاع    منخفض "أوليفيي" يعيد الأمطار والثلوج إلى مختلف مناطق المملكة    المصادقة بجماعة دردارة على نقاط دورة أبريل والسبيطري يؤكد منح الأولوية للمشاريع التنموية    دروس ما وراء جبهة الحرب التجارية    أخبار الساحة    «طيف» لبصيرو «مائدة» العوادي يتألقان في جائزة الشيخ زايد للكتاب    في افتتاح الدورة 25 لفعاليات عيد الكتاب بتطوان: الدورة تحتفي بالأديب مالك بنونة أحد رواد القصيدة الزجلية والشعرية بتطوان    محاولة تهريب الحشيش تقود مغربيًا إلى السجن في سبتة    الشعب المغربي يخلد ذكرى الرحلتان التاريخيتان للمغفور له محمد الخامس لطنجة وتطوان يوم 9 أبريل    شبكةCNBC : مايكروسوفت تفصل المهندسة المغربية ابتهال لرفضها التعاون مع إسرائيل    المغرب يتصدر التحول الرقمي الإفريقي بإنشاء مركز إقليمي للذكاء الاصطناعي    حادث يقتل 4 أشخاص قرب كلميمة    آيت الطالب يقارب "السيادة الصحية"    دراسة: السكري أثناء الحمل يزيد خطر إصابة الأطفال بالتوحد واضطرابات عصبية    الدولار يتراجع وسط تزايد مخاوف الركود    عرض ماسة زرقاء نادرة قيمتها 20 مليون دولار في أبوظبي    القناة الأولى تكشف عن موعد انطلاق الموسم الجديد من برنامج "لالة العروسة"    تقليل الألم وزيادة الفعالية.. تقنية البلورات الدوائية تبشر بعصر جديد للعلاجات طويلة الأمد    إشادة واسعة بخالد آيت الطالب خلال الأيام الإفريقية وتكريمه تقديراً لإسهاماته في القطاع الصحي (صور)    الوداد بلا هوية .. و"الوينرز" تدق ناقوس الخطر    الأخضر يفتتح تداولات بورصة الدار البيضاء    دراسة: أدوية الاكتئاب تزيد مخاطر الوفاة بالنوبات القلبية    "قمرة" يساند تطوير سينما قطر    ارتفاع ملحوظ في عدد الرحلات السياحية الداخلية بالصين خلال عطلة مهرجان تشينغمينغ    بين نور المعرفة وظلال الجهل    العيد: بين الألم والأمل دعوة للسلام والتسامح    أجواء روحانية في صلاة العيد بالعيون    طواسينُ الخير    تعرف على كيفية أداء صلاة العيد ووقتها الشرعي حسب الهدي النبوي    الكسوف الجزئي يحجب أشعة الشمس بنسبة تقل عن 18% في المغرب    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



صاحب "مئة سنة من العُزلة" فِى فَضَاء الوَاقِعِيَّة السِّحْرِيَّة
نشر في هسبريس يوم 29 - 05 - 2015

كتاب " غابريّيل غارسّيا ماركيز فى دائرة الواقعيّة السّحريّة" (الصّادر مؤخّراً للزّميل مصطفى الحمداوي) يعالج موضوعاً ساحراً،مسحوراً، وهو "الواقعيىة السّحرية فى أدب أمريكا اللاّتينية" ،وبشكلٍ خاصّ عند صاحب "مئة سنة من العزلة" الذي مرّت ذكرى رحيله الأولى فى 17 من شهر أبريل الفارط 2015 ، خلال عملي وإقامتي فى كولومبيا سبق لي أن زرتُ الضّيعةَ، أو القريةَ، وأخيراً المدينةَ الصّغيرة التي وُلِد، وعاش، وترعرع فيها ماركيز وهي (أراكاتاكا ) التي يبلغ عدد سكّانها حوالي 40.000 نسمة، التابعة لإقليم "ماغدالينا" الواقعة فى منطقة الكاريبي الكولومبي، وهي المدينة التي أطلّت علينا فيما بعد فى رواية (مئة سنة من العزلة) باسم ( مَاكُونْدُو) - كما يؤكّد معظمُ النقّاد الثقات - والتي أصبحت اليوم مشهورةً فى مجموع بلدان أمريكا اللاّتينية، وعلى الصّعيد العالمي بفضل إبنها البار الذّائع الصّيت الذي تحوّل منزله (مسقط رأس ماركيز ) بها إلى متحفٍ دائم ، وغدت أراكاتاكا بالتالي محجّاً جذّاباً،ووجهةً أثيرةً يتقاطر عليها دارسو الأدب الأمريكي اللاّتيني،وعشّاقُ إبداعات ماركيز على وجه الخصوص من كلّ صوبٍ وحدب .
