دعا عبد الله حمودي، عالم الأنثروبولوجيا المغربي، إلى إخراج التمازج من خانة المهملات ما بين مجموعة عناصر أمازيغية، وأيضا ما بين الأمازيغيين أنفسهم، وأمازيغية وعروبية، وما بين عروبيين أنفسهم. واعتبر حمدوي أنه منذ نزوح العرب إلى هذه المنطقة لم يكن هناك برنامج للقضاء على الأمازيغيات، كما تدّعي بعض الأصوات، على عكس بيض أمريكا الذين وضعوا الهنود في محميات. ودعا عالم الأنثروبولوجيا المغربي، في الجزء الثاني من الحوار مع هسبريس، إلى الحفاظ على ما وصفها ب"العملة الصعبة" التي تمتلكها المنطقة، وهي الاندماج والتمازج الذي لا تزال بلدان متقدمة تبحث عنه إلى حدود الآن. الجزء الثاني والأخير من الحوار، مع الأنثروبولوجي المغربي، تطرق إلى بطائق الشرف، وقصته في زيارته إلى مكة عام 1999 والتي توجت بكتاب في الموضوع، وكيف حافظ حمودي عن المسافة ما بين الموضوع المدروس وهويته الشخصية. الآن نلاحظ في سياق حديثك عن الصدام في الكلام بين المكونات السياسية في المغرب بين الأغلبية والمعارضة على المستوى الرسمي بكلام أقل ما يوصف أنه غير سليم، فالحكومة تتنزل لتتخذ لنفسها صورة الضحية والمعارضة تتخذ لنفسها صورة الضحية، ما هو قناع هذه الضحية في السياسة المغربية؟ طبعا القناع ظاهر، يقول السياسي بأني رجل جدي على مستوى الهندام وأنت وصفتني بالسفيه! فالهندام لا يتطابق مع الوصف. فكلام القيادات، خصوصا حزب الاستقلال لا يتطابق مع الهندام. أنا لست مع العدالة والتنمية، والهندام لا يتطابق مع اتهام رئيس الحكومة بأنه عميل موساد. هذا لا يجوز. إذ تصبح البذلة الرسمية قناعا يغطي شيئا آخر ليس في المستوى طبعا. هناك الأخذ والرد: رئيس الحكومة في بعض الأحيان تكون له طريقة تواصل عفوية أو غير عفوية، وهي غير لائقة في حق بعض المعارضين. يمكن لرئيس الحكومة أن يتقنع بالدعابة ثم يجيز لنفسه تجاوزات لا محل لها في ذلك المقام. وأنا أظن أن ليس هناك ضحية. فكل من وضع نفسه في وضعية الضحية، فهو فقط يشحذ سكينه. الضحية نفسها هي شيء خطير يمكن معالجته، لكنها في كثير من الأحيان، وخاصة في المجال السياسي، هي نفسها قناع يغطي السلاح القاتل. أتمنى أن يكون ذلك واضحا. نعود إلى مربط الفرس وموضوع الهوية مرة أخرى، بخصوص هذا الموضوع صدرت عدة كتب وتكاد تجمع في الغرب على وجود أزمة هوية خصوصا مع الموجة الثالثة من العولمة كما يسميها دومنيك فولتون حيث عودة الأديان والثقافات والإثنيات..إلخ، هل ترى أن المغرب يعيش بوادر أزمة هوية؟ سؤال صعب شيء ما. دعني أحدثك عن المغرب أولا، علي أن أجيب في مستوى آخر عن أوروبا أو ما يسمى الغرب. في المغرب، وكيفما صنفت الأشياء، فإنك تجد اليوم تنظيمات وأفرادا وجماعات يدافعون عن هوية ثقافية وعن حقوقهم السياسية. أقول إن هذه التنظيمات تنتمي مثلا إلى جماعات أو تنظيمات أمازيغية، وهي ظاهرة هوياتية كما أصنفها. هل تجدرت في الساكنة التي تنطق بالأمازيغية؟ ليس لدي مؤشر على هذا المستوى، لكن لدي مؤشر آخر كتنظيمات لديها تأثير في المجتمع والدولة أخذت برأيهم في مجموعة من الأمور مثلا ترسيم اللغة في الدستور أو فتح معهد للدراسة، فالهوية شيء غريب. يمكن ألّا تكون أزمة هوية، لكن لما تقوم جماعات بالدفاع عن موضوع معين كالدفاع عن اللغة العربية ليس فقط ضد اللغة الأمازيغية، ولكن ضد ما يسمى اللوبي الفرانكفوني، وطبعا إذا تحركت ضد المؤامرة الفرانكفونية ربما سيتجمعون في شكل تنظيمات ومجموعات نشيطة. إذن أنت تخلق ذلك اللوبي. وهناك تجمعات جهوية أخرى باسم التنمية وأخرى باسم انتماء معين، كشبكة اتصال للذين يعتبرون أنفسهم من أصول أندلسية. هل نعتبر كل هذه المؤشرات بوادر أزمة؟ بالنسبة لي، هذا شيء عادي، لكن إذا لم نعرف كيف نتعامل مع هذه الحياة الجديدة، فإن هذه البوادر سوف تتأزم . أظن أن المشكل هو في التعامل، مثلا إذا كنت تخطب في منبر ما وتقول انظر ما وقع للتوتسي والهوتو كما فعل الريسوني وتدق ناقوس الخط، فأنت تأتي بالخطر. إذا شبهت بهذا المثال، فأنت تسقط القضية على ما وقع في حالة التوتسي. الخلاصة هي أن لنا اليوم شعورا في بيئات معينة بقيمة لغة وثقافة لتدوينها والدفاع عنها، ويمكن للدولة الوطنية الدفاع عنها في ما سميته بالتنافس الإيجابي المبني على التحاور وعلى الإمكانيات والمساعدات التي يمكن أن تساعدك على تطوير لغتك وتدريس العربية والأمازيغية حتى لا نبقى منغلقين على الأخر. مثلا، كنت أرى لما كنت أجري أبحاثي الميدانية في الواحات الجنوبية والأطلس أن الموظفين لا يعرفون أي كلمة من الأمازيغية. كان لابد من مترجم، لو قمنا بتدريس اللغة في السلك الإداري لما احتجنا إلى ذلك. ويمكن أن يحصل اطمئنان. على كل حال، لا أظن أننا في أزمة، بعد حوالي نصف قرن من حكم الدولة الوطنية بعد الاستعمار هناك تيارات تنادي بإعادة تعريف معنى الوطن والوطنية والقومية. وهذا شيء يغني الساحة الثقافية والسياسية، إذا تعاملنا معه كشيء عادي، أي كديمقراطيين، وهو يساعد على التنافس الإيجابي لكن أقول للذي ينادي بالأمازيغية تعال اعتن كذلك بالعربية لأنها لغتك كذلك، فهي طرف منا والأمازيغية طرف منا. فالتراث الأمازيغي في القرون الوسطى مكتوب بالعربية، وأنت تعرف ذلك، مثلا كتاب شهير للهزالي اسمه "بحر الدموع" هو للوعظ تم تدوينه بالحروف العربية، هذا هو التنافس الإيجابي. ولكن بعض الأمازيغ يتهمون الحركة الوطنية بأنها كانت ذات نزوع قومي عربي، ودفعت في تهميش وإقصاء الثقافات الأخرى ومنها الأمازيغية؟ لا أظن أن هذا صحيحا، ولا أظن أن كل التيارات القومية عندنا في البلاد همشت الأمازيغ، لكن هناك تيارات قوية داخل القومية المغربية العربية كانت تهمش الأمازيغ، وأنا أحكي حكايات في كتابي، هناك كتاب معروف ولا يعرفه أحد كتبه مهندس وهو يعيش في الخارج الآن، وأصله من الهضاب المنطقة الشرقية بالمغرب، اسمه بريك أوسعيد، ويقول في كتابه (les coquelicots de l'oriental) بأنه لما كان تلميذا، وكتب هذا الكتاب قبل المناداة بالأمازيغية والكتاب كتبه صاحبه أكثر من ثلاثين سنة مضت ويحكي عن حياته، ويقول بأن المعلم في المدرسة أيام الاستعمار كان إذا وجد أحدا من التلاميذ يتحدث بالأمازيغية يقوم بتحميله (ضربه على رجليه بمساعدة الأقران من التلاميذ)، وأظن أن هناك تيارا قوميا، وهو شوفيني معروف وخاصة كانت له اليد الطولى في برامج التعليم والتربية، وهنا ينبغي أن نعترف بذلك، وهذا ليس مشكلا أن نعترف وبعد ذلك نصلح الأخطاء... نصلح ولا نقصي. الحركة الوطنية كان تتكون من عرب وأمازيغ، المسؤولية تقع على الجميع، فلماذا سكت الأمازيغ عن هذه الأخطاء، حسب تعبيرك أستاذ؟ أنا أقرأ المختار السوسي، وأنا كتبت في هذا الموضوع، فالمختار السوسي أمازيغي ولكنه بدون أي تردد يقول: ولما تعلمنا هذه اللغة وذقنا حلاوتها تشبثنا بها، طبعا في الحركة الوطنية لم تكن هذه الخلفية موجودة، والأمازيغ أنفسهم لم يتهموا الحركة الوطنية التي كانت تناضل من أجل الاستقلال بالإقصاء. ويظهر أنه لم تكن هناك مؤشرات للإقصاء، لكن كان ذلك زمان، وبعد الستينات والسبعينات جاء زمن جديد شهد سياسات تعليمية وسياسات وطنية للتنمية أعطت الانطباع لفئات كثيرة من الأمازيغ بأن ثقافتهم ولغتهم مهمشة، وهي التي كانت تدرس إبان الاستعمار، لكن بعد الاستقلال تم الاستغناء عنها. وهناك من قال بأن هذا الأمر في عهد الاستعمار كان بهدف التفرقة، وهذا صحيح، لكني أقول دائما ما ورثنا عن الاستعمار ليس كله غير صالح ولا يمكن استعماله بعدئذ، لقد ورثنا عن الاستعمار أشياء كثيرة منها المدرسة واستعملناها، فكون الأمازيغية كتبت أيام الاستعمار أو تم التدريس بها إبان الاستعمار، فهذا لا يمنع الفئات الشابة من أن تعيد استعمال ذلك الأصيل بأهداف جديدة. في حديثك عن الثقافة العربية والأمازيغية تدعو إلى إخراج التمازج من خانة المهملات والمهمشات لأجل تحرير الخطاب السياسي، لكن نلحظ أن الدولة سعت إلى إنشاء مؤسسات، مثل مؤسسات خاصة باللغة العربية وأخرى باللغة والثقافة الأمازيغية، وهذه المؤسسات لعبت دورا مهما في إصدار منشورات ومطبوعات على مستوى المعرفة، ولكن هذه المؤسسات لا يمكنها أن تلغي التعدد الموجود في كل هوية على حدة، في الهوية الأمازيغية تتشكل من أمازيغيات، داخل الهوية الدينية نفسها هي- أيضا تتكون من هويات مختلفة وفي الهوية العربية أيضا وهكذا دواليك.. كيف يمكننا أن نخرج هذا التمازج في ظل وجود هذا التشظي الهوياتي داخل الهوية الواحدة نفسها؟ ولكن هذا التمازج حصل بين هويات، وبين عناصر مختلفة، فالجواب في جملة: هو أن التمازج والتلاقح يمكن أن يحصل مع الخلاف والاختلاف، مع من يخالفك، ربما يحصل الخلاف بين الإنسان وزوجته، وهي أقرب الناس إليه، وهذا ليس فيه إشكال، لأن الخلاف مع طرح الأسئلة المحرجة يعطيك حيوية أكثر ومجهودا في التفكير من أجل إيجاد الحلول. عندما أتحدث عن التمازج لا يعني هذا أنه لا يتمازج سوى المتشابه، أبدا، فالتمازج يقع مع المختلف، ودينامية الحياة هي أخذ ورد، وإذا أتاها السكون حصل الموت الفكري والعضوي، فالتمازج الذي أقصده في الكتاب هو تمازج مجموعة عناصر أمازيغية، وأيضا ما بين الأمازيغيين أنفسهم، وأمازيغية وعروبية، وما بين عروبيين أنفسهم. ثم دعني أقول لك شيئا آخر: إن تمازج المنطقة، أقصد منطقتنا ما بين المحيط الأطلسي إلى الخليج، هذه المنطقة تتوفر على عملة صعبة لم يتم التفكير فيها إلى حدود الآن وهي: التمازج. أوربا تتعلم التمازج الآن، ولها صعوبات كبيرة، هم الآن لا يزالون يقصون الناس لألوانهم أو لدينهم أو لأشكال أخرى، فمنطقتنا هي أول منطقة عالمية التي عملت بالتمازج، وهذه هي العملة الصعبة التي نمتلكها نحن في منطقتنا، ويجب أن نعود إليها ونستعملها