لقد راعني، وبهرني المجهود المحمود الذي بذله المؤلف فى إخراج هذا الكتاب إلى النّور والظّهور . وإستمتعتُ ، وأنا أقرأ بعضَ أسْطُرِه التي تحاول أن تستكنه، وتستبطن أغوارَ هذه الحركة الإبداعية السّحرية عند ماركيز التي تنحدر من غياهب التّاريخ السّحيق لسكّان القارة الأمريكية الذين عشقوا الحريّة،والحياة الكريمة، وهاموا بالطبيعة ،وتسربلوا بسحرها، فالواقعيّة السحريّة..مشاعر، وأحاسيس، وإجهاشات،وإفصاحات، وخفقات، وسِنَات، وإستكانات، وغفوات، وتطلعات،وتحليقات، وإستقراءات،وإستكناهات،وحكايات، وقصص، وأساطير، وأمثال مأثورة، وأقول سائرة،وأشعار متواترة،وتراث متوارث، وأحلام ،وبعض أضغاث أحلام عاشها،وحلّق فى فضاءاتها الفسيحة ماضياً ، وحاضراً، ومستقبلاً السكّان الأصليّون لهذه القارّة فى شقّها الجنوبي ( السُّفْليِ) كما يحلو أن يطلق عليه أحدُ أساطينها الذي إختطفه يد المَنُون مؤخراً (13 أبريل من الشهر الجاري 2015) وهو الكاتب الأروغوائي إدواردو غاليانو الذي أوليناه حقّه فى كتابي "ذاكرة الحلم والوشم.." ..( قراءات فى الأدب الأمريكي اللاّتيني المعاصر) الصّادر بالرباط عام 2005 ، أو فى العديد من المقالات المتفرّقة حوله ، وأخيراً وليس آخراً بمقالي الأخير عنه فى جريدة " القدس العربي" العدد 8075 بتاريخ (15 أبريل الجاري2015).
رُولْفُو أبوالوقعيّة السّحريّة
ظهر هذا الفنّ الإبداعي الجميل(الواقعية السّحرية) وتفتّق، وإنبثق عند العديد من الكتّاب، والمبدعين فى أمريكا اللاتينيّة الآخرين أمثال الكاتب المكسيكي المعروف خوان رولفو، الذي يُطلِق عليه بعضُ النقّاد( بأبي الواقعيّة السحريّة فى أدب أمريكا اللاّتينية )، وميغيل أنخيل أستورياس وكارلوس مونسيفايس، وكارلوس فوينطيس، وأوكتافيو باث ،وأليخو كاربنتيير، وماريو برغاس يوسا،وخُورخي لويس بُورخيس، وخُوليو كُورتاثار، وإيرنيستو ساباتو، وألفارو مُوتيس،وإيسابيل أييندي،هذه الرّوائيّة التشيليّة التي خرجت من مِعطف ماركيز نفسه، وسواهم وهم كثير.