ونفتخر بها، هذه عملة صعبة، لأنه في أمريكا حصل التمازج بالقوة والعنف إلى درجة أن يطلق النار على الآخرين بسبب جنسهم أو عرقهم أو شيء من هذا القبيل، فهذه المنطقة من هذا العالم هي لا تجبر المناطق الأخرى على التمازج على عكس أوربا التي لم تمارس التمازج إلا اليوم وتجد صعوبة كبيرة في ذلك. في جنوب الصحراء لم يحصل فيها التمازج، تذهب إلى مكة وتنظر إلى الناس الذين يسكنون في مكة، وهنا لا أتحدث عن الحجاج، وتجد أناس مكيين من أصل صيني جاؤوا منذ قرون للحج والتجارة ولن تجد أحدا يقول لهم أنت عرقك صيني أو أن يتحدث عن أصله. طبعا لا ننسى أن الإسلام لعب دورا مشرفا بالرغم من أن في التاريخ الإسلامي كان هناك الرق وأشياء من هذا القبيل، لكن الإسلام باعتباره ديانة شرعت الزواج من الرقيق سواء سودا كانوا أو بيضا. كما أن فقرات من الكتاب [يقصد كتابه الأخير الحداثة والهوية] تقول بأنه منذ نزوح العرب إلى هذه المنطقة لم يكن في حدود علمي برنامج منهج للقضاء على الأمازيغيات، أما إذا فكرت في أمريكا ترى أن البيض أتوا ووضعوا الهنود في محميات، وقضوا عليهم وأبادوهم، والثقافة التي تم نشرها هي الإنجليزية فقط، ولا وجود للغات الأخرى.. طبعا في بلداننا أصبحت اللغة العربية هي السائدة بالنسبة للدين والثقافة المكتوبة والإدارة، لكن لا تجد برنامجا إداريا أو عسكريا يشبه برنامج الاستعمار الأوربي الذي يقضي ويبيد، وإن لم يُبد فإنه يحبس تلك الجناس في محميات. صدر بلاغ مشترك ما بين وزارة الداخلية ووزارة العدل والحريات حول منع بطاقة الشرفاء، هذا القرار أثار نقاشا بين الجمعيات المعنية بالموضوع، منها من طالب بمنع البطائق من المنتحلين للشرف، ومنها من هدد بالتخلي عن البطاقة الوطنية إن لم يحصل حل مرض بين الحكومة وهذه الجمعيات، السؤال هنا: الشرف هو أحد محددات الهوية بالنسبة للنظام السياسي بالمغرب، فهل يمكن التنازل عن أهم محدد للهوية بالنسبة للنظام السياسي المغربي؟ أنا لم أتابع بتدقيق ما يجري في ساحة الشرف، المشكل هو إذا كان الشرف وتحديده في البطاقة الوطنية مرتبطا بامتيازات.. ليس المقصود البطاقة الوطنية، بل وجود بطائق خاصة بالشرف لدى مجموعة من الأشراف، والحكومة قررت منع البطائق. أستسمح، نعم أنا أخطأت. لم أتابع هذه النقطة. هذه البطائق تساهم في الفوارق ما بين المجتمع الواحد.. فالجمعيات الحقوقية استقبلت هذا القرار بارتياح بينما جمعيات الشرفاء شهدت نقاشا حادا حول الموضوع. هذه القضية فيها التباس كبير، إذا رجعت إلى العادة القديمة لم تكن فيها بطائق الشرف، هذا شيء حديث جاء مع الحداثة، من قبل كان الناس يتعرفون على من هو شريف في الدواوير والقرى ثم ينعتونهم باللقب، وكانت هناك امتيازات، وكان الشرفاء موقرون بإعفائهم من بعض الضرائب أو الخدمات التي كان الآخرون مجبرين عليها، أي خدمات المخزن، وكان هناك ظهائر تسمى ظهير التوقير والاحترام، تجدها إلى حدود الآن. أنا أظن أن البطاقة لا معنى لها، وكل مواطن له الحق في التشبث بشجرة عائلته، وأنا أنادي بالحرية، فمن أراد أن يعطي للشرفاء ميزة في التسمية الشفوية اليومية على مستوى العلاقات فلا مشكل، وهو حر طبعا، ومن لم يُرد ذلك فله الحرية بإلغاء ذلك في