يعتبرهذا الكتاب إرهاصاً مُبشّراً ،وإعلاناً مبكّراً للتعرّف على كاتب فذّ ، شقّ طريقه فى عالم الأدب والكتابة، بعزيمةٍ وإرادةٍ ،وروحٍ عصاميّة صلبة فى متاهات دروبنا الحياتية الوعرة، وبين آجامٍها ومشاقّها، وأهوالها. يطبع هذا الكتاب لغة عذبة ومُيسّرة، وأسلوب مَرِحٌ مُريح ، كتاب ينفذ إلى أعماقك، ويحرّك فيك مشاعرَك، ويُدغدغ لواعجَك، وفضولك ، إنه يؤول بهذا الصّنف من الإبداع الفطري الجميل إلى ينابيعه الأولي الصّافية ،لأنّ ديدنه هو محاولة إستعادة تجسيم مفهوم الواقعية السّحرية لدى ماركيز،(الذي يعترف صراحةً لنا أنّه تلقّن بعض أسرار، ومكامن هذا الفنّ الإبداعي عند رولفو ،وذلك عندما أهداه أحدُ أصدقائه الحميمييّن، وهو بلديّه الرّاحل الكاتب والشاعرالكولومبي ألفارو موتيس كتابيْ رولفو(بيدرو بارامو، والسّهل الملتهب) وقال له: " خُذْ تعلّم"..! الشّئ الذي جعل مركيز يقول فيه ، وعنه فيما بعد عن إقتناع شهادته التاريخية،والإعتراف له بقصب السّبق والتفوّق فى هذا المجال :(ثلاثة مائة صفحة من مجموع أعمال رولفو رفعته إلى مقام سوفوكليس) ، ولم يتورّع بعض النقّاد من أن يُطلقوا عليه والحالة هذه، لقب أبو الواقعية السحريّة فى آداب أمريكا اللاتينيّة، كما ظهرت هذه الحركة لدى سواه من المبدعين من بلديّه، و بني طينته، وأبناء جلدته فى أمريكا اللاتينيّة وتقريبها من القارئ بشكلٍ خاص بعد الطفرة أو (البُّومْ) الأدبي الشّهير الذي عرفته هذه القارّة منذ النّصف الثاني من القرن المنصرم.
تلاقي الواقع والخيال
ولكن ما هي فى العُمق الواقعيّة السحريّة..؟! لكي تتّضح لنا صورة هذه النّزعة الأدبية بوضوح، دعنا نبحث، وننقّب عنها عند أحَدِ أبرز أقطابها،ومُبدعيها الكبار، وهو خوان رولفو نفسه ، إذ يميّزالأدب الأمريكي اللاتيني طابع خاص، وهو ما يُطلق عليه ب " الواقعية السّحرية " وهي ( ضربٌ من الأدب تظهر فيه الأحداث السّحرية الخيالية وسط أحداث واقعية يمتزج فيها الواقع بالأسطورة).هذه النزعة عُرِف بها بالفعل خوان رولفو،وإلتصقت بأدبه، وإبداعاته على قلّتها قبل أن يشتهر بها غابرييل غارسيا مركيز،إلاّ أنّه عندما سُئل ذات مرّة حول ما إذا كان هو مُخترع هذا التيّار الأدبي فى أمريكا اللاتينية، وعن معناه ، قال رولفو : "إنّ صاحب هذا التيار هو الكاتب الإيطالي " ماسّيمو بونتيمبلي"( القرن التاسع عشر) ، وهو بمثابة مفتاح يعيننا على فهم، وإستساغة أو إستيعاب الأدب الإيبروأمريكي. ويعتقد رولفو بالرّغم من تأكيده على أنه ليس من أنصار التعميم ، أنّ هناك بعض الخصائص المشتركة فى أدب القارة الأمريكية خاصّة فى البلدان التي كان فيها وجود مكثّف للسّكّان الأصليين. لهذه الظاهرة مبرّراتها التاريخية ، فالجماعات السكّانية الأصلية فى القارة الأمريكية تتّسم بهذه الخاصّية. إذ أنّ هناك صراعاً قائماً بين معتقداتها القديمة المتوارثة والمذهب الكاثوليكي، وهؤلاء السكّان لم يقعوا قطّ تحت تأثير هذا المذهب كليّا. فمعتقدهم القديم ما زال قائماً يتجلّى فى مختلف طقوسهم الإجتماعية ،وفى العديد من مظاهر حياتهم اليومية.
يرى رولفو أنّ المواطن الهندي تاريخياً قد أصيب بنوعٍ من المهانة والإحباط من جرّاء ما أُطْلِق عليه جُزافاً وإعتباطاً "الإكتشاف" ثمّ أعقبه "التنصير" فيما بعد ،حيث سلبت منه هويّتَه التي كانت لصيقة بمعتقداته، وموروثاته القديمة ،وشوّهت بالتالي شخصيتَه لرضوخه للسّلطة الغازية، ولم يبق له شئ سوى هذه العادات، والتقاليد التي حافظ عليها أباً عن جدّ.
ويؤكّد رولفو أنّ التأثير البليغ للمعتقدات القديمة الذي نجده فى الأدب الأمريكي اللاّتيني خيرُ دليلٍ على التشبّث بالماضي .ويقول إنّ رواية الكاتب الغواتيمالي الكببير " ميغيل أنخيل أستورياس"(نوبل فى الآداب 1967) التي تحت عنوان: "رجال الذّرة" تحفل بالإشارات العميقة، والرّموز المُبطّنة بهالةٍ من الواقعية السّحريّة المُستمدَّة من العادات القديمة،والتقاليد المُتوارَثة لسكّان الهنود الأصليين ، وتقدّم الدّليل على أنّ مفاهيمهم العتيقة ما زالت قائمة حتى اليوم، وهي ذات جذور عميقة فى عقول الناس وضمائرهم. وهذا الشّعور نقله "الهندي" إلى "المولّد" وإلى الأبيض أيّ الإسباني .وعندما تمتزج الخرافات بالحقيقة ينتج عالم جديد وغريب يعكس عوالم الهنود القديمة ،على الرّغم من المراحل والأحقاب الزّمانية والظروف التي مرّت بها. وهذا ليس مجرّد خيال، بل إنه إستعادة لجذور كان يعتقدُ البعضُ أنّها ماتت، وتلاشت ولكنها لمّا تزل حيّة قائمة ، وهي تظهر فى إبداعاتنا الأدبية حيث نجد مزجاً بين المعتقدات، والأساطير السّحرية، والتعازيم ،والتعاويذ، وهي مع ذلك عالم حقيقي وواقعي، وفى الوقت ذاته عالم سحري ومن ثمّ نصل إلى مفهوم " الواقعيّة السّحرية" فى صيغته الحالية.
أليخو كاربنتيير والواقع الرّائع
ويرى رولفو أنّ السِّحر عند الهنود هو نوع من السّلوك يقدّمون من خلاله نوعاً من التعبير عن الإذعان للطبيعة وقوّاها . وهذا السّحر هو بالنسبة لهم كذلك إستكناه للماضي وبحث عنه. إنّ هذا الحيّز أو المكان الذي يحتلّونه ويعيشون فى كنفه لا وجود لشئ فيه سوى الماضي. فالهنود- مثل الفراعنة- يعتبرون الموت عودة إلى الأصل ، وهذا ما يفسّرعدم خوف الهندي من الموت ، وهذا أيضا سرّ إحتفائه به فى العديد من المناسبات، بل إنّ هناك يوماً فى العام عندهم يُسمّى بيوم الموتى. وهكذا يتلقف الكاتب هذا العنصر القائم بين الواقع والسّحر، ومن هنا يستمدّ هذا التيّار إسمَه. ويضرب رولفو مثلاً بالكاتب الكوبي "أليخو كاربنتيير" الذي تالّق فى هذا الجانب كذلك، فأوجد مصطلحا آخر فى هذا الصدد وهو "الواقع الرّائع" إلاّ أنّ رولفو يوثر، ويفضّل مصطلح "الواقعية السّحرية" نظراً لما يتضمّنه من عودة إلى ماضي السكّان الأصلييّن . فالأدب فى أمريكا اللاتينية وثيق الصّلة، ولصيق بهذا المفهوم ، إذ أنّ هذه الظاهرة غالباً ما تجد مواضيعها فى الأسطورة ،والخرافة، والتاريخ،والسّحر،والغيبيّات بمعانيها الواسعة الطقوسيّة، والجماليّة وفى الإستاطيقا، وينهلُ أصحابه من الينابيع الأولى لشعوب هذه القارّة .