معاملاته، وأنا مثلا في معاملاتي الخاصة لا أتصرف بلقب الشريف أو بلقب مولاي، وتبقى القضية الدينية أو قضية الملكية، ولكل له الحق في الإيمان، إذا قلت صلى الله عليه وعلى آله وسلم تسليما، فمن هذا تستنتج شيئا من التقدير لآل البيت، لكن هذا التقدير والاحترام شيء، والامتياز السياسي المادي والاقتصادي شيء آخر، فهذا الامتياز بالنسبة لي هو ضد القانون، مع أني يمكن لي كمؤمن وكرجل عاد أن أعترف لآل البيت بميزة خاصة وخير، لكن ممكن أن تعترف بذلك من دون امتياز سياسي في الانتخابات أو في فرص الشغل أو في أي شيء. يمكنني أن أعترف بآل البيت باعتباري مؤمنا ولكن إذا رسب في امتحان فسأجازيه بنقطة الصفر كباقي الناس. بالنسبة للأسرة المالكة، فأنا أظن أن الأسرة من آل البيت المقربين، فيمكن للناس احترام الأصل، ولكن في مقابل ذلك لا تنازل في نقد السياسات والممارسات، بحيث أن الإنسان سواء كان عاديا أو غير ذلك يمكن أن يكون شريفا ويرتكب أفعالا لا تطاق، فلا تنازل في نقد هذا أو متابعته قانونيا، ولكن في مقابل ذلك أن أعطيه ميزة من منطلق إيماني أن له مكانة خاصة في قلبي وفي اعتقاداتي لأنه من نسل الرسول، وهذا شيء والشيء الأخير أن الحرية والديمقراطية تدعو لاحترام حقوق باقي الناس الذين لا يؤمنون بهذه الموضوع إلى درجة أن يجهروا بنقدهم. لنا الحق في الاعتراف وللآخرين الحق أيضا في عدم الاعتراف بها، وهو حق سياسي دون سب أو شتم أو إهانة أو أي شيء من هذا القبيل، وهذا ليس مقبولا طبعا. أنا مع العرف القديم بحيث يتعرف الناس في الحي وفي أي مكان عن السلالات .. تقول في كاتبك الحداثة والهوية ص 165، 166 أنك تتبنى موقفا معرفيا أساسه جعل مسافة نقدية بينك كباحث وبين الظواهر التي تريد تحليلها، وقد تعترضك صعوبة بناء تلك المسافة خاصة عندما يتعلق الأمر بظواهر ثقافية واجتماعية نشأت في أحضانها وتربيت عليها، كما تقول أيضا في خاتمة الكتاب وبالحرف: "هذا ما يأمله كاتب هذه السطور المتشبث بهويته العروبية والمساند لحقوق الهوية الأمازيغة.. نعم.. السؤال: زرت مكة سنة 1999 تُوجت هذه الرحلة بكتاب حكاية حج موسم في مكة، ما هي المسافة التي كانت فاصلة ما بين انتمائك لهويتك وبين مهمتك كباحث؟ هذا سؤال صعب جدا. سبق لي وأن تحدثت عن المسافة في الأنثربولوجيا، بالنسبة للكاتب الأنثربولوجي المنتمي إلى صميم هذا الموضوع، ويمكن الرجوع إلى الكتاب على المستوى النظري [يقصد كتيب في إعادة صياغة الأنثربولوجيا، منشورات جامعة محمد الخامس، أكدال]. جوابي فيما يخص الذهاب إلى الحج، هو كالتالي: منذ سنوات وأنا أفكر واستعمل تلك المسافة في تشخيصاتي في الواقع المغربي، ليس الاجتماعي منه فقط، بل اشتغلت في ليبيا قديما وفي السعودية، فهذي خبرتي المهنية فيما يخص الموضوع، ومن هذي التجارب حاولت أن أبني المسافة، ولكن المسافة فيها حميمة في الوقت نفسه، وهذا الوضع مفارق، ومنهجيتي تستند على ذلك الوضع المفارق الذي يجعل الحميمية تطغى علي أحيانا، لكن أتذكر المسافة فأرجع قدما إلى الوراء وأحاول التشخيص والوصف والتحليل. في مكة كانت التجربة قاسية، كانت التجربة أعمق، لأنها جاءت بعد مسار من البحث لعدة عقود بنيت فيه تلك المسافة بحميمية، وهنا يمكن لي أن أتحدث لك عن ماهية الآليات. في تجربة مكة كانت هل ما بين نعم أولا : لا تحفظ في التخشع، لا تحفظ في الشعور، ولا تحفظ في ولوج الأماكن والشعائر، بحيث إذا قادتني التجربة إلى التخلي عن البحث، فإني سأتخلى عنه، وهذا كان موجودا لدي من أول البحث، وكان بعض أصدقائي من الأطلس الذين كانوا يعرفونني واثقين من ذلك، فهذه تجربة حياة، والأنثروبولوجيا هي شغل فقط، والحياة أوسع وأقسى من التجربة الأنثربولوجية. لذلك كنت في تلك الحميمية وجربت فيها هل تقضي تلك الحميمية على طاقتي في الوصف، والوصف لا بد له من مسافة. فكنت أقوم بالشعائر ثم أرجع إلى مقامنا فأكتب، وكانت الكتابة نفسها هي التي تعيد إقامة المسافة، حيث تكتب فأنت تفكر ماذا رأيت، وكان على خلاف ذلك بعض الناس الذين يجاورونني في الغرفة فيتساءلون، فأقول لهم هذا شغلي الشاغل، فكانت لهم تخوفات في البداية، وبعد ذلك كانوا يسألونني عما كتبت فأجيبهم بأني كتبت هذه الأمور، فيقول لي رجل أو امرأة بأن هناك جوانب نسيتها، ثم يدلونني علي أشياء، وكانوا يعلقون بأن هذا الحدث وصفته في مسجد ولكن هناك في الطرف الآخر من المسجد كانت على غير ذلك. وهكذا أصبحت مناقشتي معهم تكسبني المسافة بعد حميمية الشعائر. هذا هو الوضع. وضع مفارق بطبيعة الحال. وكانت المغامرة تجربة بما تعني الكلمة من معنى بأنه إذا كان هناك تناقض وتجربتي تملي علي التخلي عن مهنة الوصف والتحليل فسأتخلى عنها، ولكن هذا الأمر لم يحصل... يعني تغلبت في المحافظة على المسافة بالرغم من حميمية الفضاء؟ نعم، وأنا كتبت الكتاب كما تلاحظ، وهذا يعني أنه ليس بشيء مذهل أن يخرج الكتاب، لأن كان هناك الحجاج الذين كتبوا عن الرحلات الحجازية، وأنا قرأت عن هؤلاء الكثير منها، مثل رحلة أبي سالم العياشي للناصريين ولغيرهم، كانت لدي مجموعة من الرحلات التي قرأتها، ولابد في عملية أن تتملك المسافة، فالكتابة مثل الكاميرا، حيث تكتب وتصف فإنك تصبح وكأنك تعمل بكاميرا، عندك مسافة مع الشيء الذي بصدد تصويره، وكانت التجربة طبعا عن قناعة، وهذا الأمر غير الكثير من الأحاسيس الوجدانية وفلسفتي في الوجود. والحاجة الثانية هي آليات المسافة، أي تخلق مسافة في ظل الحميمية، أنت مغربي وتصف أشياء وتحللها، هذا صعب جدا. أول شيء انتبهت إليه منذ البداية وهو التخلي عن البديهيات، أي شيء يظهر وكأنه بديهي يبدأ التساؤل حوله، تسائله، ثم تتعود على ذلك، وهذا صعب جدا، صعب لأنه في بعض الأحيان يجعل لمعيشتك جهدا مضنيا لأنك تعيش حياتك اليومية في راحة ما دامت الحياة اليومية تستند على بديهيات، هذا أولا، أما الأمر الثاني فهو يتعلق بالاطلاع والاستقصاء لحضارات أخرى، وقضيت حياتي أقرأ الكتب عن القبائل القديمة والمجتمعات القديمة في أفريقيا وفي الأدغال الأفريقية وفي آسيا وأستراليا والهند وقبائل الهنود القديمة في القارة الأمريكية.. وقضيت سنوات أقرأ وكنت أطلع عن كيفية أن يتزوج هذا وما معنى الرق عند هذه المجموعة؟ هل يتقابلون في السوق؟ كيف يدفنون موتاهم؟ فأجد منهم من يدفن أمواته وهو قاعد، ومنهم من كان يأكل الأموات، ومنهم من كان يدفن الأموات مرتين، يدفنها في المرة الأولى ثم يخرجها بعد وقت محدد، ويزيل عنا اللحوم ويغسل العظام ثم يعيد دفنها، هذه التجربة تجعلك تعاود النظر في تجربتك أنت. كيف تأكل وكيف تلبس وما هو السر في الاختلاف، إذن هذه القراءات المتعددة باعتبارها سفرا في بلدان أخرى تغير نظرتك إلى بلدك. هذا جهد مضن، وهنا قلب الأنثروبولوجيا، أي أن تستقصي التعرف الوطيد والمدقق على كيانات مجتمعية أخرى وعلى دياناتها وقيمها وممارساتها، فترى من زاوية تلك الأشياء تعيد النظر في أشيائك. والحاجة الثالثة تتعلق بالتاريخ طبعا، وأقدم مثالا آخر يتعلق الأمر بموضوع الإعدام الذي يتحدث حوله الناس هذه الأيام، وهناك من يقول بأن الإعدام غير إنساني ومنهم من يقول عكس ذلك، فتذكرت شيئا كنت قد وقفت عليه لما كنت أمارس البحث في موضوع سوسيو- اقتصادي في واحات درعة، وبالضبط في واحة اسمها "مزكيطة" وعاصمتها اليوم هي أكدز. فكنت أشتغل على برامج التنمية الاقتصادية في مكتب الري وأقوم بالأبحاث في التنمية، وكنت أجالس الناس بصدد مناقشات، وحصلت مناقشة يوما حول القاتل وكيف يتصرفون حيال جريمة القتل، ففسر لي رجل في الجماعة، أنه في قديم الزمن، وفي فترة محددة هناك، كان القاتل يهرب من مكان الجريمة في خفية الليل إلى ضريح محدد ومعروف، فيصبح "مزاوك" أو ما يسمى ب"الزواك" واليوم يقول الناس: أنا مزاوك. ولا يمكن أن يمسه أحد، ولا يمكن لأحد أن يثأر منه وهو في حالة "الزواك" بالضريح، وبعد ذلك تتم الاتصالات بين عائلة القاتل والمقتول وتشرع المفاوضات شيئا فشيئا حتى يتوصلون إلى قدر الدية، وحين يتفقون تكون الوليمة ويحصل التصالح، ولكن القاتل يقومون بتغسيله ويضعون له الحناء، ويمر من طقوس عديدة، وعندما يتم الاتفاق حول الدية يعود إلى القرية ليعيش بين ذويه، وإذا عاود ارتكاب الجريمة فستشتعل الحرب بين القرى، وهنا يذهب به أهله إلى إحدى الشعاب البعيدة عن القرية، وفي جانب الجبل، ويتكفلون بقتله. هذا بالنسبة لي نموذج فكر جماعي، وفي هذا الفكر الجماعي تجد أن القتل أو ما يشبه الإعدام يكون آخر حل يلجأ إليه الناس، لكن في البداية حين يتم "الزواك" ويتفاوض الناس حوله لا ييأسون من إنسانيته ومن إمكانية أن "يتوب" ويرجع إنسانا عاديا حيث تساعده الطقوس في أن يغتسل من أخطائه، وأن ينسلخ عن نفسية المجرم والقاتل ويعود إنسانا عاديا. وأعطاني الرجل أمثلة كثيرة حصل فيها القتل عن عمد أو غير عمد بسبب نقاش حاد أو خصام وعملوا بتلك المسطرة. هذا ما وددت أن أقوله في مسألة المسافة، وأنتم الآن أعماركم تتجاوز الثلاثين، أنا أقول لكم هذا وتشعرون بأن هذا شيء غريب، وإذا قرأت عوائد أخرى لنفس مجتمعك، فهو في ملكك ولكن تشعر أنه أبعد منك ما يكون بالنظر إلى المسافة. خذ مثلا، هناك صور للسياف وهو يعلق الرؤوس في باب المحروق بمدينة فاس، إذا رأيت اليوم هذه الصور يمكنك أن تقول بأن زمن الحدث قد تجاوز القرن أو أكثر من عشرة قرون، فالصورة أصبحت أجنبية بالنسبة لكم وكأنها تنتمي إلى ثقافة أخرى، وإلى شعب آخر مع أنها منك، فكيف تشتغل في التاريخ أو في وقائعه لتقف على ذلك الاختلاف الذي هو اختلاف في قعر دارك. فهؤلاء الناس الذين كانوا يعلقون الرؤوس هم من دمي ولحمي، لكنهم في موقع آخر بالنسبة لممارسة اليوم ولعقلية اليوم. هذا ما يجعلك تبني المسافة دائما.