التساؤل الأبديّ.. مَا وَمَنْ نحن ؟!
ويحاول أصحاب هذا الإتجّاه الإجابة عن التساؤل التالي: مَا... وَمَنْ نحن ؟! (للعاقل ولغير العاقل)، فيشير خوان رولفو بخصوص أحد أبطاله فى قصّته المعروفة "بيدرو بارامو" أنّه دائمُ البّحث عن الماضي فى نفس " أناه" وفى جذوره السُلاليّة التي يجسّدها فى طفولته التي تمثل أسعدَ سني عمره، وأرغدَ مراحل حياته .وفي نظر رولفو فإنّ الحضارة الغربيّة على الرّغم من الضغوط التي مارستها على المواطن الهندي ، فإنّها فى الواقع لم يكن لها تأثير كبيرعلى السكّان الأصلييّن ،فقد تركت هذه الحضارة الهندي فى منتصف الطريق، ولم تفلح فى المسعى الذي بدأته منذ خمسمائة عام ونيّف فى طمس شخصيته،وتشويه صورته،وإتلاف تاريخه،وبعثرة عوائدة، وتقاليده، وعاداته، وإقامة قطيعة بينه وبين ماضيه.
الشّعور بفداحة الموقف ،وتجسيم الجمال،والإستبطان الجوّاني عن طريق الحُلم بعيون غير مُغلقة، والتحليق فى عوالمه الفسيحة، هذا الصّنف من الإبداع يدفع القارئ إلى التأمّل، وإعمال النظر،والعودة إلى الينابيع الأولى، والرّجوع إلى الجذور البعيدة، والأحلام،وبقايا الأوشام التي تتراءى للنائم فيما يرى فى أحلامه، تتغلغل فى متاهات الماضي الغابر وثنايا الزّمن الذي ولّى، ومضى، وإنقضى، وذهب لحال سبيله ، ولكنّ آثاره وتأثيراته، وإنطباعاته ما زالت بادية للعيان، وما إنفكّت باقية راسخة فى مخادع القلوب، و عالقة بين طيّات الألسن،وساكنة بين ثنايا الجوارح والألباب، منتصبة ، حيّة، قائمة على ثبج الذّاكرة، و فى غمائس التراث،ونفائس الموروثات، وموضوعة بعناية على رفوف التاريخ عند السكّان الأصلييّن لهذ القارة المعنّاة التي أنجبت العديد من المبدعين فى فنون القول الجميل. والخوض أو الغوص فى متاهات، وسديم الماضي البعيد،كلّ ذلك يصبح عند هؤلاء المُبدعين – ومنهم - مركيز أكثر إيلاماً ،وأمضّ مَضضاً ،وأقسى مَرارةً،وأمرّ حَنظلاً، وأبعد مَراماً.
كتاب من هذا القبيل - على صغر حجمه- يتحتّم على القارئ أن يقرأه بلطفٍ، وتأنٍّ ..عليك أن تحتال وأن تتحايل عليه ،قبل أن تبحر فى يمّ صفحاته، عليك أن تنساب عليها رويداً..رويداً بزورقٍ من ورق، أو بمركبٍ من أَسَلٍ كي لا تفاجئك على حين غرّة الصّفحة الأخيرة من الكتاب دون شعور منك....أسطرُه القليلة تعود بك الزّمانَ القهقرىَ،وتردّك إلى مباهج الطفولة الأولى،ليست طفولتك بل إنّها طفوله بني جلدتك على أديم ثرى تلك الأصقاع النائية فى الجانب الآخر من العالم، إنه يملأ نفسَك ،ومسامَّك ،ووجدانَك،وخيالك،وعقلك متعةً، وإنتشاءً.
كلمات ،وحروف ، ومشاعرسحرية حالمة هائمة تحملك على راحتها، وتعانق الواقع المعاش قديماً،وتغوص بك فى فضاءات أحلام أثيرية فسيحة لا تحدّها حدود، ولا تقيّدها قيود ...باقات ، وأصُص، وأجنحة تطير بك على بساطٍ سحريّ فى الأفق البعيد، وتحوم بك فى الفضاء اللاّزودي البعيد، كلمات منحنية الهيدب والهّامة ،مطأطئة الرّأس والقامة، إكباراً للإبداع الأثيل، والخَلْق الأصيل عند هؤلاء الكتّاب الكبارالذين يفصل بيننا وبينهم بحرٌ زاخر،ومحيطٌ هادر (بحر الظلمات..!) ومع ذلك وصلنا أدبُهم الفريد، وأمتعنا إبداعُهم المتميّز.
بين الدّائرة والفضاء
ولئن عتبتُ على الصّديق مصطفى الحمداوي شيئاً،فى هذا الكتاب، لقلتُ إنّ الذي إسترعى إنتباهي فيه بضربٍ من الشّدوه هو "عنوانه" ،فالعنوان يعتبره غيرُ قليلٍ من الكتّاب، والنقّاد من الأهميّة بمكان، إذ هو مفتاحَ الدّخول ، أو كلمة السرّ فى عالمنا العنكبوتي المتشابك المعاصر،أو عبارة "إفتح يا سم سم" فى الحكاية الألفليليّة إيّاها المعروفة،أو مصباح ديوجين فى حِلْكة الليل، لقد كانت أمنيتي أن يستبدل المؤلف كلمة ( دائرة الواقعية السحريّة) التي توحي بالضّيق،والإنسداد،والإنغلاق، والقيد ،والمحدودية ،والإستدارة بكلمة ( فضاء الواقعية السّحريّة) التي تُوحي بفُسحة الأحلام، والإنفتاح،والسّعة، والتحليق،والتفكير الطّليق، والإقلاع، والسَّفَر، والتّجوال ، والتّرحال، والخيال، والحَوَمَان، والطيران، والإنطلاق فى سرمدية شساعة هذا الكون الأثيري اللاّمحدود،وفى طيّات التاريخ الحافل البعيد زماناً ومكاناً لأجداد أجداد أصحاب هذا الصّنف من الأدب الإبداعي السّحري الجميل،الذين لم يستعملوا ، ولم يعرفوا لا فى تاريخهم ،ولا فى ثقافتهم، ولا فى حضارتهم (لاعند المايا ،ولا الأزتيك، ولا الإنكا ،ولا المُوشيك..) "العَجَلَة " قطّ سوى "عجلة" التقويم أو حَجَر الشّمس لحساب الزّمن، أو "الدوائر" الهندسية، والمعمارية ،والمصوغات الذهبيّة .
ويحضرني وأنا على مشارف الصّفحة الأخيرة من هذه العجالة التعبير البليغ، والتعريف الرّائع الذي سُقته، وإستعملته فى العديد من المناسبات عند تعرّضي لهذا الموضوع فى آداب أمريكا اللاّتينية،والذي قاله ذات يوم قُطْبٌ من أقطاب الواقعيّة السّحريّة فى القارّة الأمريكية كذلك، وهو الكاتب الأرجنتيني المعروف صاحب كتاب (الألف) أولى الحروف العربيّة الذي وضعه عنواناً جميلاً ومثيراً لأوّل مُؤلَّفٍ له ،ولفاتحة باكورة أعماله، إنه المبدع ذُو الرّأي الثاقب، والأدب البديع، والبّصيرة النافذة خورخي لويس بورخيس، عندما قال : " الواقعيّة السّحريّة هي أن تحلم ذات ليلةٍ أنّك كنتَ تتجوّل فى حديقةٍ غنّاء... وعندما تستيقظ فى الصّباح تجد فى يدك وردة..." !! .
*عضو الأكاديمية الإسبانية - الأمريكية للآداب والعلوم - بوغوطا - (كولومبيا).


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.